أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 11th December,2001 العدد:10666الطبعةالاولـي الثلاثاء 26 ,رمضان 1422

مقـالات

التعليم الجامعي: من المأزومية إلى المأزقية..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل
ولكي نجتاز المنعطفات بأسرع وقت، وأقل جهد، وآمن تصرف، وأنجح أداء، يجب علينا استيعاب أوضاعنا بوصفها منظومة متفاعلة لا متجاورة، والتعرف على امكانياتنا: الذاتية والاستيعابية والذهنية، وتقصي حاجاتنا وفق أولوياتها، والنظر الشمولي لكل المنظومات المتماسة: حسياً ومعنوياً، محلياً وعالمياً، فالعصر عصر العلم والتخصص والمنهجية والخلطة المستحكمة والتأثير والتأثر والشفافية. إذ لا مكان للارتجال، ولا للاعتزال، ولا للتجزيئية، ولا قيمة للتلاوم، ولا للتخوف من المساءلة، ولن نضمن استقامة الأمور إلا باستبطان أهمية المراجعة والمحاسبة، وقبول النقد والمساءلة. وما نسمع به بين الحين والآخر من دعوة لبعض الوزراء لحضور احدى جلسات مجلس الشورى ومساءلتهم، يعد من الظواهر الصحية، وبودنا لو أن طرفاً من المساءلات والمداخلات يعرض بالصوت والصورة في نشرات الأخبار، مثلما هو جار في كثير من التغطيات الاخبارية. وليس شرطاً النقل الكلي ولا النقل المباشر. والأهم من كل ذلك تعقب القطاعات الحكومية والأهلية على حد سواء من قبل أعضاء المجلس، أو من قبل رؤساء اللجان، فالتحولات المؤسساتية يجب أن تفعَّل. والمجالس الشورية والعليا والمناطقية التي بادرت إليها الدولة بطوعها واختيارها عليها ممارسة حقها المتاح على مرأى ومسمع، لقطع دابر الشك وبعث الاطمئنان على حد: «قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي» ولأن التعليم يطال كل مواطن، إذ هو طالب أو معلم أو ولي أمر، فإن على المؤسسات أن تستبطن همه، وأن يكون شغلها الشاغل.
وقدرنا الذي لا مناص منه، اننا نعيش تحت وطأة انفجارين: سكاني، وتعليمي، ونعاني من تضخمين: وظيفي، وتأهيل نظري، والانفجار التعليمي النظري قائم على أشده، والكتبة الملحون على الاستيعاب يدفعون به في ذات الطريق، إذ لا تعدو عيونهم حشود الطلبة على أبواب الجامعات. والتعليم العام مرن وسريع الاستجابة، وقادر على توفير مقعد لكل طفل أو طفلة في القرية والهجرة وفي الظراب، والآكام وبطون الأودية. والناس بما فتح الله عليهم من أرزاق، في التجارة والصناعة والزراعة وفي الضمان الاجتماعي والعوائد والمخصصات والجمعيات والزكوات ورواتب الأئمة والمؤذنين والهيئات ومكافآت الطلاب والطالبات، وما هيئ للجميع من بنوك تسليف وعقار وزراعة وصناعة وما أتيح لهم من فرص استقدام العمالة مستغنون عن جهد أبنائهم وبناتهم، ليفرغوا للتعلم النظري. ولأن الطلبة أربعة ملايين أو يزيدون، ولأن مدة التعليم ست عشرة سنة، فإن هذا يعني احتياجنا لأربعة ملايين وظيفة كل عقد ونيف، وتلك نتيجة حتمية لكل من يتصور ضرورة توفير مقعد جامعي لكل حامل شهادة ثانوية دون أي ضابط. والدولة بمسايرتها ومداراتها وقدراتها تحولت إلى ضمان اجتماعي، والناس يتهافتون عليها عبر الوظائف ونظام البنود والساعات وغيرها، وكلما ارتفعت مؤشرات البطالة اتسع رحم الضمان، وهكذا حتى ينفجر هذا الرحم، وينفرط عقد الأجنة. ويكفي أن ننظر إلى الباب الأول من الميزانية، لنرى حجم الانفاق الذي يندلق كالطوفان في السوق الاستهلاكية، ثم لا يكون له عائد على اقتصاد البلاد، ثم لننظر إلى عجز الميزانية وحجم الديون.
أقول ما تقرؤون لتأكيد أن الاشكالية ليست في «التعليم الجامعي» مفصولاً من سياقات المجتمع وأنساقه، كما أنها ليست قصراً على عدد الجامعات نسبة إلى عدد السكان، الاشكالية شبكة معقدة ممتدة في خلايا المجتمع وجيوبه، ومتجذرة في تفكيره وتصرفه وتعبيره، ومتلبسة في عاداته وقناعاته ورغباته.
ومعالجة الاشكالية على هذا المفهوم تنطلق من عدة مواقع، يشكل «التعليم الجامعي» موقعاً منها، ولا يكون كل الاشكالية. وعلى المشرع والمثير والمنفذ والمتعقب أن يكونوا على وعي تام بجذور المشاكل ومطارحها، ووجوه الحل وخياراتها، وألا يرتبطوا بعارض واحد، ليصبح العلاج قصراً على الأعراض دون الأمراض، منصباً على مفردة من مفردات الاشكالية، متنفساً باللوم وجلد الذات. إن علينا تجاوز المناكفات لمباشرة البحث عن الحلول الجذرية، فالمشكلة مسؤولية الجميع، ولا بد من تناول التركيبة الذهنية والسلوكية والعلمية للخروج من المأزقية والمأزومية التي أقضت مضاجع وزارة الداخلية، وحملت سمو الوزير على تبني مشاريع ليست من اختصاص وزارته، لما يساوره من الخوف، فالبطالة مصدر كل شر، وهي من الأزمات التي لا يمكن تلافيها بسهولة، ولا يمكن السيطرة على عقابيلها، وبخاصة حين تكون في أوساط الشباب، الذين يحملون شهادات أضاعوا الوقت والجهد في تحصليها، وبوادر البطالة وكساد الشهادات بدت في وقت قصير ومفاجئ، وفي ظل ظروف لا يتوقع افرازها مثل هذا الوضع، وذلك حافز على إعادة النظر في كثير من المسلمات والقناعات والتصورات، واستبعاد أي تردد في المواجهة القوية والفورية.
ولأن سياسة التعليم وأهدافه ذات مرجعيات متعددة، ومحاذير معقدة، ولأن المفهوم العام للتعليم يختلف من طائفة لأخرى، ولأن «الرأي العام» يشكل ضغطاً خفياً على متخذي القرارات فإن الخطوة الأولى تتطلب تحديد المرجعية، وبلورة الهدف، وتنوير الرأي العام، ليكون التغيير سلساً وممكناً وسليماً. وبخاصة في تلك الأجواء المشحونة بالتساؤلات والتحديات العالمية، وتذبذب المناهج بين «العصرنة المؤسلمة» و«العصرنة المعلمنة» و«العلمية المؤدلجة» ومع توفر الامكانيات، فإنه لم يبق إلا أن نسبق الأحداث، ونبادر بالمواجهة، ولا نرقب المشاكل حتى إذا وقعت الواقعة نهضنا متثاقلين للحل. وليس من الحلول حصر الاهتمام في تعميم التعليم الجامعي ولا في تقعير الرؤية عليه دون غيره، ففي ذلك صرف للنظر عن اشكاليات متعددة، قد تكون الأهم، وقد تؤدي الغفلة عنها إلى استعصاء حسمها، وما أوده صرف الجهود: للمناهج ونوعية التخصص وتفريق الحشود قبل الوصول إلى أبواب الجامعات. وما تشيعه اللوبيات التي تعض أناملها من الغيظ لتأذيها من تأثير المملكة على كل الصعد يحفز على المضي في «العصرنة المؤسلمة» «والله ورسوله أحق أن يرضوه».
لقد كتب البعض بدافع الغيرة والحماس والمواطنة عن التعليم الجامعي مستعدياً المشرِّع على المنفذ، كما وجه اللوم آخرون بسبب التردد في التوسع، وارتفعت نبرة المؤاخذة على المماطلة، وضربت الأمثال بدول فقيرة، تنتشر الجامعات في عواصمها ومدنها، وتستوعب أبناءها، وجاءت كلمة الأستاذ «فهد عامر الأحمدي» «جامعة لله يا محسنين» في جريدة «الرياض» مثار جدل واختلاف، وفاتح شهية لمزيد من المداخلات، إذ شفعت الكلمة باحصائيات، لست أعرف عن مدى دقتها، ولكنني أعرف جيداً أن المقارنة جاءت مع الفارق، وهو ما تعقبه الأستاذ «عبدالعزيز الجارالله» في ذات الجريدة، مشيراً إلى كليات البنات والمتوسطة والأمنية والمهنية وإلى فروع الجامعات. وفي كل عام يضج المتذمرون، ويرتبك المسؤولون، ويلوذ البعض منهم بإجازاتهم هرباً من طوفان الشفعاء وإلحاح ذوي الحاجات، حتى إذا وضعت الأزمات أوزارها، لا يكون حل، ولا وعد بحل، فيما يتجرع الآباء مرارات التفكير بمصائر أبنائهم. ومع هذا فإن الاشكالية لا تحل بفتح الجامعات، ولا باستيعاب حملة الثانوية العامة، وإنما هي بإعادة التركيبة في مواقع كثيرة. المجتمع ليس بحاجة إلى مزيد من المؤهلات النظرية، والشهادة الجامعية ليست غابة بذاتها، إنها سلعة تخضع للعرض والطلب، والتعليم الجامعي ليس حقاً، وليس ضرورة، ومن فهمه على هذا الأساس حصر مطلبه في وجوب تهيئة مقعد لكل طالب، وفات الأكثرين حماساً أن التعليم الجامعي توجهه الحاجة، ولا يفرضه الحق. وإذ لا يكون من مصلحة الأمة عسكرتها ولا فلسفتها ولا تسييسها فإنه ليس من مصلحتها أن يكون أبناؤها جميعاً من حملة الشهادات الجامعية النظرية التي لا تسمن ولا تغني، ومما لا شك فيه أن مرافق الدولة والقطاع الخاص قد تشبعاً من الكتبة، والتعليم العام وقع في بعض مراحله بإشكالية «مدرس الضرورة» لإكراهه على استيعاب خريجين في غير مجال تخصصهم. وما دون المرافق والقطاعات من المجالات فاض كيله بملايين الوافدين.
والحاجة الملحة مرتبطة بالتخصصات العلمية والمهنية والفنية، وهي خارج الجدل الإعلامي، وفرض الخريج غير المتخصص، لا يمكن القبول به، لا على مستوى القطاع العام، ولا على مستوى القطاع الخاص، ومن ثم فالإشكالية لا تحل بمضاعفة الجامعات، الاشكالية تكمن في خطأ المفاهيم، ولا بد من تصحيحها، وفي غزارة الانتاج، ولا بد من ترشيده وحسن توزيعه. فهل وعى المشرعون احتياجات المجتمع من التخصصات؟ وهل يستطيع القطاعان: الخاص والعام ايجاد مجالات، تستوعب فيوض المتخرجين؟ وهل عُمل على مواكبة التعليم للخطط التنموية؟ وإذا كانت الدولة غير مسؤولة عن التوظيف، فإن التعليم مسؤول عن إعداد المواطن لمواجهة الحياة وسد الحاجات. وإذا كانت الدولة تنفق الأموال لتعليم لا تقوم الحاجة إليه، فإنها تعرض الأمة لخسارتين: مالية وبشرية، ولو أقرض الطالب بعض ما أنفق على تعليمه الجامعي، ومكن من استثمار جهده ووقته وقرضه، لأفاد واستفاد. ولكي نتصور فداحة الخسائر، علينا أن نعرف كم تنفق الدولة على الطالب الجامعي في سنواته الأربع، ثم لا يجد عملاً، أو يجد ما لا يحتاج إلى مؤهله.
والمؤكد أن التركيبة الخاطئة كالمقدمات الخاطئة، تؤدي في النهاية إلى نتائج خاطئة. والتوسع غير المحسوب وغير المتوازن في فتح الجامعات أو في منح التراخيص للجامعات الأهلية أو اعتماد التخصصات غير المطلوبة أو انزال المناهج غير المناسبة سيؤدي في النهاية إلى مشاكل معقدة. وقد يؤدي التنافس بين المؤسسات إلى الصراع من أجل البقاء. والمتابع للتعليم الأهلي العام، وما واكبه من توسع في التراخيص، واقدام كل متقاعد أوميسور حال، ضاق برصيده النقدي على فتح مدرسة في عمارة لم تصمم لتوفير أدنى حد من التعليم السليم ينتابه الخوف. وبعض المدارس الأهلية تعاني من ضوائق مالية، وحرب الأسعار، سيصاحبه هبوط في الأداء. وكم كان بودي لو كانت هذه التراخيص لمعاهد فنية، ومراكز حاسوب، ومدارس بنكية، وفندقية، وهندسة ميكانيكية لسد الحاجة وتخفيف الضغط على التعليم العالي. وإذا كان التعليم الأهلي يعتمد على الخطط القيمية، ولا يمتاز بشيء عن التعليم العام فإنه يبحث عن الرخيص لتقليص الانفاق، ثم لا يفك الاختناق، ولا يقدم نوعية ممتازة، فالتعليم العام لا يعاني من عجز استيعابي. وليس من المصلحة أن تمر الجامعات الأهلية بذات الطريق، وإن كانت ستسهم في فك الاختناق إلى حين، إذ الحل لا يتمثل في الاستيعاب وحده، وإنما هو في تكافؤ الاستيعابين: العلمي والعملي ، وإلا أصبح ما ينفق على التعليم خسارة متعمدة.
لقد امتدت البطالة إلى خريجين من مختلف التخصصات: النظرية والعلمية، وأفواج المتخرجين في ازدياد، والمجالات الاستيعابية في نقص، والشاب في النهاية يبحث عن ترجمة لشهادته، وهو العمل، وحين لا تكون الشهادة غاية في ذاتها فإنه سيظل يسعى لغايته، وحين لا يجد الطريق إليها، يشكل خطورة أخلاقية وأمنية واقتصادية، والتوسع في منح التراخيص للجامعات الأهلية دون دراسة متأنية يدفع بالمشكلة ولا يحسمها. كما أن التوسع العشوائي يشكل اغراقاً، يضاعف الاشكالية. لقد كان الطلبة يتزاحمون على كليات الشريعة، وحين تشبعت وزارة المعارف، قلبوها إلى اللغة، وكنا نسمع من قبل لغة المفاضلة، وكنا نقول لهؤلاء وأولئك: إن الأفضلية فيمن يسد حاجة الأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى السائل حبلاً وفأساً: وطلب منه أن يغيب عنه خمسة عشر يوماً، وهل الاحتطاب في الشعاب والأودية أفضل من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتنزل عليه من السماء. إنها الحاجة الخاصة والعامة تحدد الأفضلية والأهمية. ثم إنه ليس هناك أهم من النفور للتفقه في الدين، ولكن المشرع الحكيم ربطه بحاجة الأمة «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين»، منبهاً أنه «وما كان المؤمنون لينفروا كافة» وهذا ما نريد أن يعيه المشرعون، وأن يفهمه المتعقبون. ثم إن هناك فرقاً يين التخصص الشرعي: الوظيفي والتعبدي وأسلمة المناهج. والتعليم في بلادنا والحمد لله مستوعب لأهمية التخصص والسمة. غير أن التخصصي يجب أن يكون على قدر الحاجة العملية، فيما تكون السمة على قدر الخصوصية، أما القدر التعبدي ففريضة على كل مسلم.
وبصرف النظر عما نسمع من لغط تعيه المؤسسة التعليمية حول المناهج فإن التعليم المخصخص يحتاج إلى عين ساهرة، وأذن واعية، لأن همه الأول منصب على الكسب، وتفكيره في اختراق الضوابط، لا في اتقان صناعة الانسان والدولة رمت بثقلها عبر خططها الآنية في صناعة الانسان، وتهيئته لمواجهة الحياة المعقدة، والخصخصة للمستويين من التعليم قد لا تنهض بهذا الهم بالقدر المطلوب، وإذ لا نتهم القطاع الخاص فإننا لا نزكي على الله أحداً، ومن أمن العقاب أساء الأدب، والبوادر تبعث على أخذ الحذر، ووزارة المعارف لاكتشافها مزيداً من التجاوزات، تطلع كل يوم بضابط احترازي، وأخشى ما أخشاه أن يتلبس التعليم الجامعي المخصخص بهذه الاختراقات، ثم تكون الكارثة. وحاجتنا الملحة في اعادة هيكلة هذا اللون من التعليم، ووضع أدق الضوابط، ومراعاة القدرة الاستيعابية للسوق. وتحقيق الرغبات في منح التراخيص، ينعكس أثره على كل الأطراف، ولقد شهدنا كساداً في «مصانع الألبان» و«الصيدليات» و«محطات الوقود» و«مراكز الاتصالات» إذ لم تراع فيها القدرة الاستيعابية، والتعليم يختلف عن المصانع ومراكز الخدمات، فالاخفاق في تلك خسارة مادية، أما حين يمتد إلى المستوى التعليمي فإن الخسارة ستطال الأمة في الصميم. والتنافس غير المتكافئ، واغراق السوق بالمؤسسات التعليمية، يعني الكساد، ثم التفكير بالاحتيال. وحرية الاقتصاد عندنا يشوبها شيء من الفوضى والغفلة، ليكون الصراع والاغراق والتساقط. والفوضوية لا تحفظ التوازن، ولا تحمي «الرساميل». والوعي الأممي السليم يهتم بالحماية والحفظ، وإن كانت «الرساميل» لأفراد، إلا أنها في النهاية ثروة أمة، والجالب كالمهدي، ولا أقل من الحماية والدعم. وحين تحل الفوضى يستفحل الجبن وتنكمش السيولة النقدية، وهو ما لا نريده لأثريائنا، وما لا نريده في القطاع التعليمي على الأقل، ونحن أحوج ما نكون إلى الضوابط والروادع والحماية والتقدير الدقيق للحاجة، لكيلا تتسلل «الرساميل» لواذاً خارج البلاد، بحثاً عن مناخاة ملائمة، أو تختبئ تحت البلاطات، ولعلي أضرب المثل بازدهار الحركة التجارية والصناعية في «دبي» واشتعال الحركة الجوية في «مطار البحرين»، الأمر الذي يشكل تحدياً لقدراتنا وامكانياتنا القائمة وغير المستغلة.
وبصرف النظر عن اشكالية القطاع الأهلي في التعليم العام والجامعي، فإنه يجب وضع الأمور في أطرها، فالتعليم صناعة، يخضع للعرض والطلب، ويرتبط بالخطط التنموية، وفوق هذا يجب أن يتعصرن: منهجاً ومادة، وليس من العصرنة استيعاب الشباب ثم الزج بهم في تخصصات لا يقبلون بها، أو لا يحتاج إليها سوق العمل، إذ هي بهذا تسهم في التأزيم، وتعرض البلاد إلى بطالة مكشوفة، قد يستوعب جانب منها ببطالة مقنعة، والبطالتان، تشكلان عبئاً على ثروة الأمة، وتصعدان نسبة الانحرافات والجنح، ومكافحتها هي الأخرى تشكل عبئاً على ثرورة الأمة، وإن كانت بطالة الجامعي أخف خطراً من بطالة ما دونه. والتفكير الأحادي المتمثل بالتوسع في فتح الجامعات الحكومية والأهلية يخرج بالتعليم الجامعي من المأزومية إلى المأزقية، وعلينا والحالة تلك أن نفكر تفكيراً مضاعفاً، ينظر بعين إلى خريجي التعليم العام ممن لم تستوعبهم الجامعات، وينظر بأخرى إلى الخريجين من الجامعات ممن لم تستوعبهم الوظائف الحكومية والقطاعات الأهلية، إما لكثرتهم أو لأن تخصصاتهم لا تحتاجها الوظائف، ولا يقبل بها القطاع الخاص، إنني حريص على ألا أضع العصي في العجلات، ولا أريد التيئيس، ولست متشائماً، وإن كنت كما بطل رواية «إميل حبيبي» «المتشائل» وهي صفة مركبة من «متشائم» و«متفائل». إنني في النهاية مشفق ولائم: مشفق على المسؤول والطالب على حد سواء. ولائم على نقص القادرين عن التمام. وإذ سوفنا أكثر اللازم، فإن علينا ألا نرتجل القرارات، فلا ندِم من استخار، ولاخاب من استشار.
وعالم اليوم تعصف به مشاكل، وتجتاحه أزمات، وتخنقه ظروف سيئة، ونحن في سياقه عربياً وعالمياً، هذا الواقع، وذلك الترابط يفرضان علينا أن نعي خطورة الأوضاع، وحساسية اتخاذ القرار، وأهمية المبادرة، وضرورة التروي. ومع كل هذه التحفظات، فليس لدي حل ناجز، ولن أدخل في رهانات الحلول والنجاحات. لدي تساؤل.. وتحذير.. وموعظة. والأمل معقود في نواصي الكفاءات الوطنية من رجالاتنا القائمين والمنتظرين، إذ هم كالخيل معقود في نواصيها الخير. والتساؤل الملح عن دور التعليم الفني والتدريب المهني في مختلف التخصصات: الطبية المساعدة والصناعية والهندسية والمعمارية والحاسوبية لما دون «البكالوريوس»، أين هو من هذه الضجة؟ والزمن زمن المؤسسة، فهي اللاعب الرئيس في هذه الاشكاليات، وعليها اختراق الصفوف، وتلقف الراية، فالحاجة ماسة إلى آلاف المتدربين في مختلف التخصصات المهنية، وبحاجة إلى الفنيين المساعدين لكل التخصصات العلمية. ولو أتيحت للشباب فرص الدراسة، لما أخذوا طريقهم إلى الجامعات النظرية، التي تلفظ بهم على أرصفة الانتظار لما لا يأتي. والتحذير من الإصاخة لمن يدفعون بعنف إلى الحلول المؤقتة ومعالجة الخطأ بخطأ مثله. والموعظة بسماع التناجي الخافت، وعدم الاغماض عن بوادر المشاكل، فما يقال محلياً وخارجياً كالطلقات الطائشة إن لم تصب أربكت.
والأهم من هذا وذاك أن نصرف الأنظار عن المهدئات والحلول الوقتية، وأن نواجه قدرنا بثقة واطمئنان، لا نشك في مناهجنا وخططنا، ولا نعمى عن المتغيرات، والتحرف ضرورة، ولا سيما أن الزمن مواتٍ، والإمكانيات قائمة، والحلول ممكنة، والشفافية كشفت عن ثغرات ليست عصية الاستدراك. وحين ننظر إلى أوضاعنا من خلال مرايا مقعرة، يجب ألا نشيح بوجوهنا، ونكتفي برد الغطاء، واحتمال الأذى. لقد تعثر مشروع الخصخصة في كثير من القطاعات، حين بدت التضخمات الوظيفية والثغرات النظامية، وبودي لو نسينا ما مضى، واستقبلنا ما هو آت، وباشرت الجهات تدارك ما يمكن تداركه، في وقت يحتمل الجسم أكثر من تدخل جذري، إذ ربما يأتي يوم لا يحتمل الجسم أية مبادرة.
والتعليم حين يعتريه النقص في : مادته، أو في امكانياته، أو في تنوعه، أو في استجابته، ينعكس أثره على كل القطاعات، وتمتد سلبياته إلى كل المرافق، ومن ثم لا بد من رباطة الجأش، والتأمل العميق، وحشد كل الطاقات الفكرية لوضع خطة تعليمية، تضع في اعتبارها أن التعليم صناعة، وأنه هدف بذاته وهدف لغيره، ولا يجوز تغليب هدف على آخر. والأهم حفظ التوازن بين الحاجات والأهداف، ولا بد أن نعرف القدر الكافي لتحقيق الخصوصية الحضارية والمكتسب الوظيفي من معرفة ومهارة. إن التعليم شبكة معقدة. والخوض فيه عاطفياً لا يحل الاشكالية، كما أن استبعاد السياقات العالمية عند رسم سياسة التعليم يعرض البلاد للعزلة، وليس في التحرف المتواصل أي محذور، إذا وسد الأمر إلى أهله من ذوي التخصص والأهلية. ويكفي لكل متحرف أن يستصحب مقولة ولي العهد: «لا مساومة على العقيدة والوطن».

أعلـىالصفحةرجوع














[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved