أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 13th December,2001 العدد:10668الطبعةالاولـي الخميس 28 ,رمضان 1422

الثقافية

الثقافة العربية وسيادة ال«دوت كوم»
إسماعيل الحسين
إن تزاوج ثورة المعلومات مع ثورة الاتصالات الحديثة التي ميزت العقود الأخيرة من القرن العشرين، أفرزت مفاهيم وقيما جديدة ساهمت بشكل كبير في توسيع الفجوة بين من يملك وينتج ويتحكم بالمعلومة وبتقنياتها الحديثة وبين من يفتقر الى ذلك. وإذا كانت الإنترنت تمثل حجر الزاوية في هذا الانفلات التكنولوجي الذي نعيشه اليوم، فيبدو أنها ليست نهاية المطاف وإنما هي عبارة عن مقدمات أولية وأساسية لإدخال العالم آفاقاً أرحب وأكثر تعقيداً. وإذا برزت أهمية الانترنت، ايضاً، بأنها باتت أهم مصدر من مصادر البحث العلمي، وإحدى أهم وسائل نشر المعلومات، بجانب تحويلها ميادين العلم والمعرفة الى ما يشبه المكتبة العامة، التي ترحب بكل داخل، وان لم يكن لديه الإلمام الكامل بآداب الدخول، فقد تجلت خطورتها كذلك في أنها أحدثت تغييراً جذرياً في منظومة القيم والمفاهيم المتعارف عليها. فالأمية لم تعد صفة لمن يجيد القراءة والكتابة، بل تعدته لمن لا يستطيع الجلوس أمام الجهاز الحاسب واستخدام تقنيات الاتصال الحديثة.
والأخطر من هذا وذاك، ان هذه الشبكة الكونية بدأت تنظر الى العالم على أنه سوق واحدة، بغض النظر عن أجناسه ومشاربه، ولا بد لهذه السوق ان تخضع لمعايير موحدة أيضاً، الأمر الذي دعا الى تكريس الجهود في مجال صناعة المضامين الثقافية، من أجل تكوين ثقافة عالمية تسوق العالم نحو الدخول في نمط ثقافي واحد/ النمط الأمريكي، نتيجة لتفوق تقنياته الحاملة للثقافة، او بكلمة ادق، الحاملة لقيم وأنماط وشروط اللعبة الثقافية، وايضا نتيجة لسعي القادة هناك الى تحقيق طموحاتهم، بايجاد ثقافة كونية تسهل الطريق أمام اهدافهم الاستراتيجية، وهذا ما عبّر عنه وزير خارجية أمريكا السابق هنري كسينجر ومن بعد الرئيس الأسبق جورج بوش «الأب» في حديثه عن النظام العالمي الجديد وضرورة توافر شرطين أساسيين لهذا النظام، لم يتوفرا بعد، وهما:
عدم وجود ثقافة عالمية ومجتمع عالمي متماسك للعمل على تخفيف حدة التنافس وسوء الفهم المتبادل والمؤدي الى الصراعات وتصادم القيم الحضارية بين الأمم.
ان الواقع الراهن لا يزال غير مقبول للعديد من الأطراف التي لا تتوافق مطالبها مع الإطار الدولي الحاضر بسهولة.
وهذا الكلام لاقى رواجاً ومناخاً مناسباً لدى قادة السياسة والفكر في الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأ العمل للترويج لهذه الأفكار وتحت مسميات مختلفة، من قبل سادة السوق، بغية الهيمنة على حقل الثقافة، من خلال نخب كونية متجانسة، وعبر خلق فضاء ثقافي عالمي يتم تسخيره لخدمة متطلبات السوق. فالثقافة أصبحت صناعة قائمة بذاتها، وهذا هو التحدي المباشر التي تواجهه الثقافات القومية، ومنها ثقافتنا العربية، في ظل سيادة ال«دوت كوم» وفي ظل تحولات مادية هائلة راحت تغزو كل نواحي الحياة، مع عجز واضح عن الاستيعاب الواعي لحركتها، عجز ولّد بدوره حالة من الخوف الحقيقي والعميق من هذه الشبكة، خوف على الخصوصيات الثقافية وعلى الهويات القومية والوطنية، خوف من التنميط في قالب أحادي لا يتوافق والاحتياجات الثقافية لدول الجنوب النامية، خاصة وان تدفق الرسائل الإعلامية والثقافية يأتي من المراكز الرأسمالية في الشمال ويصب في دول الأطراف، التي تحولت الى مواقع لتلقي هذه الرسائل بكل ما تحمله من تحيز وقيم، تتعارض مع منظومة القيم السائدة في مجتمعاتها.
ولأن الثقافة هي العنصر الأبرز في عملية التنمية الشاملة والبناء الحضاري، فإن هذا البناء الحضاري ورسوخ أركانه مرتبط بشكل كبير بمقدار شمولية الثقافة وتوازنها واستقرارها وصحة معتقداتها. وإذا كانت الثقافة كائنا حيا متطورا بشكل مستمر ويتكيف بشكل ايجابي مع التطورات والمتغيرات الجديدة، فهل استطاعت الثقافة العربية، في ظل التحولات الراهنة ان تتكيف معها وان تكون حاضرة وفاعلة فيها؟ وهل هي مهيأة فعلاً لممارسة دورها الحيوي في صناعة ثقافة الغد والمساهمة الجادة بإضفاء محتوى إنساني وأخلاقي لهذه الثقافة؟.
يبدو أن الواقع الثقافي العربي لا يبشر بكثير من التفاؤل، ذلك ان الثقافة العربية لم تفلح في البحث لنفسها عن دور يشد أبناء العروبة اليها ويقوي اللحمة فيما بينهم ويضفي على ثقافتهم روحاً جديدة، على مدى أكثر من مئة وخمسين عاماً. فهي لا تزال عاجزة عن ايجاد صيغة للمصالحة فيما بينها وبين مختلف القوى الاجتماعية والسياسية، في الداخل والخارج، والصراع الثقافي والفكري بات سمة مميزة للمثقفين العرب، وان بدا هذا الصراع هادئاً احياناً، والنخب العربية لا تزال تعيش أزمة علاقات فيما بينها، وفيما بينها وبين مجتمعاتها وأزمة انتاج معرفية. كما تعاني أيضاً من أزمة وجود في علاقتها بالسياسة ومراكز صناعة القرار. هذا الى جانب أزماتها العديدة مع الثقافات الأخرى الخارجية وخاصة في هذا العصر، عصر تدفق الرسائل الإعلامية والثقافية.
وإذا كانت الثقافة العربية ثقافة أصيلة، وهذا أمر لا يرقى اليه شك، فإنها قادرة إذن على خلق نوع من الاستقلالية والخصوصية لذاتها، باعتباره مطلبا تنمويا، لا يعني الانعزال والتقوقع. وبمعنى آخر الثقافة الأصيلة هي بالضرورة ثقافة تنموية منتجة وليست مستهلكة، هي ثقافة رافضة للتبعية وللاستهلاكية ومنمية لرغبة التغيير والابداع. فالأمم تتطور بتطور علومها وتقنياتها، وقدرتها على النهوض مرتبطة بمدى قدرتها على ايجاد التغييرات اللازمة لتطوير حركتها التصاعدية وعلى نوعية استجابتها للمتغيرات والتحديات الخارجية.
ولكي يتسنى للثقافة العربية لعب دور فاعل في هذه التحولات والمتغيرات الراهنة والمستقبلية لا بد ان تقوم الجهات المسؤولة والمؤمنة برسالتها في أقطار الوطن العربي كافة، بالعمل الجاد على جملة من المحاور الأساسية مثل:
إنشاء هيئة عربية علمية مشتركة ذات صفة مستقلة مدعومة برساميل عربية ويتركز عملها على القيام بدراسات وأبحاث متخصصة تهدف الى تعزيز القدرة التنافسية للثقافة العربية أمام هذا الزخم الثقافي والمعلوماتي.
تطوير الإنتاج المعرفي الثقافي بالاستناد الى تاريخنا الحضاري وخلق قنوات صحية للتفاعل والتلاقح مع الحضارات الأخرى، وهذا سيدفع الى إعادة تركيب المعرفة بما يتلاءم والمرحلة الراهنة والمستقبلية. كما ان وجود منهجية للحوار مع الثقافات الأخرى يساعد في عملية الفهم الثقافي للآخر وللذات أيضاً.
تطوير عمل المؤسسات الثقافية العربية من حيث الكم والنوع بوضع استراتيجية معلوماتية بغية تحقيق قفزات نوعية في المسيرة الثقافية والمساهمة الجادة في الانتاج المعرفي والعلمي، وكذلك العمل على ايجاد أطر وقنوات قادرة على استيعاب هذا الزخم الكبير من المعرفة والمعلومات.
تعزيز مواقعنا الثقافية على الانترنت، من خلال شبكة معلومات عربية يتم انشاؤها لدخول هذا الحقل، كمنتجين لا كمستهلكين فقط.
هذا الى جانب العمل على محاور أخرى عديدة وفي حقول معرفية متنوعة للتأسيس لقواعد انطلاق نحو آفاق ثقافية أرحب، بعيداً عن الأطر التقليدية الضيقة او الخيارات المهينة. فالمهمة الثقافية الكبرى المنوطة بالمثقف العربي، في خضم هذه التحولات الراهنة والتحولات المستقبلية، هي اشتغاله الدؤوب على بناء عقل مدرك لحركة التاريخ وسيرورته، وانتاج خطاب ثقافي قادر على استيعاب الثورة الثقافية استيعابا جدلياً نقدياً قادراً على فهم كل التناقضات بهدف تجاوزها.
وهذا يتطلب وعياً حضارياً خلاقاً وتعزيزاً لآليات هذا الوعي وتكثيفها في حياتنا وممارساتنا العلمية والعملية.

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved