إن تاريخ المسلمين مليء بالشواهد الانسانية والنماذج العملية الرفيعة التي تحمل مبادئها وتضطلع بمسؤوليتها تجاهد من اجل دعوة الاسلام جعلت من حياتها شمعة مضيئة وقنديلاً يتوهج على صدر الزمن فأصبحت أعمالها الخيرة وغاياتها النبيلة قلادة تزين صدر حياتها تؤمن بالكلمة الطيبة وتجسد العمل الصالح الذي يحمل الى الناس القدوة الحسنة. هؤلاء هم المصلحون ومعلمو الاخلاق واساتذة الحكمة لا تمنعهم مسؤولياتهم الجسيمة من اداء رسالتهم الانسانية تجاه دينهم وابنائهم خاصة اذا كانت هذه النماذج تنتمي الى أمة تؤمن بالوصاية على العالم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وصدق الله العظيم اذ يقول: {كٍنتٍمً خّيًرّ أٍمَّةُ أٍخًرٌجّتً لٌلنَّاسٌ تّأًمٍرٍونّ بٌالًمّعًرٍوفٌ وّتّنًهّوًنّ عّنٌ پًمٍنكّرٌ وّتٍؤًمٌنٍونّ بٌاللَّهٌ}.
واذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد نشؤوا في احضان النبوة وتخرجوا من مدرسة الايمان والقرآن فإن التاريخ يجود علينا بأناس نشؤوا في بيت احتضن أهل الدعوة والاصلاح في فجر تاريخهم، هذا النموذج الذي اقدمه الى القراء الاعزاء هو صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز الذي أوقف من ماله الخاص جائزة لحفظة كتاب الله من البنين والبنات في انحاء المملكة . هذه الجائزة تحمل في طياتها كثيراً من المعاني السامية لشباب الأمة في وقت تبدلت فيه المفاهيم وانتكست القلوب واختلط فيه الخير والشر في ظل الانفتاح الفضائي لمختلف القنوات الفضائية التي قد تبث الخير والشر وتصدّر الافكار الهدامة للنيل من امة الاسلام وتتجاهل حقيقة ماثلة لكل ذي عقل وبصيرة وهي ان الاسلام عقيدة وشريعة قول وعمل منهاج واخلاق وآداب وتأمل، فجاءت هذه الجائزة لتحفظ كلام الله في صدور أبناء الاسلام كما كان الرعيل الاول من الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون على حفظ الآية من وقت نزولها ويتدارسون الحق فيما بينهم بدلا من هدر أوقاتهم فيما لا يرضي الله. ولا شك ان الأبعاد السامية من حفظ كتاب الله تنطوي على ان القرآن شفاء من الشبهات والشهوات أولا ففيه من البراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل فتزول به أعراض الشبه المفسدة للتصور الخاطىء للحق والعلم فمن أبصر الحق بقلبه انجلت عنه ظلمة الباطل، وأما الشفاء وهو الجانب الثاني منها فهو الشفاء من مرض الشهوات وذلك بالموعظة الحسنة والترغيب في ذات الله والبعد عن محارمه فعرض في مجمله قصصاً فريدة، وأمثالاً صادقة تخلق في قارئه وحافظه حسن الاستبصار وأخذ العبرة وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم كتابه: {وّنٍنّزٌَلٍ مٌنّ پًقٍرًآنٌ مّا هٍوّ شٌفّاءِ وّرّحًمّةِ لٌَلًمٍؤًمٌنٌينّ}.
أما البعد الثاني فهو استعمال نعم الله كالسمع والبصر والادراك والقلب في طاعة الله وتعريفه بخالق هذا الكون ومدبره: {وّلا تّقًفٍ مّا لّيًسّ لّكّ بٌهٌ عٌلًمِ إنَّ پسَّمًعّ وّالًبّصّرّ وّالًفٍؤّادّ كٍلٍَ أٍوًلّئٌكّ كّانّ عّنًهٍ مّسًئٍولاْ} وهذه الدعوة من الله الى استخدام الحواس الظاهرة هي الانتفاع بهذه الرؤية كوسيلة للبصيرة والاهتداء بل ان تعطيلها فيه ذم وزجر {وّمّا يّسًتّوٌي الأّعًمّى" وّالبّصٌيرٍ وّلا پظٍَلٍمّاتٍ وّلا پنٍَورٍ} خاصة إذا علمنا ان كلمة (تعقلون) وردت 23 مرة.
أما البعد الثالث فهو فهم الظواهر الطبيعية وسلوكها في حفظ الكون ووحدة النظام. قال تعالى: {أّوّ لّمً يّرّوًا أّنَّا نّسٍوقٍ پًمّاءّ إلّى الأّرًضٌ پًجٍرٍزٌ فّنٍخًرٌجٍ بٌهٌ زّرًعْا تّأًكٍلٍ مٌنًهٍ أّنًعّامٍهٍمً وّأّنفٍسٍهٍمً أّفّلا يٍبًصٌرٍونّ} إن وحدة النظام الكوني وربط الأسباب بالمسبب هي مؤشر صادق لوحدة الخالق والإله: {ذّلٌكٍمٍ پلَّهٍ رّبٍَكٍمً لا إلّهّ إلاَّ هٍوّ خّالٌقٍ كٍلٌَ شّيًءُ فّاعًبٍدٍوهٍ وّهٍوّ عّلّى" كٍلٌَ شّيًءُ وّكٌيلِ (102( لا تٍدًرٌكٍهٍ الأّبًصّارٍ ,ّهٍوّ يٍدًرٌكٍ الأّبًصّارّ ,ّهٍوّ پلَّطٌيفٍ پًخّبٌيرٍ )103(}.
أما البعد الرابع فإن حفظ كتاب الله وتلاوته يعرف الناشىء بصفات الله وأسمائه الحسنى، فالعلم يدل على العليم والقدرة تدل على القدير والإحكام في الخلق يدل على الحكيم.
أما البعد الخامس فهي البشرى العظيمة لقارىء القرآن، فقد ورد في الصحيح ان قارىء القرآن مع السفرة الكرام وان منزلته في الجنة عند آخر آية يقرأها.
وأما البعد السادس فهي تزكية العقل والقلب واللسان في جميع تعاملاته الحياتية {وّنّزَّلًنّا عّلّيًكّ پًكٌتّابّ تٌبًيّانْا لٌَكٍلٌَ شّيًءُ وّهٍدْى وّرّحًمّةْ وّبٍشًرّى" لٌلًمٍسًلٌمٌينّ} ففي القرآن مجال للتحلي بأفضل الاخلاق. قالت عائشة رضي الله عنها في وصف خلق النبي صلى الله عليه وسلم (كان خلقه القرآن) رواه مسلم.
فهو كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فأقامت حروفه وحدوده وتطبيقه في كل مجالات الحياة تضمن للمسلم حياة سعيدة مليئة بحسن الفضائل وكريم الشمائل {پًيّوًمّ أّكًمّلًتٍ لّكٍمً دٌينّكٍمً وّأّتًمّمًتٍ عّلّيًكٍمً نٌعًمّتٌي وّرّضٌيتٍ لّكٍمٍ الإسًلامّ دٌينْا}.
أما البعد السابع فإن حفظ كتاب الله منجاة من مصائب الدنيا وفتنها فعن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم) قلت يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال: (كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن دعي اليه هُدي الى صراط مستقيم» رواه الترمذي ورحم الله شيخنا أبا الحسن الندوي عندما قال ان القرآن هو الكتاب السماوي الفريد الذي يتلى ويحفظ ويرتل في كل الامصار والاعصار.
إن تنظيم وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد مسابقة محلية على جائزة صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز لحفظ القرآن الكريم للبنين والبنات كل عام هو ثمرةمن ثمرات الأمر بالمعروف وتجسيد حي لدور ولاة الأمر في تشجيع النشء لابراز قدراتهم واطلاق مواهبهم للتزود من المعين الخالد لتحيا به نفوسهم وتزكى به طبائعهم ولا شك ان هذه البادرة الكريمة من سموه الكريم قد استحثت الهمم واشعلت روح التنافس الشريف بين البنين والبنات في مملكتنا الحبيبة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز وحسمت المسافة الزمنية بين حفظة القرآن في صدر الاسلام من الصحابة الذين حملوا مشعل المدنية والنور العقلي خلال عدة قرون وبين حفظته في العهد السعودي الزاهر والذين نسأل الله لهم اصلاح شأنهم فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
* عميدة كلية التربية للبنات للأقسام العلمية بالأحساء |