في بداية الثمانينات الهجرية كنت طالباً في المرحلة الابتدائية، وكان لدي صندوق بريد خاص، أتلقى فيه رسائل أصدقائي من هواة المراسلة وجمع الطوابع، كان البريد ملاصقاً لمركاز أو بقالة الوالد عليه رحمة الله، وكنت لقرب البريد لا أترك فرصة دون المرور عليه، قد تكون هذه الفرصة عدة مرات في اليوم الواحد، كانت الرسائل تصب في الصندوق من كافة الدول العربية، وفي كل رسالة كم من الطوابع والمناظر الطبيعية والصور الفوتوغرافية، وكانت هذه الرسائل عاملاً ضاغطاً على كل ما ادخره من نقود، فلابد من ارسال طوابع وصور ومناظر، لكل من يرسل لي، هذه هي القاعدة أو طريقة المراسلة، التي عرفت الطريق إليها من خلال مجلات الأطفال ومن الراديو ومن الأصدقاء. ولم تكن غلتي من الطوابع لتزيد من هؤلاء الهواة فقط، لكنها كانت تزيد أو تنمو وتتطور من زوار البريد، فقد كنت أقف لهم يومياً عند الباب، لأطلب من كل خارج، ومعه الرسائل التي وصلته، أن ينزع لي الطوابع، وكان الجميع كرماء معي، فكنت لا أعود إلى المنزل، إلا ومعي حصيلة وافرة من الطوابع، أبعث المكرر منها، وأبقي على الجديد، لأقوم بوضعه وتنسيقه مع الطوابع الأخرى.. وكان من بين هؤلاء الذين يرتادون البريد، شاب سوداني، أنيق ومعطر، أستعيد هذا الآن جيداً، وقفت له عدة مرات لأطلب منه الطوابع السودانية، وفي أحد الأيام أعطاني ذلك الشاب عنوان إذاعة ومجلة أم درمان، ولم آخذ وقتا لأرسل اسمي وعنواني إلى السودان، ثم لم يمض كثير وقت حتى بدأت رسائل السودان تنهمر على صندوق البريد، وعندما بحثت عن صديقي السوداني وجدته قد اختفى، كأنه أدى مهمته نحوي على أكمل وجه، أو كأنه أراد أن لا يتركني بدون طوابع السودان، هذا الشاب كان «سباعي أحمد عثمان».. عرفت اسمه عندما كبرت، وتحولت هوايتي من المراسلة وقراءة مجلات الأطفال وجمع الطوابع، إلى قراءة الصحف والكتب والمجلات!
كان سباعي قد وصل إلى المدينة المنورة للدراسة في الجامعة الإسلامية، وبعد مدة من مكوثه في الجامعة تركها إلى مكة، ومن هناك غادر إلى جدة، ليعمل محرراً في جريدة عكاظ، ولم أعرف اسمه وملامحه، إلا عندما ظهر من خلال جريدة المدينة، ومن خلال إشرافه على الباب الثقافي «دنيا الأدب».. في ذلك الوقت قلت هذا هو الذي كان يساعدني على تنمية هواياتي، دون أن أعرف اسمه أو يعرف اسمي، وهو الذي بعد ذلك أرسلت له أول قصة أكتبها، وعندما سألته عن تشجيعه لي، كان قد نسيني تماماً، فقد كان يوزع الطوابع وعنوان إذاعة ومجلة أم درمان، على كل من يطلبه من الباحثين عن الطوابع أمام البريد.. هذه المعلومة أصابتني بالإحباط، ثم بالإكبار لرجل يحب مساعدة الآخرين ليكونوا على وعي بكل جديد!
أرسلت له قصتي الأولى فنشرها في العام 1389هـ على حلقتين، وعندما زرت جدة بعد ذلك احتفل بي، عرفني على العديد من كتاب القصة الجدد، قدم لي بعض النصائح والارشادات، حول اللغة والأسلوب، ودلني على بعض الروايات والدراسات، ثم اختتم احتفاءه بي، بدعوتي مع مجموعة من كتاب القصة الشباب..!
كان سباعي أحمد عثمان يفعل ذلك مع كافة الأصوات، حتى عد المشجع الأول، وربما السبب الأول، في التيار الحديث الذي شهدته القصة القصيرة في المملكة، فمن «دنيا الأدب» خرجت أصوات «سليمان سندي، عبدالله السالمي، أنور عبدالمجيد، عبدالله باقازي، فهد الخليوي، عبدالله باخشوين»، ومنها خرج نقاد ودارسون مثل «محمد يعقوب تركستاني، وشاكر النابلسي» بل إن هذه الصفحة دفعت العديد من الكتّاب والشعراء إلى تجريب حظهم في كتابة القصة، حتى سباعي عثمان نفسه، أفرج عن موهبته المصقولة جيداً، في كتابة القصة فأخرج لنا ثلاث مجموعات قصصية، دلت على تمكن في الأسلوب واللغة، وهو الذي التصق اسمه في أذهاننا على كونه محررا صحفيا ومراجعا أو مصححاً في جريدة المدينة.
توطدت العلاقة بيننا فوجدت في «أبو سلمى» صديقا محباً للحياة وللناس، ولا أذكر أن سباعي عثمان غادر المملكة كثيراً، إلا عندما توفيت والدته أو والده، فقد اختار الاقامة في المملكة حتى وافته المنية وهو في عز عطائه، أذكر سباعي عثمان حين يشح عطاء المحرر، ويضيق خلقه، ويزهد في مساعدة كل موهبة لتتألق وتبدع.. كان سباعي عملة نادرة، في زمن كثرت فيه العملات المزيفة أو المزورة!!
|