سخر نقاد كثيرون من الشعور بالانتصار الذي انتشى له المعلقون الأمريكيون مع قدوم الألفية الثالثة، حينها تردد ان الإنترنت جنبا إلى جنب مع سوق المال والبورصة، سوف تخلق فردوسا اقتصاديا جديدا، وملاذا سياسيا لم يظهرمن قبل في تاريخ الإنسانية، قديماً أو حديثاً، وقال المتفائلون ان دورات العمل نظام عفا عليه الزمن، وصارت من بقايا الماضي، أما مؤشر «داوجونز»، فسوف يصل إلى أرقام فلكية، 36 الف مثلا، أو أي رقم تقوله، وسوف يتبعه رواج هائل في أسواق المال والبورصات، ولم تكن هذه الحماسة، التي تفتقر إلى العقلانية، تأتينا من مهاويس اقتصاد السوق فحسب، بل وتكلم بيل كلينتون نفسه في خطابه الذي ألقاه احتفالا بقدوم الألفية الجديدة على الأمة الأمريكية، تكلم كما لو كانت الرأسمالية الأمريكية قد تجاوزت قوانين الجاذبية الاقتصادية، وكما لو كانت الديمقراطية على الطريقة الأمريكية قد توصلت إلى مفتاح السر الذي سيأخذ بيد الإنسانية إلى الهدوء والأمان.
الآن، وفي خضم الأحداث التي تفرم المجتمع الأمركي، تأخذ الأمور أبعادا مختلفة، لقد خطفت أحداث الحادي عشر من سبتمبر أنظار الجميع، وحولتها عن التركيز على التداعيات السياسية للانهيار الذي ضرب شركات الإنترنت، وهذا القلق الذي صاحب الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2000، وإلى جانب كل هذا، يأتي «كيفن فيليبس» لينقض هذه السذاجة المتناهية التي تنطوي عليها فكرة الأسواق وفكرة المصالح الشخصية التي تحكم توجهات رجالات االسياسة في الولايات المتحدة.
فكرة «كيفن فيليبس» باختصار شديد هي أن الازدهار الاقتصادي الذي شهده عقد التسعينيات في أمريكا لم يستفد منه إلا أقل القليل.
يقول: «الأرقام مروعة، فقد استحوذ 1 في المائة فقط من الأمريكيين على 42 في المائة من أرباح سوق المال بين عامي 1989 و1997»، المؤلف هنا يعرض أرقاما لا يستطيع أي فرد التشكيك فيها، بل ويؤكد أن المجتمع الأمريكي لا يعاني عدم المساواة والتفاوت في الرخاء الاقتصادي فحسب، بل ويشهد حالة متنامية من اللامساواة غير المسبوقة من قبل، فحسب الإحصاءات المعلنة، ولو أن 40 في المائة من الأمريكيين يملكون الأسهم، فقيمة نصف هذه النسبة، أو أكثر، لا تزيد عن ثمن سياراتها التي تركبها. حتى قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أخفق السياسيون «الذين كانوا مهووسين بتحقيق الكسب المالي من القلة التي استفادت من الازدهار الاقتصادي» في مواجهة أزمة التفاوت الاجتماعي التي يستفحل أمرها يوما بعد يوم بين الأمريكيين، وتزداد رقعة عدم المساواة تلك بفعل الرواتب الفلكية التي يتقاضاها كبار المسؤولين في الشركات وأيضا التخفيضات المطبقة على الضرائب، فيما أحجمت الإدارات السياسية المتتالية في البيت الأبيض عن اتخاذ أي رد فعل إيجابي لردع هذه الموجة المثيرة للتساؤلات والجدل، فالأساليب التي حقق من خلالها القلة كل هذه النسب الفلكية من الدخل قد مرت «مرور الكرام ولم تتعرض للمساءلة».
كيفن فيليبس ليس رجلا عاديا من الرجال اليساريين في المجتمع الأمريكي، فهو أول من تنبأ ب«صعود الأغلبية الجمهورية» على المسرح السياسي الأمريكي.
وفي عام 1968، كان أول من تنبأ بهيمنة جناح المحافظين على أروقة السياسة الأمريكية، وفي عام 1990، وبعد ظهور كتابه «سياسة الأغنياء والفقراء»، تحول الرجل إلى جبهة اليسار، أو بالاحرى انضم إلى صفوف الراديكاليين الشعبيين الذين يضعون تصوراتهم من معتقدات شخصية.
والآن، يدرس فيليبس الطفرات التي مر بها عقد التسعينيات من منطلقات تاريخية، فهو يلجأ إلى عقد مقارنات بين البلوتوقراطية «حكم الأثرياء وهيمنتهم على مقاليد الحكم في المجتمع» داخل مجتمع أمريكا المعاصر وتلك التي شهدتها هولندا في القرن السابع عشر وبريطانيا في القرن التاسع عشر، ويطبق نفس المقارنة، لكن بين الحقب المتتالية في التاريخ الأمريكي، وفي سياق كل هذا، يهدم الرجل الكثير من الأساطير والأوهام التي طالما هيمنت على الذهنية الأمريكية، فقبل أي شيء يبرز «فيليبس» دور الحكومة الأمريكية في ظهور الثروة التي يرجع الفضل في استفحالها وتركيزها في يد قلة معدودة أيضا إلى الاصدقاء الذين شغلوا المناصب الكبرى، إلى جانب دور المنافسة الحقيقية والأسواق المفتوحة.
وينتهي المؤلف إلى نتيجة هي في مضمونها تحد لا يراه كثيرون مثيرا للأعصاب فحسب، بل وغير مريح بالمرة، يقول المؤلف: «عدم التوازن بين الثروة والديمقراطية في الولايات المتحدة مسألة لن تستمر كثيرا»، لذلك، يؤكد المؤلف على ضرورة تجديد المؤسسات الديمقراطية وتفعيل دورها بصورة أكبر، وإلا ستنهار الديمقراطية تماما لتفسح مكانها للبلوتقراطية.
وأخيرا، يرى «كيفن فيليبس» أن النزعة الاستثنائية، ويعني بها جملة الوعود الاستثنائية في الحياة الأمريكية، تواجه أصعب اختبار لها حاليا في المجتمع الأمريكي.
المؤلف: Kevin Philips الناشر:Broadway Books
|