.. قبل عدة أشهر؛ وفد على حينا؛ جار جديد جاء من البادية، رجل طاعن في السن.. صوب إلى المدينة هرباً من شظف العيش في القرية، وهو يبحث بالدرجة الأولى عن «الأمن المائي»؛ بعد أن غاض ماء البئر في قريته وملح، والمزارع يبست أشجارها، والدار هناك أصبحت موحشة؛ لأن جيرانه هجروها قبله إلى المدن، وليس لديه من القوت ما يكفي أسرته؛ عوضاً عن أن يشتري لها «فنطاس» ماء كل أسبوعين، فما كان منه إلا أن حمل أطفاله العشرة من البنين والبنات، وأمهم ووالدته المقعدة؛ في صندوق «وانيت» قديم، فصوب نحو المدينة الصاخبة؛ يطلب رزقاً لم يأته في القرية كما يحب..!
.. بعد عدة أشهر من سكنه في المدينة؛ لم يستطع سداد إيجار المنزل؛ وداهمه المرض فأقعده، وانفرط عقد أبنائه العشرة، فأصبحوا مصدر شغب ومشادات وإشكالات؛ وصلت بهم وبخصومهم إلى أقسام البوليس، وما زلت أذكر كيف كان يتوسل بالمارة؛ لكي يساعدوه على الإمساك بهذا الابن أو ذاك، وظل الرجل طريح الفراش، يصارع المرض والقهر؛ حتى مات على بساط الفقر..! رحمه الله.
.. بعد رحيله بأسابيع قليلة.. تنازل صاحب الدار كما يقال - عن الإيجار، ورحلت الأسرة المكونة من أم وأطفال، وجدتهم المقعدة؛ عائدين إلى قريتهم القديمة..!
.. هذه حالة من آلاف الحالات؛ فمن درى بها..؟
.. وقبل شهرين على وجه التقريب؛ كنت في رحلة إلى ديار قبيلة العيلة، التي تقع في منطقة وسط بين تهامة والسراة من جنوبي الطائف؛ وفي الأودية التهامية منها؛ وجدت أكثر من «60» أسرة تعيش تحت سقف الفقر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فهي تقطن في غرف من قش أو صنادق في ظروف مناخية غاية في السوء، وفي ظروف حياتية صعبة، ينقصها كل شيء حتى الماء، وحتى الحد الأدنى من التعليم..! من بين هذه الأسر؛ أسرة سعيد بن حامد العيلي؛ مكونة من «13» فرداً؛ أكبرهم عمره «16» عاماً، وجميعهم يسمع بالتعليم ولا يعرفه..!
.. وهذه الحالة في وادي عورش وحمى رقية؛ تتمثل في قرابة «600» فرد من قبيلة واحدة في وادٍ واحد. ومثلها في هذه الجهات مثلما رأيت وسمعت؛ الكثير.. الكثير.
.. والمتتبع لما تنشره الصحف عن أحوال حياتية لكثير من الأسر، سوف يخرج بقصص «درامية»، قد لا يصدقها البعض البتة.. فهؤلاء أربع فتيات في الرياض؛ يعشن مع والدهن المقعد في ملحق بدون كهرباء ولا طعام، وهن مهمومات بالتفكير في كيفية سداد فواتير متراكمة، بعد عجز والدهن عن العمل، ويذهبن كل صباح لجمع فتات الأطعمة من المرامي..! «جريدة الرياض الاثنين 18 محرم 1423ه».
.. وفي صحف أخرى كثيرة؛ قصص من هذا القبيل، نورد بعضها على سبيل المثال.
.. فهذه أسرة مكونة من «12» فرداً؛ تعيش داخل صندوق حديدي في الصحراء، بعيداً عن العمران، لأن ضيق ذات اليد يطاردها، ولأن التعفف؛ يمنعها التكفف..!
.. وهذه أسرة أخرى تسكن منزلاً مهجوراً في أطراف محافظة جدة، لا ماء ولا كهرباء، ولا حتى آمال تدغدغ مخيلات الأبناء.
.. وهذا أب في جهة الليث؛ صنع قفصاً حديدياً في الصحراء؛ بعيداً عن أعين الناس، وقيد فيه أبناءه بالسلاسل، وراح يرمي إليهم ما يتوفر عليه من كسرات خبز آخر النهار..! ولا شيء غير ذلك..
.. هذا وهذا وذاك؛ بعض مما في البلاد، وليس عيباً أن يكون في مجتمعنا محتاجون أو فقراء، ففي أغنى بلدان العالم اليوم؛ فقراء ومحتاجون، ولكن العيب كل العيب؛ في طريقة التعاطي مع هذه الحالات؛ ففينا من لا يصدق ما يقرأ أو يسمع أو يشاهد..! وفينا من «قد» يصدق؛ لكنه يخجل من ذكرها أو تصورها، ويفضل ازواءها حتى لا يعرف بها أحد..! وفينا من يظن أن الفقر عيب وسَبَّة، وأن السعودي ينبغي أن يبقى في ذهنية الآخرين ذلك الإنسان الذي لا يعرف الفقر..! وفينا من يعتقد أن فقراء العالم من حولنا؛ هم الأحق بخيرية هذه البلاد؛ لأن لا أحد يستحقها من أهلها وفق تصنيفه الخاص به، أو تبعاً لميوله الشخصية..!
.. والعيب.. فينا نحن كمجتمع وكمؤسسات خيرية، في طريقة تفكيرنا؛ وفي أساليب عملنا، فالمجتمع السعودي معروف منذ عقود طويلة؛ بأنه مثال للتكافل والبذل والعطاء، ودليل ذلك، دعمه غير المحدود للجمعيات والمؤسسات الخيرية، التي تنتشر على طول البلاد وعرضها، بما تملك من فروع ومكاتب وعناصر؛ تنشط طول العام؛ في استقبال وجمع الأموال الكثيرة؛ منقولة ومنقودة؛ وينشط مبعوثوها في العمل عبر القارات السبع، فيبنون المساجد والمدارس والمصانع، ويحفرون الآبار، ويفتحون المصحات، ويشقون الطرق، ويعالجون المرضى. وهذا عمل خيري لا غبار عليه، ولا نتهم أحداً هنا، لكنا نطمع أن توجه هذه الخيرية أولاً؛ إلى أبناء هذه البلاد، لأنهم هم «الأقربون الأولى بالمعروف»..! ولأن «الجار القريب؛ خير من الأخ البعيد»؛ على قول سليمان الحكيم. وحتى لا نكون مثلما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن يكُ ذا فضل ويبخل بفضله على قومه؛ يستغن عنه ويذمم |
.. لا شك عندي؛ أن جهوداً كبيرة تبذل على كافة الصعد؛ وبمختلف الوسائل؛ للحث على العطاء، ودعم الجمعيات والصناديق الخيرية؛ ويجري تخصيص حصص كبيرة؛ من رؤوس أموال خاصة؛ ومن رجال أعمال لهذا الغرض، وهناك من الشباب الصغار؛ من يقف على أبواب الجوامع والمساجد مع كل فريضة؛ وهم يحملون صناديق لجمع التبرعات، وتعقد ندوات و محاضرات لهذا الغرض، ولو توجهنا بهذه الخيرية إلي مستحقيها الحقيقيين من أبناء وبنات هذه البلاد في المدن والقرى والبوادي؛ لما ظل سعودي واحد في حاجة.
.. إن ما يجري من دعم خيري داخلي؛ هو في جله من جمعيات البر؛ أو من دور الأيتام الخيرية؛ ومن جهات فردية بحتة، وهذا يقودنا إلى التساؤل عن دور الجمعيات والمؤسسات الخيرية الكبيرة؛ التي تدير مليارات الريالات؛ ماذا قدمت لأبناء هذه البلاد..؟! وما هي المشاريع الخيرية التي تديرها في القرى والأرياف، أو حتى المدن..؟!
.. إن الجمعيات والمؤسسات الخيرية السعودية وهي كثيرة بحمد الله؛ تتوفر على عدد كبير من الناشطين في مجال العمل الخيري، من الذين ينتدبون لدراسة أوضاع المسلمين في أدغال افريقيا، أو أراضي الباكستان وأفغانستان وإندونيسيا والشيشان والبوسنة والهرسك، وغيرها من البلدان، ثم يعودون بقصص مأساوية عن أحوال الناس هناك، ولو تم ندب هؤلاء الاخوة الذين لا نشك في نواياهم إلى أدغال تهامة، وأحراش السراة؛ في الجنوب والشمال والغرب، وإلى مجاهل المفازات؛ في الربع الخالي؛ وفي الدهناء والنفود؛ لعادوا إلينا بقصص أكثر مأساوية مما سبق لهم أن عرفوا خارج البلاد..!
.. إن هذه البلاد التي ترعى الحرمين الشريفين؛ وتحمي مقدسات المسلمين على أرضها، لا ينقصها الخير، ولا تعوزها الحكمة أيضاً، خاصة أن ولاة الأمر فيها؛ هم في مقدمة الخيرين، وفي رأس الحكمة، ونحن نتطلع إلى توطين العمل الخيري، وتوجيه الخيرية السعودية أولاً؛ إلى مستحقيها من أبناء المملكة، في المدن والقرى والبوادي، وليس كثيراً على قرانا وبوادينا، التي تفترش جغرافية الجزيرة العربية، بناء القرى النموذجية، والمدارس والمصحات والمصانع، وحفر الآبار، وشق الطرق، وهذه أعمال إنسانية جليلة متوجبة؛ جربتها الجمعيات الخيرية السعودية في بلدان عربية وإسلامية كثيرة خارج المملكة، ونجحت فيها، فهي «إذن»؛ تمتلك الخبرة الكافية في هذا الميدان، وبلادنا أحوج من غيرها لها، ومواطنونا؛ هم أحق «الناس» بخيريتهم؛ التي تخرج من بين ظهرانيهم؛ فتذهب إلى مَنْ هم أقل حاجة منهم.
.. إن سحائب الخير إلى كافة أقطار الدنيا؛ تنطلق من سمائنا؛ فاللهم اجعل مطرها علينا «أولاً» قبل غيرنا..!
فاكس:027361552
|