Thursday 24th January,200210710العددالخميس 10 ,ذو القعدة 1422

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ثقافة المعارض الفنية ( 3-3 )
أ. د. كمال الدين عيد

3 التأثير والجماهير
من المنطلق العلمي، ومن المعقول أيضاً أن يكون هدف أي معرض من المعارض أياً كان نوعه هو التأثير على الجماهير الزائرة. فما هي الخطوات السيكولوجية الموصلة إلى التأثير؟ نعرف أن علم الحركة (الكيناتيكا) KINETICS علم يدرس أثر القُوى في حركات الأجسام، كما أن النظرية الحركية تقول بأن دقائق المادة هي أبداً في حركة ناشطة. وقد ألمحت التجارب العصرية إلى ما يُشير إلى أن فُرص التأثير عادة ما تلتحم مع أشكال التعبير في معارض الفن التشكيلي. يؤكد التشكيلي الألماني شافر SCHOFFER على أن التأثير كفعل وحدث ينقل السكونية المستقرة من القطعة الفنية المعروضة ليُكملها عبر سلسلة من التأثيرات الديناميكية بوسائل فنية هامة. فالحركة في النور المُسلط على المعروضات، ووسائل فاعلية بصرية أخرى تُوسّع بالخداع البصري من مساحة المعرض، الأمر الذي يوفّر للرائي علاقات جديدة غنية في الرؤيا تُصبح كأداة وصْل وحلقات ربط تُحوّل ظلال النور إلى موجات تستفيق فكر المتفرج عبر ديناميكية متحركة نشطة تُوصِّل إلى شكل مناسب.
علمية النظرية الحركية
تعمد الحركية في المعرض إلى التركيب الاصطناعي SYNTHESIS (وهو تكوين مُركّب ما من طريق التوحيد الكيميائي لعناصره أو من طريق الجمع بين مركبات أكثر بساطة) بغية الحصول على تأثير استقلالي وحُكم ذاتي على الكل بعد الجزء. إن الإعداد والتمهيد للحركية ADAPTATION لا يستهدف الولوع أو إثارة الانتباه فقط، بقدر ما يكون عنصراً من العناصر الوظيفية للمعرض ذاته. كما أن التأثير عادة ما يتخذ ويقود إلى عدة مفاهيم مختلفة بحسب المساحة ونظم خُطة عرض القطع الفنية في المعرض. وهو تأثير ذو طبيعة خاصة يختلف عن تأثير الفيلم السينمائي مثلاً. لماذا؟ في السينما يكون التأثير واقعياً محدداً. أما في المعرض فإن التأثير لا يصل دفعة واحدة أو (جاهزاً) حسب تعبير النقاد التشكيليين. فالمشاهد لا يتسلم القطعة الفنية جاهزة أو مادية CONCRERTE، لأنه يحتاج أولاً إلى قوة التخيل حتى يعي ويتعايش مع مضمونها وأهدافها. وهو ما يعني أن نشاطا عقليا أو ذهنيا عنده لا بد وأن يبدأ ليؤدي إلى إثراء قوة الكثافة وحدة التركيز. هذه الحركة الناشئة عن قوة مفاجئة، أو الاندفاع، هي موجة من اهتياج تُنقل عبر الأنسجة وبخاصة عبر الأعصاب والعضلات ينشأ عنها نشاط فسيولوجي مرهق وليس سهلا، لا بد من مراعاته والعناية به داخل قياسات دقيقة. ولماذا هذه العناية؟
لأن حدود قابلية الاستقبال للأعمال الفنية ومضامينها التي تحملها، ووسائل العرض، تحتاج إلى نسب معينة حتى لا تؤدي إلى مشكلات في العرض ذاته. ولعل عناية خاصة لا بد وأن تؤخذ بعين الاعتبار بين عناصر العرض الديناميكية والعناصر الجامدة غير المتغيرة STATIC. فوجود فرص لابراز علاقات فنية من شأنه ميلاد ديناميكية موضوعية ذات قوة هادرة. كما أن وجود تضاد في التصور أو المفهوم من شأنه تعطيل تأثير النتاج الفني.
تندرج أعمال الفن التشكيلي خاصة في العصر الحديث تحت نظام القطع الفنية المتسلسلة SERIAL التي يحركها باعث أو (موتيف) واحد يربط بين بعض هذه القطع وبعضها الآخر عبر موضوع أو فكرة أو هدف واحد. هذا النوع من الحلقات المتسلسلة يعكس حتى مع الفكرة الأساسية الواحدة تغييرات، ومحركات، واستدعاءات بين اللحظة واللحظة تكشف عن وجوه وتتفتق عن مظاهر وجوانب تقود الجماهير إلى مرحلة التأثير في النهاية، بفضل تأثيرات منمنمة قوية للمساحة والمسطح والعلاقة الديناميكية بينهما، إذ من الثابت سيكولوجيا أن ما ينتج عن المساحة والمعرفة وما يحمله الجسر القائم بينهما من استمرارية طبيعية يؤدي لا محالة إلى عنصر تمامية التكوين والتركيب، ففي مثل هذه الفنيات المتسلسلة فإن (الكلمة أو العبارة) في مساحة المعرض تحقق فكرة التسلسل. وهذه الكلمة هي حلقة الوصل بين الجماهير المُشاهدة في حركاتها وتنقلاتها بين مساحة وأرجاء المعرض، وهي الدافعة لها للتلاحم مع القطع المتسلسلة عرضاً. وهو ما يُدلل على تناثر العديد من المفاهيم السيكولوجية وسط أنواع عديدة من المعارض وأشكالها، حتى ولو كانت معارض ترفيهية كذلك، خاصة إذا ما كانت الكلمة مقتضبة (لفظة واحدة).
استغلال غرور المُشاهد
من أجل الحصول على تأثير المتفرج، تلجأ المعارض إلى استعمال كاميرا التلفزيون لتسجيل بعض اللقطات أثناء وجود المعرض. كل الجماهير ساعتها تود الظهور أو الوقوف أمام عدسات الكاميرا، من زاوية الظهور أو الزهو أو الخيلاء.
ويعتبر التشكيليون هذه المحاولات بمثابة العوامل الاستعراضية في المعارض.
وهي حركات تجذب الأطفال والشباب من رواد المعارض لرفع كل العقبات النفسية التي قد تصاحبهم وهم في زيارة المعرض. وقد لجأت العاصمة الفرنسية باريس إلى هذه المعارض الترويحية إن جاز لي التعبير والمسماة بالمعارض الإنسانية L'HUMANITEالتي تشتمل على بعض الألعاب الشعبية، وكذلك على بعض المشكلات الاجتماعية لحل بعض العُقد النفسية وملازمات الفكر الشبابي. هكذا يتسع حيز المعارض التشكيلية ليشمل التسلية والترفيه وقضايا حياتية أخرى.
في أحد معارض الدانمرك أُقيم معرض لأثاث الأطفال. استهدف المعرض مهاجمة قطع الأثاث الثقيلة والضخمة في حجرات الأطفال، على اعتبار أن أثاث حجرة الطفل لا بد وأن يأخذ في الاعتبار القدرات الجسمانية (الفيزيكية) والعوامل النفسية عند الطفل. فكيف كانت المعروضات؟ تكبيراً وتضخيماً للكراسي. دواليب غامقة اللون موحشة، أطباقاً من الفن التطبيقي والصناعي كبيرة وضخمة إلى حد اللا معقول. على هذه الصورة من المبالغة والتحريف والتشوّه ووسط هذا المحيط داخل هذه البيئة غير الواقعية يصل زائر المعرض. وأقل ما يقال عن الصورة انها ثقيلة الوطأة قابضة للصدر، جانحة إلى المعاناة والضيق عند الأطفال. وكان هذا هو الهدف من المعرض، إرشاد إلى البساطة والوضوح.
ومعنى ذلك أن أية موضوعات مهما كانت أنواعها بالإمكان إقامة معارض لها، طبعاً إذا ما توفرت علاقات وأمارات بين المساحة والزمن.
إن طلب التمامية ENTIRETY (أي كَوْن الشيء تاماً) لا يتعلق بدرجة التأثير، لكنه يتصل بما تقدمه الممكنات من توظيف أفضل وأمثل لما يُعرض من موضوعات. إذ على مصمم المعرض الإجابة من خلال معروضاته على موقع المعرض، وعلى الجوهريات الموضوعية في أحاسيس الجماهير، وهو يصل إلى تحقيق هذه وتلك من خلال طريقة تصميم المعرض والمعروضات، وطُرق تفسيره للفكر الذي يحمله، ووسائل العرض للجماهير في النهاية.
في معرض ايطالي أُقيم بهدف التعريف بتاريخ صناعة البلاستيك (وهو تاريخ غامض). ماذا فعل التصميم؟ المداخل الرئيسية للمعرض كانت كالمتاهة.. شبكة من الممرات المُعقدة المُحيّرة لزوار المعرض منذ أول انطباع. بعض الممرات نهايتها مسدودة تعيد الزوار إلى نقطة البدء مرة أخرى. مراحل نجاح صناعة البلاستيك، ومراحل فشلها أحياناً تنعكس على الممرات وطرقات المعرض. عملية البحث في تاريخ صناعة البلاستيك ظهرت للزوار في إطار رمزي، فالممرات المستقيمة أشارت إلى طرق النجاح في الصناعة، والممرات الملتوية المسدودة أحياناً أشارت هي الأخرى إلى العقبات على مر التاريخ. مثل هذه المعارض تستهدف بالدرجة الأولى المحافظة على الزائر، ومحاولة إيصال أهداف المعرض وأغراضه بعيداً عن المبالغة، وعبر معلومات مباشرة بعيدة عن التعقيد.
تستأثر المعارض التعليمية DIDACTIC وتصميماتها بكثير من البساطة الفنية على وجه الخصوص. لكن هذه البساطة لا تعني التخفيض في القيم الفنية للمعرض، لكنها تعنى تحديداً إبراز أعماق المعروضات وأعقدها في شكل رقيق مطلق (مثل عرض خطط التعليم العصرية، أو الطرق الحديثة لتعليم الرياضيات وغيرها). إن الأهم في مثل هذه المعارض التعليمية والتربوية هو عرض المعروضات والأعمال المدرسية وسط بيئة تعليمية هي المدرسة لوضع يد الزائر وأحاسيسه أيضاً على الحياة الحقيقية لمكان التعليم، والنظريات العلمية الحديثة، بين معروضات وكُتب ذات ألوان وأحجام عديدة ومختلفة، وبين بيانات مصورة أو مفهرسة وكتالوجات ومطبوعات.
وفي تجسيد واقعي جريء، تقيم ألمانيا معرضاً للِّحامْ.. والمقصود به لحام المعادن. الجماهير تعرف معنى وطريقة اللحام. لكن أن يجري هذا اللحام تحت الماء فهذا هو الغريب والجديد الذي أتت به الصناعة الألمانية. وضع المعرض حجرة زجاجية شفافة في عمق أرضي تحوطه المياه من كل ناحية، الحجرة هي الأخرى مليئة بالماء وبداخلها عاملان يقومان بلحام معدن من المعادن وسط الماء. ويصل التقدم الصناعي المذهل لزوار المعرض الذين يشاهدون التجربة من مكان أعلى. والنتيجة افتتان يخلب لب المشاهدين ويجذبهم ويلفت انتباهاتهم إلى درجة كبيرة. لكن.. إلى أي نتيجة تقودنا هذه النخبة من المعارض؟
لعلها تؤكد دَوْماً (الوحدة أو التمازج) الذي يجب البدء به بين المساحة والموضوع، وعندها سيكون الحل أو الطريق سهلا. فالنتيجة النهائية والأخيرة تعتمد بالضرورة على المُعطيات الموضوعية للمكان من ناحية الأفضل والأمثل، وكذلك على العلاقات العاطفية والحسّية التي يثيرها ويحركها الفهم للمعروضات الفنية، إلى جانب مؤثرات جانبية مثل الذوق الشخصي للفنان والرأي الذاتي لمشاهد المعرض.
عنوان المعرض
ماذا يعني العنوان لأي معرض؟ لا يوضع عنوان المعرض ليكون دعوة إلى الجماهير فقط، كما أنه ليس شعاراً، بقدر ما يكون معنىً لاستقبال الجماهير ومصاحبتها ومرافقتها طيلة وجودها وتحركاتها من زمن دخول المعرض الى نهاية رحلة الزيارة والخروج، وعنوان المعرض يحمل في مضمونه أكثر من مغزى، انه يعني الاستقبال الواعي الذي يفصح عن وعد صادق لعرض المقتنيات والفنيات تؤكده وتضمنه للجماهير عناصر فنية أخرى مثل المكان والتخطيط والتونات الموسيقية المصاحبة والعناوين الداخلية لاقسام المعرض، وكلها تفصح عن استراتيجية المعرض وبراعة التخطيط والتدبير، ونقل وتحويل TRANSTER من شيء إلى شيء آخر بالاحتكاك، أو هي تذكرة تخول حاملها حق مواصلة رحلة الزيارة الى نهايتها.
دخول المعارض عادة ما يكون بالمجان، وهو ما يسمح للزائر الذي تعتريه عقبات مادية أو ذاتية بالوصول الى المعرض، كما أن أي معرض بعد عنوانه لا ينتمي الا الى الموضوع، فمنظم المعرض عادة ما يكون مجهولاً أو في غير مكان ومستوى التركيز. فأهم الأهميات هي موضوعات العرض ومع ذلك فليس من الضرورة بمكان الارتكان كاملاً على العنوان، حتى يعكس العنوان بالدقة المعروضات. فمعرض مونتريال الذي أقيم عام 1967 بعنوان «الانسان وعالمه» MAN AND NIS WORLD لم يتمسك كثيراً بفكرة المعرض وأهدافه، اذ كان معرضاً للفكريات وروحيات الانسان الداخلية في غير مباشرة للواقعية عند المشاهد أو حتى قطعه الفنية المعروضة. وفي العصر الحديث تحللت المعارض كثيراً من أهداف الأسماء، وحلت موجة الأسماء المجردة بلا معنى كتيار جديد في نهايات القرن العشرين يدفع المتفرج بنفسه للتفكير والبحث عن اسم قريب لما يشاهده. صحيح أنه تيار يدفع الى الاحساس بالمشاركة، لكنه قد يوقع المتفرج البادئ في مشكلات التتويه وفقد الطريق.
أهم المعارض العالمية تاريخياً
من المفيد في نهاية هذه المرحلة الاشارة الى المعارض التي سجلها تقويم تطور المعارض. يبدأ مصطلح (معرض) في الامبراطورية الرومانية تحت اسم FORUM، وهو المصطلح الذي انتقل الي FAIR بالانجليزية، FOIREبالفرنسية، FORIA بالأسبانية، FIERAبالايطالية، MESSEبالألمانية.
بدءاً من القرن العاشر ميلادي تظهر المعارض سنويا في براغ ، وعام 1226م في مينا MESSINA بإيطاليا، ثم من عام 1257 في باروا بايطاليا ايضاً ثم في باري BARI من عام 1298، تشتهر عالميا معارض في لايبزج وليون، ويعرض الفيلسوف ورجل الدين الألماني مارتن لوثر النسخة الأولى مخطوطاً من الانجيل في معرض الكتب في فرانكفورت عام 1535م. تتوسع معارض الفن التشكيلي في فرنسا في القرن 18 ميلادي في الصالونات SALONS DES BEAUX ARTS.
في عام 1851م يخرج المعرض الدولي في لندن عارضاً التقدم الانساني احد روافد عصر النهضة الأوروبي ومبرزاً الاتجاهات الثقافية والاقتصادية وبخاصة ارتقاء الجنس البشري، ويأتي النصف الثاني من القرن 19 ميلادي بموجة المعارض الصناعية بعد انبثاق ثورة الصناعة في بريطانيا، وفي استهداف لإبراز التحضر والصفات المدينية URBANIZATION وتنمو جماهير المعارض إثر ذلك، اذ يبلغ زوار المعرض الصناعي الدولي في باريس المنعقد في قصر الصناعة PALAIS D'INDUSTRIE اربعة ملايين مشاهد عام 1855م. وما ان يحل عام 1899م حتى يزور المعرض الرمزي لبرج ايفل 32 مليون مشاهد. بينما يرتفع عدد زوار المعارض الدولية الأخرى في عدد من دول اوروبا الى 48 مليون مشاهد.
وفي القرن العشرين تعرض نيويورك عام 1939 معرضا لاجهزة التلفزيون، وتعرض اليابان عام 1970 في اوساكا OSAKA الأقمار الصناعية في معرض يذهل العالم آنذاك.
هكذا تدخل المعارض في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفنية. وهو ما يدلل على فلسفة المعارض، واتصالها اتصالا تأثيريا بالجماهير في كل مكان، الأمر الذي يحتم ثقافة واسعة ترتكز على قرن العلوم والتقنيات.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الرئيسية]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىmis@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved