Thursday 2nd May,200210808العددالخميس 19 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

بعض التأويل بعض التأويل
مساءلة المألوف
د. حسن النعمي

شاع في تراثنا النقدي والادبي مقولات كثيرة شكلت خطابا ثقافياً مؤثراً في توجيه قناعاتنا وتأكيد سيادة او تغليب اتجاه على آخر، وفي تصوري فانه يجدر بنا ان نفتح حواراً مع هذه المقولات من اجل الوقوف على ابعادها المعرفية والثقافية ومدى علاقتها بالمفاهيم الحديثة، من هذه المقولات مقولة ابي عمرو بن العلاء حول تراثنا الادبي.
قال يونس بن حبيب: قال أبو عمرو بن العلاء:« ما انتهى اليكم مما قالت العرب الا اقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير». هذه مقولة جوهرية تصور نوعية تراثنا الادبي وحجمه في فترة ما قبل الإسلام، تنبع اهمية هذه العبارة لكونها تحدد نمط الموروث بأنه علم وشعر، والعلم الذي تنشد العبارة الايحاء به هو كل شيء من فنون القول غير الشعر. فليس المقصود بالعلم في هذا السياق ما أثر عن العرب من طبابة وفراسة وقيافة وغيرها مما يمكن ان نعتبره من المعارف العقلية. ان العبارة تؤكد صراحة على «قالت العرب» فما دام ان القول يحتمل الشعر والنثر، فقد خصت العبارة الشعر بلفظه، اما النثر فبلفظ العلم الذي تندرج تحته اشكال عدة من خطابة ومنافرات ومناظرات ومفاخرات وسجع كهان وحكم وامثال ووصايا وحكايات واخبار ونوادر وطرائف واسمار ولعل اهم ما ينطوي عليه النثر هو السرد بكل اشكاله الحكائية وبالتالي يصح ان نقابل بين الشعر من ناحية والسرد بوصفه جنساً نثرياً حكائياً من ناحية اخرى. المفارقة تكمن في دور السرد في تعزيز حضور الشعر. فمن المعلوم ان الاشكال تتعاضد وترفد بعضها بعضاً. غير ان الحالة الثقافية الخاصة بشعرنا العربي القديم جعلته متسيدا على كل الخطابات الاخرى، بل جعلت منه عنوان العبقرية العربية دون غيره من الفنون الاخرى، وحقيقة الامر ان شعرنا العربي عميق في مضامينه خصب في ايقاعاته، غير ان هناك عوامل اخرى ساهمت في تأكيد حضوره.
دائماً ما يستشهد بمقولة أبي عمرو بن العلاء في سياق الحديث عن التراث الشعري الجاهلي الذي ضاع جزء مهم منه في رحلة القرون قبل عصر التدوين.
غير ان استثمار العبارة لمصلحة الشعر جاء على حساب فن آخر هو السرد باختلاف انواعه. ان استنطاق هذه المقولة بعيداً عن سلطة الشعر سيفتح نافذة مهمة للتأمل في مصير السرد أيضاً. وهذه العبارة في تصوري مهمة في اعادة تقييم التجربة الابداعية القديمة برمتها. مفتتح القول والحوار يبدأ من مقولة ابي عمرو بن العلاء، وهي مقولة تنطوي على اقرار بحضور السرد في حياة العرب على نحو فاعل. غير ان الاشكالية هي في احتفالية النخبة في عصر التدوين وما بعده بالشعر على حساب السرد سواء في جمعه او تصنيفه او درسه وتحليله.
وهي عملية ضخمة اتخذت من الشعر دائماً خطابها الرسمي. لكن هل اختفى السرد تماماً. لقد كان السرد حاضراً لكنه حضور لمصلحة الشعر اكثر منه حضوراً لذاته. فكثيراً ما روت كتب الادب الشعر من خلال السرد وكان لتأكيد خصوبته. فرويت القصائد بمناسبات خيالية اسطورية، وقدمت القصائد بحكايات بليغة توجه انتباه المتلقى لمعنى من المعاني. بل انطوى بعض القصائد على تركيبة درامية سردية شديدة الوضوح، فخرجت من تأملية الى شعرية الى حكاية تروى من خلال الايقاع الشعري.
لا شك ان المتأمل سيرى ان الاشكال السردية على اختلافها ساهمت في حمل الشعر للناس بدءاً من القصائد الطوال، وانتهاءً بالمقطوعات المتناثرة في كتب الادب. فوراء كل قصيدة شاعر له حكاية ممتعة، واقعية او متخيلة. فامرؤ القيس شاعر تأطر شعره باللهو والثأر، بينما النابغة الذبياني تراوحت حياته المروية بين صداقته للنعمان بن المنذر وقصيدته في المتجردة، ومن ثم اعتذارياته، اما عنترة بن شداد فقد تجسدت حياته في دور البطل العاشق الباحث عن الحب والحرية. وبالتالي يصح ان ننظر للعلم في مقولة ابي عمرو بن العلاء على انه، على نحو او آخر، نتاج عقلي معرفي، بينما الشعر نتاج العاطفة، بل هو رؤية الذات للكون والحياة. ولذلك حق للعلم ان يمثل دور الرعاية الابوية للشعر وهو في نزقه وصبوته وعنفوان ذاتيته، وبهذا التصور نستطيع ان نتبين دلالة ان يأتي الشعر مسبوقاً او مؤطراً بحكاية او طرفة او نادرة او خبر او اي شكل من اشكال السرد. انها هذه الابوة السردية الحانية التي تنكر ذاتها لتمنح كل طاقاتها للشعر. ولعلها، دون ان نجزم، ظاهرة فريدة بين آداب العالم، تلك التي يحتاج فيها الشعر للسرد لكي يصل للناس، محققاً حضوره وسلطته.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved