Monday 3rd June,200210840العددالأثنين 22 ,ربيع الاول 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

آن الأوان.. فيا صغيري لا تنم آن الأوان.. فيا صغيري لا تنم

إنها زخة الموت الملوث بالفجيعة يا أبي، إنه الرصاص يجوب أرصفة المدينة والمخيم والسطوح المشرئبة، إنها شهقة البارود تخترق الحواجز والمتاريس التي فقدت أحبتها وأصوات المنشدين، إنه الموت لا يعنيه وقت أو مكان.. إنها الحرب يا أبي!
إنها ذاتها عزيزة العزيزة التي ذُبحت في مخيم صبرا وشاتيلا، شكلها، صوتها، كلماتها، أنّاتها،.. أذكرها، أعرفها كما هي بتفاصيلها الحزينة، اليوم التقيتها بعد أن غابت في غياهب تلك السنين، تحسّستها، تفقّدتها، تأملتها، نظرت إليها من بعد.. هل انبعثت من جديد يا عزيزة؟ هل لملمتِ أشلاء قلبك الجريح وآلامك وآمالك وأحلامك؟.. هل ستمكثين طويلاً؟.. هل أنت راحلة؟.. ماذا لديك اليوم يا عزيزة؟ لماذا عدتِ مضرجةً بالدم، مضمخةً بابتسامات أطفالك الذين تناثرت لحومهم تحت الأنقاض؟..
عشرات الأسئلة يا أبي.. ظننت أني فرحت بعودتها.. فرحة العجوز بلذة ذكرياته الطائشة! ألم تمت عزيزة يا أبي؟؟؟رددتها مرات ومرات في صغري، تألمت من أجلها، عشتها بل عاشتني، عادت.. وأصبحت صورتها خلال اجتياح رام الله، وباقي المدن الفلسطينية، ولربما مخيم جنين تحدّق بي، تسكنني، تلازمني، وإن اختلف المشهد، بدأت في هذه الآونة المقيتة تصارع هدوء نفسي وتنهكني، بدأت تتسرب إلى داخلي لتفجر ذاك الوجع والألم، أو ذاك الغضب المستكين منذ حين، أخذتني معها إلى ذاك الزمان المؤلم، وبدأنا نسرد سوياً عن ظهر قلب قصة عزيزة العزيزة في مخيم صبرا وشاتيلا.. (سكت الكلام فجأة، وانساب من خلجانه صمت ودمع راجف سالت جداوله على شفة العروق دماً، وقهقهت القنابل والخناجر والرصاص..) امتطينا أنا وهي صهوة الألم، وأكملنا ملحمتك الرائعة يا أبي في أجمل ما كتبت عن ذكرى هذه المجزرة، وكيف عاشت عزيزة تفاصيل المذبحة لحظة بلحظة، كيف استباحوا دم أطفالها، كيف طارت روحها، وعادت في جلال صورتها من دم ولحم اليوم، وكأن التاريخ أعاد نفسه، وعادت كلمات قصيدتك تنقر ذاكرتي، وتقول إنها مازالت حية.
وتلاحقت الآهات، وأخذت تتسابق ممتطية ذكريات غربة العمر المرير، لم يفارق خيالي خلال فترة الاجتياح صورتك عندما كنت تلملمنا أنا وإخوتي الصغار حولك تروي لنا مسيرة التشرد والعذاب الطويلة على شكل حكايات أو «خراريف» جميلة، فتبدأ الحكاية من البداية.. من شجرة السدرة التي احتضنتكَ وعائلتك الكبيرة لأيام طويلة قبل أن تجدوا لأنفسكم ملجأً يقيكم حر الصيف وبرد الشتاء، كيف كنت تسير حافياً من إسدود إلى غزة لتؤمّن لأبويك وإخوتك الجياع ما يكفيهم للعيش ليوم آخر، مروراً برحلة النضال الأبية، والزنازين التي نالت من جسدك وأحلامك نصيباً ما زال يتوهج، وغربة أخرى كرّستَ عمرك تزرع في جوانحنا حب الوطن وأشواق الحنين، وفي نهاية كل حكاية تؤكد لنا بأننا عائدون (رح نرجع يا ولاد، حتى لو حملتكم انتو السبعة على ظهري وأروح فيكم سباحة على شط إسدود أو غزة يابا).. ننفض من حولك ليحمل كل منا همّاً وأملاً وعزماً على مواصلة النضال الذي لا يكل، كانت كلماتك تسيطر على عقلي الصغير فلا أتعب في البحث عنها في داخلي، وكأني كنت أنسى عيوني وآذاني وقلبي في زمانك، وأريح نفسي المثقلة بهومك، فأقول تارة إنها مجرد حكاية تسلينا، وتارة اتساءل هل سنقضي يوماً إلى نفس المصير..، ألن نعيش حياة عادية مثل باقي اطفال العالم.. هل يحلم أبي بالعودة..؟.. وعدنا يا أبي.. لنرى البلاد من خلال عيونك، ونشتمّها من خلال أنفاسك، ونلمسها، ونتذوقها فتسيل في شراييننا.. وتناسينا ما حلّ بك وبأمي وجدي وجدتي، تناسينا ولا ننسى ما حل بعزيزة العزيزة.. اليوم قضّت مضجعي هذه الحكاية الأليمة، وفاجأتني لأكتشف انها حقيقة قديمة جديدة، كنت على يقين أننا عدنا لنعيش متعة الحياة التي بحثتَ عنها وتمنيتَها لأجلنا، ولكن لم تترك الصدمة مكاناً لمراجعة أحاسيسنا وتنبؤاتنا وأمنياتنا، إنه هو نفس المجرم يا أبي.. لوّث أحلامنا الصغيرة بغبار الموت، وزعيق الأباتشي، وهدير الدبابات، وأشباح الغزاة والقراصنة، وجعلنا نعيش تفاصيل حكاياتك ولكن هذه المرة في البلاد.. لا تيأسوا، لا تدعوا هذا الوحش يكسر من عزيمتكم وحبكم للبلاد، هذا ما يريدونه، لا تكرروا أخطاءنا، ناضلوا من أجل أولادكم، موتوا في بيوتكم ولا ترحلوا.. كلماتك القديمة الجديدة يا أبي.. وجدتْ مكانها كما كانت دوماً في عقلي وفي قلبي بل وأخذت أعلمها لصغيري الذي طالما حلمت بأن يعيش في وطنه، ليمر من هذا الشارع فيقول هنا ولدت، وهذه مدينتنا، وهنا مدرستي، وليجد له في كل مكان ذكرى وحبا يربطه بالوطن.
خرجت بعد أيام الاجتياح الطويلة وكلي خوف ورعب من رؤية الدمار والخراب، من رؤية أحبائي في رام الله ونابلس وجنين التي عبثتْ بهم يد الحقد المتغطرس.. زرت البيوت المهدمة على رؤوس أصحابها، وبعض عائلات الشهداء وبعض الأطفال الذين لا تجد في عيونهم إلا الأسئلة ذاتها التي كنت أبحث عن إجابة لها عندما كنت في عمرهم.. رأيت مائة عزيزة في تلك النساء اللاتي فجعن بأطفالهن كما فجعت عزيزة في ذاك المخيم، ورأيت ذاك التصميم والإرادة التي لا تكسر، تفوح من عطر أثوابهن المطرزة بحب الوطن والإصرار على البقاء والوجود، تماماً كعزيزة، ولكن عزيزة لم تجبني عن أسئلتي الكثيرة بل همست لي من بعد.. إننا باقون.. مثل الحجر والشجر، مثل الحجر والشجر.
عدت خائرة القوى، خائفة من لعبة تبادل الأدوار، لأجد نفسي يوماً ألملم أطفالي من حولي وأسرد لهم قصة جدهم وأبيهم وأمهم، خائفة من ذاك المستقبل الغامض، فيأخذ طفلي دوري ودور جده في هذه الحكاية الطويلة.. والقاسية، والمتوهجة بالأمل والخلاص.. الطويلة جداً. ضمدت جراحي، ونهضت، ولاح بريق الكلمات التي ختم بها أبي قصيدته الرائعة عندما استيقظ البرق المدثر بالمطر.. ذهبَ الكبار، وأثمر الرحم الفلسطيني آلاف الصغار، كبرَ الصغارْ، وأطلعوا مليونَ شمسٍ في النهار.. حينما قالت عزيزة لطفلها المبتور نصفا.. (انهض فهذا حبلنا السرّي مشدود برحم الأرض والزيتون والحق المبين، انهض فهذا يومنا، ولَدَته من مهج العواصف أغنيات الانتفاضة.. آن الأوان فيا صغيري لا تنم.. آن الأوانْ.. فالصبح أقبلَ في مناقير الحمامْ.. طارَ الحمامْ.. هدّى الحمام.. طارَ الحمامْ.. حطَّ الحمامْ».
ملاحظة:
عزيزة العزيزة هي رمز صمود المرأة الفلسطينية كما صوّرها أبي في قصيدة في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا في العام 82، لتصبح نفس الرمز في ذكرى المذابح والمجازر التي عاشتها النساء الفلسطينيات في مخيم جنين، نابلس، رام الله، رفح.. وفي كل مخيمات ومدننا الفلسطينية الباسلة.

سمر عبدالرحمن عوض الله

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved