Friday 10th May,200210816العددالجمعة 27 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

قصة قصيرة قصة قصيرة
اللوحة الثالثة!
فهد العبد الله

وقفت أمام تلك اللوحة طويلا، تأملت تفاصيلها الدقيقة محاولا تطبيق كل ما اعرفه من قراءاتي في الفن، تلك المعلومات التي لم تتجاوز بأي حال من الاحوال معرفة أمي بأسماء لاعبي فريقي المفضل.
كنت أرى نفسي في وحدة ذلك الشيخ الذي بدا متعبا وهو يجدف بقاربه في بحيرة تشبه تلك البحيرة التي طالما تمنيتها، وبجانبها ذلك الكوخ الذي زرعته روايات الرومانسيين وأشعارهم في تجاويف خيالي بجانب كثبان الرمال الذهبية والجبال السمراء الموجودة فعلا في واقعي وبيئتي هناك حيث ترقد مدينتي الصغيرة. تسللت عيناي الى حيث تجلس من يبدو عليها انها صاحبة المحل، رفعت عيناها بسرعة كأنما الهبتها نظراتي، ارتبكت ولكنها عاجلتني بابتسامة خففت من ارتباكي ثم سألتني ان كنت اريد المساعدة فتمتمت بهمهمات خافتة توزعت بين الشكر والتبرير بالرغبة في المشاهدة فقط، فعاجلتني بابتسامة اخرى وعادت الى اوراقها بينما عدت انا الى الشيخ وقاربه وبحيرته ولكني لم اجد تفاصيل غير تفاصيل وجهها. تمنيت لحظتها لو استطعت تأطيرها وتأملها كلوحة بدون ارتباك، إذاً لاستطعت عندها تطبيق كل ما اعرفه عن المذاهب الجمالية وهي تفوق بكثير معرفتي عن المذاهب الفنية.
انتقلت الى لوحة اخرى رأيت فيها سفينة كبيرة ترزح تحت وطأة عاصفة شديدة تكاد تقتلعها من البحر، تذكرت عندها عواصف حياتي التي تكاد تقتلعني بين الفينة والاخرى.
التفت بحذر هذه المرة نحو صاحبة المحل ولكن حذري لم ينفعني فقد كانت انهت عملها فيما يبدو وركزت نظرها علي مسبقا وهاهي الآن تمسك بي متلبسا فلم اجد مخرجا من ورطتي إلا أن بادرتها قائلا: لوحات جميلة.
تذكرت عندها ابطال القصص والافلام الذين يتخذون من جملة «كم هو رائع الجو هذا الصباح» مفتاحاً للحوار بينهم وبين حسناء تصادفهم ويودون التعرف اليها قال: شكرا لك. ثم سألت: هل أنت مهتم بالرسم؟ كنت في تلك اللحظة مستغرقا في عينيها وانا ابحث عن صورة ذلك الشيخ مبحرا فيهما بهدوء او عن تلك السفينة الكبيرة التي تصارع العاصفة، انتبهت لسؤالها فجاوبتها قائلا: انا مهتم بالجمال وهو اهتمام انطباعي فقط فلا املك الاسس العلمية في مجال الرسم.
قالت: الاحساس مهم ايضا «ثم مبتسمة» واذاً هلا اخبرتني الى أين قادك احساسك بين كل هذه اللوحات؟ اشرت الى اللوحتين ثم التفت الى حيث تجلس هي مانعا نفسي من الاشارة اليها، قالت: اهنئك على ذوقك واحساسك فعلا اخترت اجمل اللوحات واقربها الى نفسي رغم ان هناك الكثير ممن يختلف معي.
عرفت حينها انها مثلي تعاني من الوحدة والعزلة وتعاني من عاصفة شديدة وهم كبير في حياتها.
في تلك اللحظة دخل بعض الزبائن فسارعت بالهروب، كنت اهاب الوقوف في حضرة جمال من ذلك النوع وقتا طويلا، خرجت بعد ان قلت انني سأعود لاحقا لاخذ احدى اللوحتين.. لانني بالتأكيد لم اكن استطيع الحصول على الثالثة! توجهت الى فندقي الصغير قاطعا الشارع التجاري الذي لم يكن هناك غيره في تلك القرية الجبلية الوادعة التي اخترتها مصيفا لي، قطعت الشارع دون ان التفت الى المحلات ودون ان يصل أذني شيئا من احاديث المارة فقد كنت مشغولا هائما كعادتي دائما عندما اصادف عيونا جميلة. قبعت في شرفة غرفتي اتأمل منظر الشمس وهي تنشر ذوائبها الحمراء مؤذنة بالرحيل ينتابني ذلك الشعور المعتاد في هذه اللحظة، حزن يستولي علي كأنما الشمس محبوبة لي اودعها، ينتابني هذا الشعور رغم حبي لليل! افقت من رحلتي في عالم الشمس على الظلام وقد اطبق على رؤوس الجبال وسماء القرية، نظرت الى الساعة كان الوقت لا يزال مبكراً وصممت على اضاعة الوقت حتى يحين موعد إغلاق المحل فأباغتها بحجة الشراء ثم ادعوها الى تناول العشاء، لن افوت الفرصة ففي الصباح موعد سفري ولن اسافر «وفي نفسي شيء من حتى»، ولكن الوقت بدا يمر بطيئا كأنما هو يعاندني.
حلقت ذقني وسارعت الى اخذ حمام بارد رغم انني لم اترك عادتي في اخذ حمام مثله كل صباح حتى ذلك اليوم، اخرجت ملابسي ورميتها على السرير محتارا ماذا ألبس انها فنانة ولابد ان يكون داخلاً من ضمن تقييمها لي ذوقي في اللبس، تخيلت عندها نفسي مراهقا ألبس بدلة كاملة وانتظر حبيبتي عند باب مدرستها ممسكاً بوردة حمراء.
بعد ان استقريت على ماذا ألبس خرجت من الفندق وبدأت اتمشى في المحلات التجارية بملل مقلباً الكثير من البضائع المحلية الصنع دون ان اشتري شيئاً وحتى الاواني المنزلية عبثت بها، وصلت الى مقهاي الصغير الذي تعودت الجلوس فيه منذ قدومي الى القرية، جلست وطلبت فنجاناً من القهوة وانا انظر الى ساعتي لايزال الوقت مبكراً. رشفت قهوتي بسرعة رغم اني كنت قد قررت ان اطيل وقت تناولي لها عن الوقت المعتاد لكنها فيما يبدو احدى عاداتي السيئة التي لم استطع التخلص منها. نظرت الى ساعتي، يا الله! كل هذه الذكريات لم تنه وقت انتظاري الذي طال!
عندما حان الوقت رميت بالحساب على الطاولة وقمت مسرعا وتوجهت الى محل اللوحات، عندما وصلت رأيتها من خلف الزجاج منهمكة في اوراقها، هل يعقل انها لم تغادر مكانها منذ ذلك الوقت؟!!
دخلت الى المحل فرفعت عيناها والتقت النظرات فبادرتها بالتحية بينما بادرتني بابتسامتها الكونية، ردت التحية ثم قالت: كيف كان يومك؟
قلت: لا بأس به لولا ان اللوحة سرقت تفكيري ووقتي.
قلت وانا افكر الى اين سوف يذهب بنا الحوار: لم اقرر فهل اطمع في مساعدتك؟
قالت: ولكن في اللوحات بالذات ليس هناك مجال للمساعدة فهذا امر يتعلق بذوقك واحساسك انت.
قلت: ذوقي لم يسعفني او ربما هناك ما شوّش عليه وقد ضقت ذرعاً بهذه الحيرة وان لم تساعديني فسأنفض يدي من هذا الامر نهائيا.
ضحكت وهي تقول: يا ساتر! يبدو ان صبرك محدود جدا.
قلت مبتسماً: وخاصة فيما يتعلق بالجماليات.
قالت: حسناً دعني أرى.
وبدأت تتأمل اللوحتين وانا افكر كيف افاتحها في الموضوع، لقد قطعت نصف المشوار ولم يبق إلا أن أتكلم، عندها صرخ ارشميدس في داخلي: وجدتها، عندما تحدد لي اي من اللوحتين سوف اطلب منها قبول دعوتي للعشاء في المطعم المقابل كنوع من الشكر لأنها ساعدتني في حيرتي وكعربون صداقة. افقت من استغراقي في التفكير على ضحكتها وهي تقول: يبدو ان عدوى الحيرة انتقلت الي ولكن دعني اقترب اكثر من اللوحتين ربما يساعدني ذلك في اتخاذ القرار. عندما اكملت كلامها نظرت الى كرسيها فوجدته قد عاد الى الخلف متيحاً لها فرصة للنهوض ولكنها لم تنهض.. بل التف الكرسي الى اليمين وبدأت هي تحرك ذراعيها منزلة إياهما الى الاسفل بحيث لا اراهما.. واذا بالكرسي يتحرك من مكانه وهي تتقدم نحوي بكرسيها المتحرك ذي العجلات الكبيرة!! نزلت بنظري فوجدتها وقد غطت نصف جسمها الاسفل بشال كبير يغطي ساقيها وقدميها! يا الله كيف تتلاعب بنا هذه الدنيا وكيف نتوهم المعرفة وتظل الحقيقة غائبة حتى لو اقسمنا اننا رفعت نظراتي الى عينيها - محاولا اكمال الدور - فوجدتها قد انهمكت في تأمل اللوحتين ناقلة بصرها بينهما بهدوء وسكينة كأنما هي لا تشعر بتلك الدوامة التي عصفت برأسي واغرقتني في بحور من الدهشة والحيرة والارتباك.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved