Thursday 23rd May,200210829العددالخميس 11 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

إبراهيم منصور إبراهيم منصور

بورتريه
لا يمكن لأي شخص رآه وعرفه وخبره أن يعرف كيف يشمله بوصف سوى اسمه، أصبح ذكر اسمه لمن يعرفونه يغني عن ذكر الحالة التي اسمها ابراهيم منصور. كيف يكتب المرء عن شخص قريب جدا، مسألة غاية في الصعوبة، لكني سأحاول، سأبتعد عن ما يمثله ابراهيم منصور المناضل السياسي، لأني لا أعرف دهاليز السياسة ولا أحب أن أتوه فيها، لكن هذا لا يمنع ان أذكر ماذا يفعل الآن، يعتصم الآن لليوم الرابع على التوالي في مبنى نقابة المحامين ويضرب عن الطعام وهو في الخامسة والستين من العمر، هو ومجموعة من المثقفين، مطالبا بطرد السفير الإسرائيلي وقطع البترول عن إسرائيل. واذا كنت تعرفه جيدا، ستعرف أنه بالتأكيد وراء هذه الفكرة، وأنه بالتأكيد كان من جمع الناس ورتب للمسألة. ويقول «حتى لا يشعر المرء أنه كرسي». كرسي، ابراهيم منصور من المستحيل أن يكون كرسيا وهو الذي لا يعرف الراحة، وهو بنحافته الشديدة، وحركته العصبية، يجعل تعبير كتلة من الأعصاب، تعبيرا غير مجازيا بالمرة. ابراهيم منصور، مؤسسة ثقافية في رجل واحد، رأيته حين كان يعد الملحق الثقافي الذي ظهر في مجلة الهلال لفترة من الوقت في السنين الأخيرة تحت عنوان من الهلال للهلال. رأيته يجمع المادة من الأصدقاء والمعارف، يجلس بجوار هاتفه، وبصوته العالي والذي يزداد علوه حين يتحدث في التلفون، يكلف شخصا بالكتابة في المعرض التشكيلي الفلاني، ويطلب من آخر الكتابة عن الحفل الغنائي الأخير، وثالث عن فيلم سينمائي يقول شيئا ما، وكل حسب اختصاصه، وتتعجب لمتابعته الدقيقة لكل ما يجري في الساحة الثقافية المصرية، من كتب الى موسيقى الى معارض تشكيلية.
وهو الناقد الأدبي الأول في مصر كما قال عنه نجيب محفوظ، قد لا تصدق هذه المقولة، لكن اذا رأيت كيف يسعى إليه كتّاب مصر ليضعوا بين يديه كتبهم، ولو رأيت كيف تتجمع آخر إصداراتهم عنده، وأحيانا حتى قبل ان تصدر، وقد رأيت الكاتب المبدع سعيد الكفراوي وهو يسأله باهتمام بالغ، اذا كان قد قرأ آخر قصة نشرها في ملحق الأهرام، ليس مرة او مرتين بل عدة مرات. لو رأيت كل ذلك، لأدركت أن نجيب محفوظ كان يعني ما يقول، وبعد كل ذلك، لا تعتقد ان الكتّاب ينتظرون رأيه لأنه سيكتب عنهم، او ينالهم رضا ما اذا رضي هو عنهم، فهم يعرفون أنه لا يكتب في الصحف، لا ينشر ابراهيم منصور رأيه. لماذا يسعون اذاً اليه، لماذا يخشونه، لسانه الحار، ربما، وربما لأنهم يشعرون انه ضمير الساحة الثقافية الذي عيّن نفسه بدون ان يعيّنه أحد كما يقول الكاتب الكبير سيد خميس، لكن الواضح أن الكتّاب قد بايعوه ولو خفية.
يجلس في بيته العتيق، الذي لم يتغير فيه شيء، وتعرف أن لن يتغير فيه شيء، سوى لوحات تشيكلية، يضيف واحدة او يبدل مكان أخرى، كان قبل عدة سنوات علق مجموعة بورتريهات صغيرة لفان جوخ أحضرها من هولندا. وتلاحظ انه لا يعلق فنا تجريديا، ربما لا يحبه، او لا يؤمن به، لم أسأله، لكن أعتقد ان شخصا صادقا وحادا مثله، لا يمكن ان يكون مدعيا أبدا.
حين قامت الدنيا ولم تقعد على ابراهيم أصلان، أحد أصدقائه الذين يحبهم ابراهيم، رأيته وهو يجمع إمضاءات المثقفين والفنانين، اعتراضا على ما يحدث، جمع بعضها بنفسه، وكلف آخرين كي يجمعوا اخرى، لكن كان دائماً هو المتابع والشديد الحماس، كل من حوله يستمد حماسه منه، كان يرسل الأوراق للطاولات المختلفة في المطعم الذي يتجمع فيه المثقفون والفنانون، واذا أبدى احد ما عدم رغبته في التوقيع، كان يذهب اليه بنفسه، كي يقنعه ويعود حاملا التوقيع، من يستطيع ان يقول لا لهذا الطوفان، لا احد، واذا حاول احد فعليه وحده ان يتحمل النتيجة، لسان لاذع، شديد التهذيب ولا يتفوه أبداً بأي كلمة خارجة او نابية، لكنه في ذات الوقت موجع وعنيف. في الليلة الأخيرة لجمع هذه الأوراق كان يدور بقدميه على جميع الأماكن التي يتجمع فيها المثقفون المصريون في وسط البلد، ذهب الى أربعة أماكن بين ناد ومطعم ومقهى، حتى آخر الليل، هل يستطيع إذاً ابراهيم أصلان، او المثقفون المصريون ان يفوه حقه. هذا الدون كيشوت الذي يأتي في زمن كهذا كي يعلم القادمين الجدد الى دنيا الثقافة، يجلسون في المقاهي ويلعبون الطاولة، معنى الحياة من أجل الثقافة، والكرامة.
يمشي بعصا ترافقه، ليس لعدم قدرة علي المشي، لكن للعصا فوائد كثيرة يقول، وترى مجموعة من العصي عند الباب يختار منها واحدة حين يقرر الخروج من المنزل، بالنسبة لي فهي مكملة لصورة هذا الرجل الذي يخرج لك من عالم آخر، من زمن آخر، زمن النضال، زمن الأصدقاء الأوفياء، زمن الأحلام الكبيرة، والصراعات الكبيرة، زمن تحققت فيه أشياء، وخابت فيه أشياء، زمن عظيم لأناس عظماء.

د. هناء الغامدي

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved