أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 27th November,2001 العدد:10652الطبعةالاولـي الثلاثاء 12 ,رمضان 1422

مقـالات

النقد الثقافي: البديل أو الرديف (9)
د. حسن بن فهد الهويمل
والحضارة الاسلامية التي تُنقَض مفرداتها عروة عروة، بدأت بالكلمة المعجزة: نظما ودلالة، وهي مرجعيتها، وانسانها محكوم بالمرجعية في البدء وفي الاختلاف، والحرية فيها منضبطة، لأنها محكومة بالكلمة، وأي دعوة لحرية الرأي أو لحرية التعبير أو لحرية التفكير، لا تضع في تصورها ضوابط المرجعية هي حرية مزيفة، لأنها فوضوية، وحرية الآخر حين نحيل اليها، لا نستذكر كم هو الفرق بين «العقد الاجتماعي» في ظل حضارة مادية، وحاكمية «الذكر الحكيم» في ظل حضارة سماوية، ومن ثم لا يجوز القول من خلالها، ولا التعويل عليها، ولا أن ينهض لها دعاة، والمؤسف ان كل الذين يتحفظ على طرحهم المستغرب يحيلون الى مقتضيات الحرية، ويظنون أنهم حسموا الموقف لصالحهم، ومفهوم الحرية وحدها يعد اشكالية تتأبى على الحل، ما لم ترد الى الاسلام. وحضارة الاسلام لها أعماقها البعيدة الأغوار المتعددة الخطابات، ولها تراثها الذي وسع اختلاف طوائفها والمتمثل بملايين المخطوطات والمطبوعات، ولها أبعادها التاريخية والفكرية والأدبية والثقافية والمعرفية، ولها ضوابطها، وعلى المشتغلين بالنفي والاثبات والاحياء والاماتة أن يقتربوا من هذا التراث وان يلموا ولو بما لا يجوز الجهل به، ليكون نفيهم واثباتهم عن علم.والمتعالقون مع مفردات الحضارات الأخرى لا يجوز لهم الأخذ المطلق، ولا تخلية مشاهدهم من مفردات حضارتهم، وكيف تتأتى الامانة أو التهميش من طوائف لا يعرفون ما هم عليه، ولا ما عليه الآخر، ولربما فاتهم ان حضارتهم كالبحر اللجي يموج بمخلوقات غريبة وعجيبة، وإذا اتخذ مخلوق خداج طريقه الى أعماقها سربا، ضاع وسط آلاف الأنواع من المخلوقات، يذوب فيها، ويتشكل وفق مفهومها، وقد يمارس المؤاخاة أو تنازع البقاء، ولا يجوز لأي جالب ان يجعله الحاكم بأمره، المهيمن على الأشباه والنظائر. وإذ يكون من حق أي مفكر أو ناقد أو مبدع أن يجرب، وأن يتمنى ما عند الغير من ظواهر الحياة الدنيا، وان تعدو عينه الى المستجدات، فإن من واجبه أن يعرف قدر نفسه وقيمة حضارته، وان يتواضع أمام شموخها وتراثها. و«النقد الأدبي» و«النحو العربي» مفردات من مفردات تلك الحضارة لا يترتب على نفيها فوز ولا على بقائها خسارة، إذ ليس شيء من تلك المفردات بمعوق لتحرك «النقد الثقافي» أو «التحويلية» التشومسكية فلماذا هذا الاقصاء؟
ولماذا هذه الضجة الكبرى التي لا تنطوي على شيء، ولا سيما ان الطارىء المحتفى به له جذوره في حضارتنا، وإن لم يكن بفقاعة الطارىء، وحين لا يكون شيئاً من مفردات الحضارة حائلا دون الاستفادة وحسن الوفادة، فإن من التجني النيل من تلك المفردات، ومن الخير لنا والحالة تلك ان ندخل في المعمار الحضاري العربي، ونطور في مفرداته، لا أن نتشفى في الاجهاز عليها واحدا تلو الآخر لحساب مفردات حضارة أخرى. كانت «نظرية النظم» عند «الجرجاني»، ومن الممكن التحرف في معمارها لتكون بديلة عن «البنيوية»، وكانت الماحات ذكية عند «سيبويه» قد تغني عن كثير من نظريات اللغة عند سوسير وتشومسكي، لو أننا حاولنا المؤاخاة، ولم نقترف خطيئة الازهاق، وكانت بوادر علم الاجتماع عند «ابن خلدون»، ولمحات علم النفس عند «ابن سينا»، وكان تراث المعتزلة والمتصوفة منطويا على قيم جمة، وان تحفظ السلفيون على بعض ما عندهم، ولكن الانبهار والتبعية فوتا علينا فرصا كثيرة، مع هذا العقوق فإن بالامكان التعايش والمؤاخاة وذلك أضعف الايمان.
يكون «النقد الثقافي» وهو كائن من قبل ومن بعد، ويكون «النحو العربي» وهو كائن من قبل ومن بعد، وتكون مناهج البحث اللغوي كما هي عند «سوسير» و«سكنر» و«تشومسكي»، وهي كائنة من قبل ومن بعد، وتكون «الملكة» أو «الكسبية»، ويكون «التفاضل» أو لا يكون، ويكون تبادل الآليات فيما بين المناهج، وهو كائن من قبل ومن بعد، ولكن لا يجوز ان نتصور أننا نعيش تخلفا حضاريا ولا أن المنقذ لنا من ضعفنا الحضاري واللغوي بيد الناقد الفرنسي، أو اللغوي الأمريكي، وحضارتنا لا تحول بيننا وبين الاستفادة من كل جديد، انها تدعو الى الاعداد والسير في مناكب الأرض وتحفز على النظر في الأنفس وفي الآفاق وفي ملكوت السماوات والأرض وتحث على التبدر واستكناه السنن، ولكنها لا تقبل أن تنقص من أطرافها. والمؤسف ان الذين آذونا من قبل، وحصرونا في ضوائق «النقد البنيوي»، عادوا ليخرجونا منه بذات «الترويسة» وعاد معهم «الكومبارس» ذاته بذات الاحتفالية التي كنا سمعناها في استقبال «البنيوية» و«الحداثة»، وسمعها من قبلنا حين طرح «النقد النفسي» و«النقد الاجتماعي» و«النقد الجمالي»، وحين طرحت المذاهب «الوجودية» و«الماركسية» و«الواقعية» وغيرها. فأين تلك المذاهب؟ وأين دعاتها الذين حكموا بنهاية التاريخ؟ إنها تركة تركض فيها دابة الأرض، فهل تدلهم على موتها، ليتبينوا ضلالهم؟ ولما تنزل التركة البائسة وثائق تفيض بها رفوف المكتبات، مؤكدة خيبات الأمل، ولكنها خيبات لم نستفد منها، وان ألف المتأذون من خيبات الأمل عن «بؤس الماركسية»، و«بؤس الفلسفة»، و«بؤس البنيوية» وهي كتب تعكس حالات الاحباط، وكان يجب أن تكون كالنذر والآيات، والمؤسف أنها لم تغن، وكيف يغني بها قوم لا يعقلون، وممارسة القتل المتلاحق والموت الناجز لم تمكن أولئك من مواراة سوءات مذاهبهم الذبيحة، التي أغثوا المشاهد بها، وهم أحوج ما يكونون الى غراب يبحث في الأرض ليريهم كيف يوارون تلك السوءات التي قتلوها، وتركوها في العراء.
وإذا كان «النقد الثقافي» من خلال همه أو منهجه أو آلته إن كان ثمة آلة ومنهج، أو كان ثمة مجال وهم قد أفرغ من مرامية ومحتوياته الفرنسية أو الحداثية، وعاد كما نعهده من قبل، فإنه مشروع حضاري لا غبار على حضوره دون أثرة أو ايثار، وإنما يكون حضوره كحضور أي ظاهرة تشغل حيزها، ولا تعدو عينها الى ما متعت به ظواهر أخرى، ومثل هذا الاتجاه لا يحتاج الى مبشرين، ولا الى مشاريع، ولا الى هتافات وغوغاء. أما حين تكون له نوايا وأهداف أخرى، وهو مالا نرجوه، ومالا نستبعده، وبخاصة حين جعلت الأنساق هدفا، واختصرت القيم والممارسات في السيء من القول الشعري، وحين اتهمت اللغة بالفحولة، وحين ضربت الثقافة لتشعرنها، وضربت اللغة لفحولتها، وضرب النحو لنظامه، فإننا محقون في الارتياب، ومحقون في اعانة الأخ الظالم والمظلوم، واعانة الظالم رده عن ظلمه. والمريب أن كل تحول لا يعدو التعالق مع الطوارىء يقابل باحتفالية جماهيرية، والاحتفاليات المجانية تنبىء عن اندفاعات لا مبرر لها، كما ان طرح الرؤية بهذا الزخم ودعوى المشاريع تحفز الأنفس المتلقية الى التطلع الى مشروع له اضافته المتميزة ومرجعيته المعتبرة وضوابطه ومناهجه وآلياته ومجالاته التي لم تطرق من قبل ونتائجه التي لا تتحقق إلا من طريقه. و«النقد الثقافي» لا يلوي على شيء من تلك التطلعات، وهي أيسر ما يمكن توفره في مشروع ضج الفارغون في استقباله، وما صنعت الشخصيات الفارغة إلا بالتشايل والتنافخ، ولو سألت الراكضين عما يلوون عليه لما وجدت شيئا، وكيف يعرفون الحداثة وبعدياتها والبنيوية وتحويلاتها، وكيف يتبينون اضافات «دريدا» من خلال «تفكيكيته» وكيف طبق »شتراوس» آلية لغوية على ظاهرة اجتماعية.
و«النقد الثقافي» حين نسلم بأنه مشروع نقدي كما «البنيوية» في عالم اللغة ابتداء ثم في عالم الأدب انتهاء، وكما «التحويلية» في عالم اللغة، لا نجد له ضوابط منهجية متميزة، ولا توصيفا آليا محددا، ولا تحديدا دقيقا لمضاميره، انه ضرب من ضروب الانفتاح غير المبضبط، وإذ لا يعدو في أقرب تصوره الاشتغال بالمضمون أو بمكون المضمون فإنه لا يستحق هذه الضجة الكبرى. والمتعقب لتحولات النقد الغربي يجد ان طائفة كبيرة من النقاد اتخذت الأنساق مجالا نقديا، وان لم تسم عملها نقدا ثقافيا، نجد ذلك عند «كريستوفر كوريل ت1907م» وعند «لوسيان جولدمان ت 1970م» وعند آخرين تقصاهم عدد من الراصدين لاتجاهات النقد الحديث منهم:«د. سمير حجازي» في كتابه «النقد الأدبي المعاصر». لقد جاء «النقد الثقافي» محليا على الأقل مختصرا مهمته باتهام الثقافة العربية بالتشعرن ومدينا اللغة العربية بالتفحلن، والتعويل على هذين الاتهامين لا يخول الاستبدال، ولا يشرعن الوفيات، وصيغة «الشعرنة» و«التشعرن» و«النسقية» لم تكن مبادرة من صاحب المشروع الذي اعتاد على التلفيق من هنا وهناك، لقد جاءت «الشعرنة» في كتاب «جمال الدين بن الشيخ» «الشعرية العربية» في «الفصل الثالث» الذي تناول فيه «شعرنة الواقع»، وسوف أعود الى قراءة هذا الملمح الذي عول عليه مشعرن الأمة. وجاء مفهوم «النسقية» في أعمال كثيرة، كما في كتاب «الشيخ والمريد» لعبدالله حمودي الذي يحيل في قراءته السياسية على الأنساق الثقافية، وكم نتمنى الوقوف على مشروع «كريم عبد» الذي بدأه بمقالات نشرها من قبل على حد قوله، تمهيدا لجمعها، ليجعل منها مشروعا في زمن النبوءات، فكل من «حك استه» وتمثل الأمثال، وعد بالثلاثيات الروائية، وبالمشاريع الفكرية والسياسية والأدبية، لقد طلع «كريم عبد» من تحت ركام النسيان، واتهم صاحب كتاب «النقد الثقافي» باعتماده على بعض مقالاته، واتهمه بسرقة المشروع، والمفلسون من القضايا يحيلون الى السرقة، وكأن أرض العلم والثقافة ضيقة، ولما يزل شبح السرقة يطارد صاحب المشروع الثقافي، حتى في غلاف «الخطيئة والتكفير»، ولست مع دعوى السرقة، لا في الأولى، ولا في الثانية، إذ لا مبرر لها، وما قاله الاثنان كلام مطروح في الطريق لا يحتاج قائله إلا أن يفتح فمه ليملأ الرحب بضجيج فارغ كما طحن القرون. وحين نختلف مع أحد فليس من مستلزمات الاختلاف أن نصفه بالجهل أو بالضعف ولا أن نتهمه بالسرقة، قد يجهل بعض مفردات قضيته التي يشتغل بها، وقد يخطىء الطريق اليها، ومن ثم فإن القول بالسرقة قول جائر لا مجال له.
والاشكالية ليست في السطو وانما هي في التوهم كالقول بالتشعرن مثلا. وإذا سلمنا بالتشعرن القائم على الشحاذة والمدح فكيف نتصور الثقافة دون الشعر والشعراء،وكيف نتصور اللغة العربية دون الفحولة وبدون النحو العربي.
وسوف نسلم بأن «النقد الثقافي» في بعض وجوهه اشتغال بالنص في أوسع تصوراته، وبما هو خارج النص، وتحقق ذلك يتمثل بالأنساق المتعددة التي شكلت وعي منتج النص بواسطة نصوص سالفة متعددة، غير أننا مع هذا لن نسلم بأن الأنساق مخرجات السيء من الشعر خاصة، وهذه السلوكيات المتشعرنة تحولت بعامل الاستكناه والاختراق والتفاعل الى أنساق معيبة، لأن من لوازم التشعرن الهياج العاطفي والشحاذة والمدح الذي يصنع الطاغية، وإذ نسلم بأن النص يسهم في تشكل الوعي نستدرك أشياء كثيرة تناثرت في سياقات الدراسة، ومع التسليم نود ألا يكون قيام «النقد الثقافي» مرتبطا بادانة الأنساق الثقافية، كما يتصوره البعض، ليكون فعله مقتصرا على ضرب السوائد والقيم بحجة تشكلها الخاطىء من تأثير الشعراء الشحاذين والمداحين، على افتراض ان شعر «المتنبي» لا يمثل إلا الشحاذة، كما يبدهنا به المبشر بهذا المذهب النقدي، وكم أتمنى لو ان المتنبي شعرن الأمة، فشعره مليء بالحكم والتجارب والقيم، وما سار شعره إلا لجلال معانيه وجمال مبانيه، وما قتله إلا الاعتزاز والأنفة، وكيف يجرؤ انسان على ادانة مضامين المتنبي، والشعراء كافة لا يستقلون بالتأثير، ولا يقدرون على الشعرنة، فأمتهم أمة البيان والاعجاز القولي، وإذا كان المستشرقون يحرصون على اختصار ثقافتنا في الخرافة والعامية ويحيلون الى «ألف ليلة وليلة»، فإن القول بالتشعرن والاحالة الى رديء الشعر يواشج هذا الهم الاستشراقي وليس شرطا أن يكون هناك مواطأة.
والأمة التي تقوم حضارتها على الاعجاز البياني لا تتشعرن جملة وتفصيلا، الشعر صوت جمالي امتاعي لا يستأثر بشعرنة الأمة، بحيث تكون رهينة الشعر ومصوغة منه ذهنيا وسلوكيا، ومن ثم تكون شحاذة كشاعرها «الشحاذ العظيم»، وتكون مداحة كشعراء المدح والارتزاق، الأمة يكون فيها الشحاذون، ويكون فيها المداحون، ولكنها لا تختصر في شيء من هذا أو ذاك، وعلى افتراض الأمة الشحاذة المداحة، فإن الثقافة لا تدان من خلال ظواهرها الاجتماعية التي لا تفرضها، ولا تكون من مشروعها الواعي، ثم ان الثقافة ليست مجرد التطبيق السلوكي، إنها تراث جاثم في الكتب والموسوعات، يدان الناس بممارساتهم، ولا تدان الثقافة إلا من خلال المعطى النصي القطعي الدلالة، ويحميها من المؤاخذة احتماليات الثبوت واحتماليات الدلالة، وأجمل ما قيل عن احتماليات الثبوت ما ذهب اليه ابن حزم الظاهري، وهو يعالج قضية اثبات السنة وحجيتها، على أن احالة الضعف على الثقافة محاولة لشرعنة ضربها أو احلال بديل عنها يتولى صياغة ذهنية الأمة وسلوكها وفكرها، وتلك عين المشروع الاستشراقي، والمؤكد ان كل الثقافات خليط من نصوص مثالية وأخرى دون ذلك، ولكن التطبيق يصدق ذلك أو يكذبه. واعتوار الأمة من خلال ادانتها بالتشعرن تقويض لحضارة عريقة، علمت العالم كل القيم، وفقدت الكثير منها بسبب نخبها الذين استدبروها، ووصلوا حبالهم بمفردات الحضارة المضادة، ومثل هذا يشبه الداء الدفين في الأعماق.
ومشروع «النقد الثقافي» لا يقتضي بالضرورة دعوى التشعرن، ولا يلزم معه افتراض انساق مشتعرنة، ولا يخول اتخاذ موقف من ثقافة الأمة، واتخاذ الأنساق ذريعة لاستدعاء «النقد الثقافي» يثير الارتياب والتساؤل. وإذ لا يكون من بأس في القول عن الأنساق القائمة حقيقة والمتشكلة من مرجعيات متعددة يكون البأس كله في اختلاق أنساق ليست قائمة، وقصر تشكيلها على السيء من مصدر واحد، والمؤمل ألا يتصور البعض تحفظنا على التحولات النقدية وكل ما نوده التأكيد على ان التحفظ لا يعدو ربط التحول بادانة الثقافة. وتحولات النقاد مع ظواهر العصر المتوقعة والمطلوبة فعل مشروع، ولكن التحول المشروع لا يستدعي الكيد لثقافة قائمة ومتشكلة من مرجعيات متعددة، والنقاد المرنون في استجابتهم للتحولات قد يتعرضون للاخفاقات، وبخاصة حين لا يمتلكون آليات التحول ولا ينطوون على امكانيات معرفية وثقافية ترود لهم وتحمي ساقتهم، ومثل هذا متوقع، والمؤذي ان تجتمع التحفظات كلها في مشروع «النقد الثقافي»، وتحولات النقاد في الغرب الأوروبي وفي المشرق العربي ومغربه معروفة ومرصودة والتحيز الى طائفة من هؤلاء أو أولئك لا يكون مشروعا، ولربما يكون «النقد الثقافي» تحولا من «قانون اللغة» كما يرى بارت الى «قانون النسقية» كما يرى شتراوس، وكلاهما عول على البنية بوصف اللغة نسقا عضويا وبوصف السلوك نسقا اجتماعيا أو ثقافيا. ولو أن الذين اتخذوا «النقد الثقافي» قنعوا بالترادف، والتمسوا مفردات الأخطاء، وعالجوها بالتي هي أحسن، لما كان في الأمر من بأس، إذ من حق أي أديب أو مفكر أن يتحرف أو ينحاز، ولكن التحرف والانحياز يجب أن يكونا لصالح الأمة ولمفردات حضارتها.
واشكالية الأنساق الثقافية المتفق عليها أو المختلف حولها أنها مخادعة، بقدرمخادعة المدعي، فهي بين الفرضية والواقع وتعدد مصدرية التشكل، البعض يختصر النسق في الشعر، كما اختصر اللغة في الفحولة، وقطع بأن الأمة متشعرنة في أخلاقياتها، بمعنى أنها تعيش بالعاطفة بوصف الشعر فناً عاطفياً. ولهذا وصف الشاعر الحكيم الذي سار شعره بالشحاذ العظيم والمداح الكذاب، ليكون المشكل الوحيد للنسق الثقافي العربي، والناقد الذي استدبر الفن واللغة واستقبل الأنساق التي اختلقها أو استملاها، يشرعن بهذا التشكيل ضرب الثقافة. وفات المدعي أن الأنساق الثقافية العربية ليست متشعرنة على الاطلاق. لماذا لا نقول بأنها انساق ثقافية قرآنية، أو انساق ثقافية فلسفية أو فكرية؟ أو هي على الأقل خليط من هذا وذاك، بحيث لا يكون الشعر وحده المستبد في تشكيل أنساق الثقافة، وحين نقطع بالتشعرن، لا يجوز لنا أن نختصر الشعر العربي في المدح والشحاذة. والنقاد يكادون يجمعون على ان المتنبي حكيم، وأنه يجمجم عما في نفوس الناس، وأنه أكثر الشعراء سيرورة، وهو قد عرف من قبل من أين تأتي مذمته، و«المعري» جرَّ من رجله حين لفت إلى ذلك في مجلس أحد الكبراء الناقمين، ومن ثم فلن أعرِّض نفسي لمثل ذلك، بحيث يكون الجزاء معلقة هجائية كما سلف من تصديات تدع الحليم في لجة من أمره، وما فوت علينا فرص التحرير المعرفي للأشياء إلا من هم ألج من الخنفساء، تعرض لأخطائهم، وتود منهم ان يدافعوا عن أنفسهم، ثم تراهم يكيلون الشتائم دون حياء أو استحياء.
وسأدع المتنبي يحمي نفسه أو يحميه غيري مردداً:«أنج سعد فقد هلك سعيد».

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved