* نيويورك - يسرية النحاس - أ.ش.أ:
يعد استخدام الولايات المتحدة لحق الفيتو للحيلولة دون تجديد مهمة قوة حفظ السلام الدولية في البوسنة ما لم يوافق مجلس الأمن على شرطها بمنح الجنود الأمريكيين في القوة حصانة ضد مقاضاتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية.. يعد فصلا جديدا من فصول المحاولات الامريكية لتقويض عمل المحكمة الجديدة التي بدأت عملها الاثنين الماضي.
فقد أثار هذا القرار ردود فعل مختلفة في أروقة الأمم المتحدة ترواحت ما بين الدهشة والتوقع والشجب والتخوف.
وكانت الولايات المتحدة قد سحبت موافقتها في ابريل الماضي على إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ثم حاولت في مايو الماضي أثناء التصويت في مجلس الأمن على تجديد مهمة قوات الأمم المتحدة في تيمور الشرقية طرح مشروع قرار يقضي بمنح الحصانة للعاملين في قوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة أو بتفويض من المنظمة الدولية ضد الاحالة أمام المحكمة الجنائية الدولية وهو مالم تنجح في فرضه.
ثم عادت الادارة الامريكية لفرض شرطها الخاص بحماية جنودها العاملين في قوة حفظ السلام في البوسنة مهددة باستخدام الفيتو وهو ما حدث بالفعل بعد ان رفضت الدول الاخرى الاعضاء في مجلس الأمن الموافقة على الشرط الأمريكي مما أدى إلى اقرار حل وسط يقضي بالتمديد لعمل القوة في البوسنة لمدة 72 ساعة فحسب ليبقى الشرط الذي تفرضه الولايات المتحدة سيفا مسلطا على رقبة المنظمة الدولية.
ويرى المراقبون ان المخاوف التي تتذرع بها الولايات المتحدة لتبرير طرحها لهذا المشروع ومقايضة موافقتها على تمديد عمل قوة حفظ السلام بالحصانة الدولية لجنودها لاتقوم على أساس سليم اذ ان المحكمة الجنائية الدولية الجديدة ستتعامل مع القضايا التي لاتستطيع المحاكم الوطنية أو لاترغب في نظرها بما يؤكد عدم المساس بسيادة الدول التي قد يحال بعض مواطنيها للمثول أمام المحكمة الجنائية.
والواقع أن الولايات المتحدة أثارت العديد من الاعتراضات والمشاكل التي جعلت من ولادة المحكمة الجنائية الدولية عملية عسيرة فقد اعترضت على سبيل المثال لا الحصر على التعريف الذي وضعه النظام الاساسي للمحكمة للجرائم المرتكبة ضد الانسانية وعلى ضم جرائم الارهاب وتجارة المخدرات واستخدام الاسلحة النووية ضمن جرائم الابادة الجماعية إلى جانب محاولتها تقييد حرية المدعي العام في التحقيق أو رفع الدعوى إلا بعد موافقة مجلس الأمن بالاضافة إلى قائمة طويلة من الاعتراضات التي اثارتها لتقليص نفوذ المحكمة الجديدة.
وتجمع الكثير من الآراء على ان منطق الرفض الأمريكي لا مبرر له سوى عدم رغبة الولايات المتحدة في ان تكون طرفا في نظام ما فهي الطرف الاقوى وهي القوة العظمى الوحيدة وبالتالي فهي التي ترسم ملامح النظام الدولي بكل تفاصيله ومن ثم فلا مجال لان تكون طرفا في أي شكل من أشكال الانظمة الدولية خاصة إذا كانت ملزمة لها وهو ما يعكس تمكسها بأحادية المواقف والقرارات.
ومثلما يعكس هذا الرفض الأمريكي رغبة أكيدة في ان تكون الولايات المتحدة هي صاحبة ومصدر القرار وليست من تمتثل له مثل غيرها من الدول فهي لاتريد ان تعامل على نفس الدرجة التي تعامل بها أية دولة أخرى ولا يمكنها قبول وجود سلطة أعلى من سلطاتها القضائية أو نفوذها السياسي وهو يعكس أيضا الرغبة في تعظيم السيادة الامريكية ورفضها لما ترى ان من شأنه المساس بهذه السيادة سواء كان ذلك متمثلا في قرار تصدره منظمة الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية.
ويرى المراقبون ان مرحلة ما بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر الماضي ضد الولايات المتحدة أسهمت في تمسك الادارة الامريكية بمفهومها الخاص لفرض العدالة الدولية والقصاص ممن ينتهك سيادتها أو أمنها وهو ما أثارالعديد من الانتقادات بسبب تجاوزاتها في مجال حقوق الانسان خاصة قرارها بشأن ظروف اعتقال من تعتقد أنهم من أعضاء تنظيم القاعدة والمسجونين حاليا في معتقل جوانتانامو وقرارا حالة البعض منهم ممن تعتبرهم شديدي الخطورة للمحاكمة أمام لجان عسكرية ورفضها السماح لهم بتوكيل محامين عنهم أو منحهم صفة أسرى الحرب.
ويلخص ريتشارد ديكر أحد مسؤولي منظمة هيومان رايتس ووتش المعنية بحقوق الانسان وضع هولاء المعتقلين بأنهم في حالة فراغ قانوني يثير القلق البالغ فهم ليسوا أسرى حرب من وجهة النظر الامريكية مما يعد تشكيكا من قبل الادارة الامريكية في القانون الانساني الدولي وسيحاكمون أمام لجان قد تفتقر إلى الحياد المطلوب للعدالة.
ويرى ديكر أن الولايات المتحدة تخوض بذلك حربا ايديولوجية ضد العدالة الدولية رغم أنها دولة ديموقراطية.
والواضح ان استخدام حق الفيتو الأمريكي وتأجيل البت في قرار تمديد عمل قوة حفظ السلام الدولية في البوسنة لن يكون آخر فصول محاولات الولايات المتحدة تقويض عمل المحكمة الجنائية الدولية فقد أشارت الانباء إلى أن الكونجرس الأمريكي يستعد لاعادة مناقشة مشروع قانون يهدف إلى توفير أقصى الحماية للجنود والمسؤولين الامريكيين العاملين في قوات حفظ السلام في العالم ويسمح للولايات المتحدة بالتدخل عسكريا لتحرير رعاياها في حالة اعتقالهم في مقر المحكمة الجنائية الدولية.
وبالموافقة على هذا القانون فلا مجال اطلاقا للحديث عن امكانية تعاون الولايات المتحدة مع المحكمة الجنائية الدولية أو قبول قرارتها بل انه سوف يثير مجددا التساؤلات عن حدود التدخل ومفهومه الجديد سواء أطلق عليه تسمية التدخل الانساني أو التدخل لحماية السيادة إذا ما أعتقل أحد الرعايا الامريكيين وأحيل للمحكمة الجنائية الدولية كما يهدد أيضا بحرمان الدول التي تتعاون مع المحكمة الجديدة من المساعدات الامريكية أو المساندة التي قد تحتاجها أي من هذه الدول.
غير أنه على المدى المنظور فإن أكثر ما يتعرض للخطر هو مهمة حفظ السلام في البوسنة في وقت لاتزال فيه غير قادرة على حفظ أمنها بنفسها كما يهدد مثل هذا القرار استقرارالوضع في البلقان بصفة خاصة حيث تشارك الولايات المتحدة بحوالي ثمانية ألاف جندي أمريكى في قوات حفظ السلام في منطقة حبلى بعوامل عدم الاستقرار والصراعات.
|