أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 23rd November,2001 العدد:10648الطبعةالاولـي الجمعة 8 ,رمضان 1422

أفاق اسلامية

حالنا مع رمضان
الشيخ علي بن جدوع السهلي
الحمد لله والصلاة والسلام على خير عباد الله الحمد مغنم والظلم مغرم وخير المقال ما صدقته الفعال ولا خير في عقل بلا فكر ولا فكر بلا علم ولا علم بلا عمل ولا عمل لا يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وبعد:
أيها الإخوة تطوى الليالي وتنصرم الأعوام فمن الناس من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وإذا بلغ الكتاب أجله فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ومن يعش فإنه يرى حلواً ومراً فلا الحلو دائم ولا المر جاثم، والآلام تكون من بعد زوالها أحاديث وذكرى ولا يبقى للإنسان إلا ما قدّم زاداً للحياة الأخرى، يشيب الصغير ويهرم الكبير وينتظر المرء ما قدمت يداه وكل يجري إلى أجل مسمى، كل الناس يغدو في أهداف وآمال ورغبات وأماني ولكن أين الحازمون وأين الكيسون، أيها الإخوة: لقد أظلكم شهر عظيم مبارك كنتم قد وعدتم أنفسكم قبله أعواماً ومواسم ولعل بعضنا قد أمل وسوّف وقصّر، فها قد مد له في الأجل ونسئ له في العمر فماذا عساه أن يفعل.. إن بلوغ رمضان نعمة كبرى يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون إن واجب الأحياء استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة إنها إن فاتت كانت حسرة ما بعدها حسرة، أي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في مساءلة بينه وبين جبريل الأمين من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحه، من حرم المغفرة في شهر المغفرة فماذا يرتجي، إن بلوغ الشهر أمنية كان يتمناها نبيكم صلى الله عليه وسلم ويسأل ربه حتى كان يقول اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، إن العمل الجاد لا يكون على تمامه ولا يقوم به صاحبه على كماله إلا حين يتهيأ له تمام التهيؤ فيستثير في النفس همتها ويحدوه الشوق بمحبةٍ صادقة ورغبة مخلصة، وفي مقام الاستقبال والترحيب بشهر رمضان المعظم يقول عليه الصلاة والسلام مخاطباً أصحابه وأمته من بعدهم: «أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحبا به وأهلا»، أخرجه البزار والبيهقي. وفي حديث عبادة: «أتاكم شهر رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه برحمته ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء ينظر الله إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيراً فإن الشقي من حُرم رحمة الله»، رواه الطبراني، في استقبال شهر الصوم تجديد لطيف الذكريات وعهود الطهر والصفاء والعفة والنقاء ترتفع عن مزالق الإثم والخطيئة، إنه شهر الطاعات بأنواعها صيام وقيام وجود وقرآن وصلوات وإحسان تهجد وتراويح وأذكار وتسابيح له في نفوس الصالحين بهجة وفي قلوب المتعبدين فرحة وحسبكم في فضائله أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، رب ساعة قبول أدركت عبداً فبلغ بها درجات الرضا والرضوان، في الصيام تتجلى عند الصائمين القوى الإيمانية والعزائم التعبدية، يدَعون ما يشتهون ويصبرون على الحرمان مما يشتهون. في الصيام يتجلى في نفوس أهل الإيمان الانقياد لأوامر الله وهجر الرغائب والمشتهيات يدَعون رغائب حاضرة لموعد غيب لم يروه إنه قياد للشهوات وليس انقيادا لها، في النفوس نوازع شهوة وهوى وفي الصدور دوافع غضب وانتقام وفي الحياة تقلب في السراء والضراء وفي دروب العمل خطوب ومشاق ولا يدافع ذلك إلا بالصبر والمصابرة ولا يتحمل العناء إلا بصدق المنهج وحسن المراقبة وما الصوم إلا ترويض للغرائز وضبط للنوازع، والناجحون عند العقلاء هم الذين يتجاوزون الصعاب ويتحملون التكاليف ويصبرون في الشدائد تعظم النفوس ويعلو أصحابها حين تترك كثيراً من اللذائذ وتنفطم عن كثير من الرغائب والراحة لا تنال ولا يكون الوصول إلى المعالي لا على جسور التعب والنصب ومن طلب عظيماً خاطر بعظيمته وسلعة الله غالية وركوب الصعاب هو السبيل إلى المجد العالي والنفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام إن عبّاد المادة وأرباب الهوى يعيشون ليوم حاضر يطلقون لغرائزهم العنان إذا أحرزوا نصيباً طلبوا غيره. شهواتهم مسعورة وأهواؤهم محمومة ونفوسهم مأفونة « ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون». يجعلون مكاسبهم وقوداً لشهواتهم وحطباً لملذاتهم ويوم القيامة يتجرعون الغصة «ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون» وما فسدت أنظمة الدنيا إلا حين تولت عن توجيهات الديانة وتعليمات الله« فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم»، إنها الأنعام السوائب والضوال من البهائم تفعل ما تحب وتدع ما يضايقها لا تنازع عندها بين شهوات وواجبات، وحينما يقود الإنسان رشده فإنه يحكم رغائبه وإلا فهو إلى الدواب أقرب بل إنه أضل « أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً». ولعلكم بهذا أيها الإخوة تدركون أسراراً من التشريع في الصيام، فهو الضبط المحكم للشهوات والاستعلاء على كثير من الرغبات، انه زاد الروح ومتاع القلب تسمو به همم المؤمنين إلى ساحات المقربين يرتفع به العبد عن الإخلاد إلى الأرض ليكون أهلاً لجنةٍ عرضها السماوات والأرض. عباد الله: جدير بشهر هذه بعض أسراره وتلك بعض خصاله أن يفرح به المتعبدون ويتنافس في خيراته المتنافسون أين هذا من أناسٍ استقبالهم له تأفف وقدومه عليهم عبوس لقد هرم فيه أقوام فزلت بهم أقدام اتبعوا أهواءهم فانتهكوا الحرمات واجترؤوا على المعاصي فباءوا بالخسارة والتبار، في الناس من لا يعرف من رمضان إلا الموائد وصنوف المطاعم والمشارب يقضي نهاره نائما ويقطع ليله هائماً. وفيهم من رمضانه بيع وشراء يشتغل به عن المسابقة إلى الخيرات وشهود الصلوات في الجماعات فهل ترى أضعف همة وأكسد بضاعة ممن أنعم الله عليه بإدراك شهر المغفرة ثم لم يتعرض فيه للنفحات. أمة الصيام والقيام اتقوا الله وأكرموا هذا الوافد العظيم، جاهدوا النفوس بالطاعات، ابذلوا الفضل من أموالكم في البر والصلاة.استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله جددوا العهد من ربكم وشدوا العزم على الاستقامة فكم من مؤمل بلوغه اصبح رهين القبور. فاتقوا الله عباد الله فها هو من طالت غيبته قد حل فيا غيوم الغفلة تقشعي ويا قلوب المشفقين اخشعي ويا جوارح المتهجدين اسجدي لربك واركعي وبغير جنان الخلد أيها الهمم العالية لا تقنعي. طوبى لمن أجاب وأصاب وويل لمن طرد عن الباب ها هو الشهر الكريم يحل بالساحات فاستعدوا واجتهدوا في المواسم والفرص فما أكرم الله أمة بمثل ما أكرم به أمة محمد صلى الله عليه وسلم. في هذا الشهر ذنوب مغفورة وعيوب مستورة ومضاعفة للأجور وعتق من النار يجوع الصائم وهو قادر على الطعام ويعاني من العطش وهو قادر على الشراب لا رقيب عليه إلا الله يدع طعامه وشرابه وشهواته لأجل الله تبارك وتعالى الألسنة صائمة عن الرفث والجهل والصخب والأذان معرضة عن السماع المحرم والأعين محفوظة عن النظر المحظور والقلوب كافة لا تعزم على إثم أو خطيئة في النهار عمل وإتقان وفي الليل تهجد وقرآن، صحة للأجساد وتهذيب للنفوس وضبط للإرادات وإيقاظ لمشاعر الرحمة وتدريب على الصبر والرضا والاستسلام لله رب العالمين فاجتهدوا رحمكم الله واعرفوا لشهركم فضله وأمنوا وأبشروا. يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهر رمضان شهر القرآن والفرقان شهر كتاب الله منار الهداية ومنبع السعادة والطريق إلى الحسنى وزيادة«شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان» قرآن وفرقان يملأ العقول حكمة والقلوب طهارة والنفوس انشراحاً وبهجة وفي شهر رمضان أيها الإخوة فرقان من نوع آخر فرقان بين الحق والباطل، فرقان بدر المعركة الكبرى «إن كنتم آمنتم بالله وما نزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان» وفي رمضان فرقان الفتح فتح مكة ذلكم الذي علت به كلمة الدين ومنه انطلقت فتوحات المسلمين، إلى الشرق والغرب، فرقان بدد الظلمات وانتشرت به الهدايات. أيها المسلمون ان شهر رمضان شهر جهاد ومعارك شهر انتصارات وبطولات للمسلمين فيه كانت تبعث السرايا وتجهز الجيوش وتخاض المعارك، الدعوة إلى الله فيه قائمة بقوتها، في رمضان هدمت أصنام لأهل الجاهلية كبرى اللات ومناة وسواع فيه هدم مسجد الضرار فيه وفدت وفود تعلن اسلامها انه رمضان الايمان والقوة والدعوة. وفي رمضان أيها المسلمون كانت معارك فاصلة في تاريخ الاسلام ظهر فيها الحق وزهق الباطل وارتفعت راية لا إله إلا الله، فيه كانت غزوة بدر أول معركة ينتصر فيها المسلمون، وفيه كان فتح مكة فارتفعت رايات الحق وعلا فيه التوحيد مكان الشرك والإيمان محل الكفر وفيه كانت معركة عين جالوت التي دحر فيها التتار وأعيدت لبلاد المسلمين هيبتها بعد أن ذلت وهانت وبلغت أقصى درجات الضعف والانحطاط. إن حقا علينا ونحن نستقبل هذه الأيام المباركة أن نحمد الله ونشكره ونعرف لربنا فضله ونعمته ونحن نعيش في أمن وأمان وعيش رغيد: ولكن أيها الأحبة هل فكرنا ونحن يحل بنا هذا الشهر الكريم في إخوان لنا حلَّت بهم ظروف ووقعت بهم نكبات ودالت عليهم الأيام هل تأملت أخي الكريم بارك الله فيك وفي أهلك وحفظ عليك شملك هل تأملت كم في الناس من فقراء ليسوا بأقل ذكاء من الأغنياء وبؤساء ليسوا بأقل علماً بأمور الحياة من السعداء غير أن ظروفاً أحاطت بهم فعاشوا تحت وطأة البؤس وهموم الحاجة وعوامل التشريد، إن جلوسك مع أحبابك وذويك في هناء وسعادة أدام الله سعادتك ينبغي أن يبعث فيك تفقد أصناف من البؤساء وألوان من التعساء فيهم فقراء لا مورد لهم ونسوة لا عائل لهن وأيتام لا آباء لهم ومشردون لا أوطان لهم، يتامى فقدوا أحضان من يرعاهم عاجزون عن أن يصلوا إلى قوتهم بأيديهم، أطفال يتضورون جوعاً وآباء يتقطعون حسرات وأمهات مكلومات تحجّر الدمع في أعينهن.. مشردون ولاجئون وأبناء سبيل وغرباء شردوا عن أوطانهم ما شردهم إلا القوى الجائرة وما فرقهم إلا السياسات الظالمة وما ضاعت حقوقهم إلا بالخيانات السافرة، نعم أوطان استباحها الغرباء وشعوب تخطفها الموت والتشريد وحقوق دفنها الباطل وغطتها المظالم ومستقبل يكتنفه الغموض والظلام، وذلك في أماكن متفرقة من بلاد المسلمين في فلسطين وأفغانستان وفي كشمير والشيشان وغيرها من بلاد المسلمين ومع كل ذلك فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله ولنا في شهر رمضان أمل وتفاؤل بأن يعلي الله كلمته ويدحر فلول المعتدين وما ذلك على الله بعزيز، ونسأله سبحانه أن يهلَّه علينا وعلى الأمة الاسلامية بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، اللهم اجعله حجةً لنا لا علينا وأعنا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* إمام جامع شيخ الإسلام ابن تيمية بحي الخليج

أعلـىالصفحةرجوع





















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved