يُشكل خروج الطلاب من مدارسهم اثناء وقت الدراسة او تغيبهم ليوم كامل ظاهرة واضحة.. فانت حين تمر بجوار المدارس تجد بعضا من هؤلاء الطلبة وقد اخذوا يدورون حول أسوارها او تراهم جالسين على أرصفتها الخارجية او يقبعون في سياراتهم ناهيك عن اولئك الذين في بيوت أهاليهم، بحجج عديدة ونظرا لان هذه الظاهرة اصبحت تشكل قلقا ملحوظا فقد حاولنا التعرف على الاسباب التي تدفع بالطلاب للخروج وترك مدارسهم والغياب لبعض الحصص او ليوم او حتى لايام.
مذكرات في علم الحشرات
هندسة غريزية في عالم الزنابير!!
جميعنا نعلم منذ الصغر كيف يبني النحل خلاياه من مساحات متماسكة بدقة هندسية مدهشة لكن القليلين منا سمعوا عن الدقة التشريحية العجيبة التي تفرز بها الزنابير إبرتها في المراكز العصبية لضحاياها وهي من الخنافس والجنادب والعناكب قبل ان تحشرها في المغارات الصغيرة المخصصة لها. هكذا تموّن الزنابير الطعام لأجل اليرقة التي تنقف البويضة الموضوعة على الضحية المشلولة.
ونحن لن نخطىء التعبير، فالضحية مشلولة بالضبط وليست مقتولة. فلو كانت مقتولة لكانت بالنسبة الى اليرقة طعاما سيئا سريع الفساد ضربة واحدة تنزلها بمبضعها السام في المركز العصبي تشل الحشرة وتبقيها حية، لتأكلها اليرقة الشرهة فيما بعد.
يتألف الجهاز العصبي للحشرات من عقد عصبية متراكبة تربط فيما بينها وصلات او ألياف عصبية. وكل عضو في جسم الحشرة تقابله عادة عقدة عصبية. ولكي يشل الزنبور خنفسا فإنه سيضطر على هذا الاساس الى توجيه كثير من الضربات بإبرته السامة.
وهذا غير اقتصادي، بل انه يتمخض عن عواقب وخيمة بالنسبة الى الزنبور نفسه، فمصارع الثيران الجيد هو الذي يقتل الثور بضربة واحدة من سيفه بعد المصارعة الطويلة المرهقة. لكن يوجد نوع من الخنافس تسمى ذهبيات الأجنحة جميع المراكز العصبية فيها متقاربة، ويكفي توجيه وخزة واحدة لها في نقطة معينة لكي تشلها.
والزنبور المقرّن يختار من جميع الخنافس ذهبيات الأجنحة فقط ليحل معادلته الصعبة، ومع ذلك فإن هذا ليس عقلا، بل غريزة.
اشتهر المعلم الريفي الفرنسي المتواضع جان فابر (1823 1915) بملاحظاته وتجاربه الدقيقة الطويلة على الحشرات، وبخاصة الزنبور المقرّن. وقد ألّف كتابا عنوانه (مذكرات في علم الحشرات) بأسلوب روائي شيق. يقول في كتابه هذا:
(الغريزة تعرف كل شيء في ذلك المجال الثابت للأفعال الذي تخصصت له، لكن الغريزة لا تعرف أي شيء خارج هذا المجال. وقدر الغريزة ان تكون استبصارا عظيما للمعرفة وتناقضا مدهشا للغباوة في وقت واحد، وذلك تبعا للشروط التي يفعل الحيوان فيها، إن كانت طبيعية أم طارئة).
ويمكن تعريف الغريزة بلغة علمية اكثر جفافا بأنها افعال فطرية مطّردة من سلوك العضوية الحيوانية ردا على تغيّرات الوسطين الخارجي والداخلي. وقد أشار بافلون الى ان الغريزة هي منعكسات لا شرطية (فطرية) معقدة وقد كتب ما يلي: (من وجهة النظر الفيزيولوجية يستحيل إيجاد أي فرق جوهري بين ما يسمى بالغرائز والمنعكس الطبيعي).
والغرائز كثيرة جدا، وتجلياتها شديدة التنوّع بنفس مقدار شدة التنوع في أشكال تفاعل الحيوانات مع الطبيعة المحيطة. انما في المحصلة النهائية تكمن في أساس جميع الغرائز اثنتان هما: غريزة البقاء وغريزة استمرار النوع، والحيوانات التي لم تظهر لديها هتان الغريزتان بقوة هلكت بنتيجة الانتقاء الطبيعي دون ان تترك وراءها نسلا. وكلما استجاب سلوك الحيوان في شروط معينة لهاتين الغريزتين أكثر، ثبت هذا السلوك وراثياً برسوخ أكبر.
وفي هذا يقول سعيد معلقا على الموضوع: إنني اتفق معكم على ان طلاب هذه الايام يتهاونون في عمليات الحضور، وهم قد يأتون متأخرين أو يخرجون مبكرين ورغم اننا ننبههم إلى ذلك ونبلغ اهلهم احيانا الا ان الامر لا يحد من ذلك كثيرا.. وحين سألناه ولكن لماذا؟ قال: ربما يعود السبب الى تقاطع تعليمات ادارة المدرسة مع رغبات الاهل التي قد تكون نتيجة الحاح ابنائهم عليهم وثقتهم الزائدة فيهم وتقبل المبررات التي يقولونها لهم دون تردد، لكن الاستاذ ابراهيم في إحدى المدارس الثانوية يرجع المسألة الى ان المدرسة نفسها تخشى من الصرامة في تطبيق الانظمة نتيجة تعليمات وزارة المعارف التي تعمم عليهم باستمرار عن أهمية مراعاة الطالب واحترامه وعدم استخدامه الشدة معه أو التلويح بها وهو يرى ان الادارة تخشى إن هي تشددت في مراقبة الطلاب وفي التأكيد على التزامهم وانضباطهم ان يؤول هذا الى نوع من عدم الانسجام مع التعليمات، كما انها تخشى إن هي تدخلت ورفضت طلب الاهل وما يقدمونه من مبررات ان تغضبهم نتيجة تعاطفهم مع ابنائهم.
ان المدرسة تجد نفسها في حيرة بين تعليمات الوزارة وبين شفاعات الاهل.. اما الاستاذ حمد وهو مدرس للمرحلة المتوسطة فيقول: ان الذين يتسربون خلال الدوام او يتأخرون من الطلاب في هذه المرحلة واحد من اثنين: اما مريض واما أنه اضطر لعدم الحضور لسبب طارىء لكنه أضاف.. وهناك نوع ثالث، وغالبا يكونون من اولئك الذين بدأت عليهم علامات المراهقة يفعلون ذلك كنوع من اثبات الذات او التدلل على الأهل لانتزاع الاهمية.
في حين يعلق الاستاذ علي احد مديري المدارس الأهلية للمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية على هذه الظاهرة فيقول: لا تنسى ان هناك مئات الامزجة ومئات الاذهان وأنك لا تستطيع ان تستخدم في ذلك الفرجار والمسطرة وتضع دائرة هنا وخطا هناك.. ثمة عواطف انسانية وحساسيات ومشاعر لابد من احترامها.. نحن هنا نتعامل مع ذخيرة المستقبل رجالات الغد، نحرص على ان لا تكون رغبتنا في تحقيق الانضباط سببا في تحطيم شخصية الطالب او حتى في ايذائه نفسيا، نحن مهمتنا الاولى هي (التربية) وهي الطريق الى التعليم، نريد ان نتعامل معهم على أساس انهم اصحاب الفضل فيما يقومون به من اجل انفسهم، وأنهم يحسنون صنعا لذواتهم اذ يمنحون فرصة الاصغاء والتحاور ونسج خيوط الثقة فيما بيننا.. ولذلك فانه وعلى الرغم مما قد نجده من غضب أو ما قد نشعر به من عصيان لما نلقيه عليهم من هين القول ولينه وصادقه، اقول على الرغم من ذلك فان الحكمة تقتضي ان نفتش نحن عن الخلل فيما نحن ندرك ان اسهل وسيلة لتحقيق الانضباط هي الحزم والقوة والشدة، لكن ذلك اذا تم تطبيقه بأسلوب ميكانيكي دون حساب بأن الأمر يتعلق بكرامة ووجدان انساني فان هذا وان حقق الالتزام والمواظبة وحسن السلوك الظاهري فسوف يخلِّف في الروح جراحا لا تظهر عادة الا بعد حين، عندها لا نحصل على رجل راشد واثق خلاف ومبدع، وانما على رجل مهزوز متردد أو سلبي فاقد لشهية العمل والانتاج او حتى نوع من الرجال ينتظرون من يقوم بتسييرهم كما لو كانوا بلا ارادات.. اذ هم لا يستطيعون اداء اي عمل دون الاعتماد على من يقول لهم افعلوا كذا او لا تفعلوا كذا.. ولذلك فرغم ان التغيب عندنا في المدرسة موجود، وهو على اية حال نادر الى حد ما، إلا انني اسمع من زملائي في المدارس الاخرى بأن ظاهرة الغياب اصبحت لافته، ولهذا فإننا نتعامل مع الغياب من باب الحوار، يمكنك ان تقول انني وكل الاساتذة عندي والمرشدين للطلاب نأخذ المسألة معكوسة على انفسنا، اي نضع انفسنا في موقع الطالب ونحاوره على هذا الاساس.. نقول له: كنا نفعل ذلك حصل أن تغيبنا بحجة اننا نستذكر دروسنا، وأحيانا كنا فعلا نستذكر، لكن اصدقكم القول لقد اكتشفنا أننا كنا نضحك على انفسنا.. كنا في زماننا لا أحد يقول لنا ذلك، أولا لأنها كانت حوادث قليلة وثانيا لأن اساتذة زمان يسارعون الى العقاب ... وبعضهم لم يكن لديه التأهيل التربوي الحديث.. هل تصدق نفتح مع الطلاب حديثاً جانبيا، باعتبارهم اصدقاء.. نبدد الخوف والهيبة بيننا وبينهم والحمد لله نفلح في مسعانا الى حد كبير إضافة الى ان هذا يتم في الغالب بالتنسيق بيننا والاهل في حالة لو حدث غياب اصبح متكرراً.. ومع ذلك أؤكد لك ان هناك اسبابا اخرى للغياب بعضها له علاقة بالمناهج وبطبيعة النفس البشرية الملولة.
ويرجع الاستاذ عبدالله الغياب الى (دلع) شباب اليوم والى انشغال الاهل والى ضعف الاهتمام بالعملية التعليمية، والى وهم يسكن في عقول بعض الطلاب بأن لا فائدة من الدراسة مادامت الوظيفة غير متاحة وما دام الوالد قادر على تأمين عمل خاص له واذا نقلنا هذه التعليقات الى المشرف التربوي أحمد أجاب: هذه الأعذار ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد من جانب كما ينبغي ان لا تؤخذ مأخذ الجد من جانب آخر.. كيف يا أستاذ؟! نأخذها مأخذ الجد لأنها تشكل في تواترها بين الطلاب وهم في هذه السنوات الطرية، سنوات التكوين الوجداني والعقلي قد تكرس عوامل مثبطة ومحبطة وتغرس في اللاشعور احساسا بلا جدوى العلم والتعلم وبالتالي تعاف النفس الإقبال على المدرسة وعلى الكتاب، ان هذه الافكار قد تسبب حين تنتشر بين الطلاب حرصا على اختراع الاعذار لكي يتغيبوا عن المدرسة والاستهانة بالمواد الدراسية أو الاكتفاء بالتحصيل العلمي المتواضع الى حدود النجاح فقط لا التميز.
أما حين أقول علينا ايضا ان لا نأخذها مأخذ الجد فقد تكون في الغالب انواعا من الحيل اللاشعورية اسلحة نفسية لتبرير الغياب يجعل السامع، وهو الاستاذ حانقا قد لا يجد الرد نتيجة هذا العذر المغالط للحقيقة.. لكن تجربة الاساتذة حيال مثل هذه الاقوال التي يتذرع بها بعض الطلاب تجعلهم يدركون أنهم يفعلون ذلك أو يقولونه وهم لا يعنونه ولكنه من نوع التحايل بالكلام للخروج من المأزق، ومن باب الاعتداد بالذات في مثل هذا السن ليوحوا للاساتذة بأنهم يعرفون ماذا ينتظرهم في المستقبل.. وفي كلا الحالين علينا ان نقيس كل حالة تبعا لظروفها فالتقميم ربما لا يقدم حلا مرضيا، لأنه هناك طالب يقولها عن سابق تصميم وتصور وهذا ينبغي التعامل معه بجد وهناك طالب آخر يقول ذلك تقليداً باعتبارها عذراً أنقذ زميله من ورطة سابقة.
يبقى ان نقول ان ظاهرة خروج الطلاب من المدرسة اصبحت تشكل عامل قلق تربوي لدى الاساتذة ومديري المدارس وهم رغم ما يجتهدون فيه من اساليب التعامل الايجابي والتعاون بغرض التصدي لهذه الظاهرة ورغم التفاوت في التعامل معها من مدرس الى آخر ومن مدرسة الى اخرى.. فثمة اطراف للقضية ينبغي سماع رأيها.. هم الاهالي.. والطلاب انفسهم.. وفي العدد القادم سوف يكون لقاؤنا مع بعض أولياء الأمور وفي العدد الذي يليه سنترك للطلاب فرصة الدفاع عن انفسهم.. بذلك نكون قد اكملنا اضلاع المثلث.. والله من وراء القصد.
|