Wednesday 4th September,200210933العددالاربعاء 26 ,جمادى الثانية 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

خالد الفيصل: كيف؟ (/4 48) خالد الفيصل: كيف؟ (/4 48)
مُقَدِّمة في الصِّبغيات الفكرية خالد الفيصل/ الشخص/ النص
عبدالله نور

عامان قد مرَّا ولم اسمع الامير، ولو لبرهة صغيرة عابرة قد تكلم باللغة الانجليزية التي يقال بأنه يحسنها كأحد ابنائها، بل يتكلمها وباللغة الملكية او ب «لغة الام» كما يقال. وفي يوم من الايام زاره في مكتبه السفير البريطاني الذي هو يتكلم العربية ولا يرغب في الكلام باللغة الانجليزية، وكنت عند الامير اسمع تحاورهما وارى السفير يتكلم على احسن حال ثم اذا به فجأة يتعثر ويرتبك ويروم التعبير عن معنى من المعاني باللغة العربية فلم تسعفه الذاكرة ولكن اسعفه الامير بأن نطق له الكلمة الانجليزية، نطقها بلا مماراة، وبلا عُجب، بل نطقها وكل فمه اعجاب بالسفير الانجليزي لجودة كلامه، وفصاحة لسانه وقدرته الفائقة على الاتقان الذي يبز فيه اهل اللغة العربية نفسها.
من يصدق انني حتى الآن، وقد افنيت اكثر من 35 عاماً من عمري وعمر المنتدى الادبي لم احظ لحظة واحدة بسماع الامير وهو يتحدث بالانجليزية، ولو بكلمة واحدة، ولو لجبر الخاطر، كما يقول المغني جسنا انه لا يعشق المماراة، لكن هذا لا يعني انني لم اسمعه يتحدث في الادب الاجنبي ولاسيما الانجليزي كان بعض انصار الشعر الحر ممن يروق لهم اقتباس بعض المقولات الادبية الانجليزية فيتردد على السنتهم اسم الشاعر المشهور «ت.س.اليوت» او غيره مثل «عذرا باوند»، و «هارت كرين» وغيرهم كثير، وهم يحسبون في مماراتهم تلك ما يدفع السامعين الى الانبهار، او الانشداه بثقافتهم ومدى معارفهم، والحق، ان هذا الاسلوب لا ينفع بل يضر، بل قد يصدم ويدعو الى النفور، وكنت حينئذ احاول ان اقرأ في وجه الامير ردود الفعل من هؤلاء ولكن كان حذراً شديد الحذر فيما قد يظهر سهواً على محياه، غير انه كان يصمت ولا يفعل سوى ان ينقل الكلام الى جانب آخر من الموضوع. وذات مرة ضاق صدره من بعض المتشدقين بمعرفة الادب الانجليزي ففاض صدره حين رأى الطغيان في التشدق ولاسيما ان هناك «موضات» في الادب الانجليزي لا ينبغي ان يقاس عليها في الموازنة الشعرية، فراح تلك الليلة يتحدث عن الشاعر «كمنجز» وعن موضته الخاصة به في نحت الكلمات ولصق بعضها ببعض، بل بلصق الجمل بعضها ببعض، وما كان لهذا المتشدق ان يقدر على مجاراة الامير، فانكشفت بضاعته في انها رخيصة ومزجاة ولا تصلح في ميدان الادب والفن والفكر الا لمجرد التسلية به والضحك على ذقنه لا غير!!
لكن هناك هذا المطب الذي اوقع فيه نفسه احد الحاضرين، وكان الكلام عن الشاعر الفرنسي «بودلير» ومن لا يعرف بودلير عند اهل الشعر الحر فهو ميت لا يعرف الحياة، وكان تعليق الامير على كلام صاحب الطب بأن اخبرنا انه قد درس «بودلير» كعمل من اعمال السنة حين كان يدرس في الخارج، وياله من مسكين صاحب الطب، انه لا يعرف بودلير الا من ديوانه المترجم «ازهار الشر» وكان في تشوقه يبدو وكأنه عالم فرنسي، واذا هو هراء في هراء.
وذات مرة قام بالتعليق على كلام احدهم عن عقدة «اوديب» فنطق الامير الاسم هكذا «اوديبوس» ولاول مرة سمعته ينطق بمخارج الحرف الصوتي بالنبر الانجليزي، وقد اضاف «إس» للتذكير كما معروف عند اهل اللغة. اما في الكلام عن الادب العربي القديم، فأذكر انني خاصمت احد الزملاء وكان لابد لي من الرجوع الى كتاب «الاغاني» لابي الفرج الاصبهاني واعلنت حسرتي لان الكتاب في منزلي، فما كان من الامير خالد الا ان يقوم من مكانه ويصعد الى الدور الثاني في منزله ويحضر الكتاب، ويالها من مفاجأة لي ولغيري من الرواد، كنا نظن ان ثقافة الامير لا تصل الى هذا الحد من اقتناء الكتب القديمة النادرة، وعرفنا بعدئذ انه يقتني عدداً غير يسير منها ولكن قد مضى من عمر المنتدى اكثر من عامين والامير يسأل ولا يتكلم مثلنا، واذا تكلم انجز واوجز، وتذكرت فيما قرأته في «ادب الملوك» انهم لا يتكلمون في الشيء بكل ما يعرفونه عن الشيء نفسه، وان من ادب الضيافة ترك الضيوف على راحتهم. تصفحت الكتاب وبينت وجهة نظري كاملة، ثم راق لي ان اتحدث عن مصادر الكتاب واخضعت الرواة لعلوم الجرح والتعديل وعلم ميزان الرجال، وهذه علوم ابرع فيها مثل براعتي في علم العروض، وادركت فيما بعد انني تحدثت في امر لا حاجة للحديث فيه ولا داعي للمماراة بين الامراء فذلك ليس من باب الادب والظرف، وهي عادة قبيحة انصح شداة الادب ولاسيما في مجالس الكبار ان يبتعدوا عنها وينبذوها فهم يكرهون المماراة، والتّنبُّص، والمجاكرة في الكلام في غير مواضعه المعروفة.
المشكلة، ان اصحاب الشعر الحر في منتدى الامير، يتورطون كثيراً باقحام الادب الانجليزي من حيث يرومون المماراة بثقافتهم فيسقطون في الهجنة، اذ تسقط حججهم كلها قبل ان ينقضي نصف كلامهم، ليس هذا بالنسبة لهم مع الامير خالد الفيصل، بل حدث مثل هذا معهم والامير بندر بن فهد بن خالد، عسكري، وشاعر، والمهم انه ضليع في الادب والشعر الفرنسي، وفي مكتبته في الرياض جميع دواوين الشعر الفرنسي العظيم، كان في بعض الاحيان يحضر المنتدى فيوقع فيهم ضربات ساحقة، ولكن بأدب جم، وذوق رفيع، اما الامير خالد بن فهد بن خالد فيلجأ الى دبلوماسية خاصة به، يخترعها اختراعاً ويتركها جاهزة للمناسبات، فاذا سمع قصيدة جميلة، ولكن من الشعر الحر، فانه لا يبدي اعتراضه ولكن يبدي اعجابه ويبالغ في الاعجاب ثم ينكص ويكر عائداً ليقول بأنها قصيدة جميلة، ولكن يا للاسف، هكذا يا للاسف، انها قصيدة جميلة ولكن هي مثل الدر المنثور فلو انها كانت منظومة بخيط رفيع ومنضودة مثل القلادة ومتروكة مثل القلادة في العنق الجميل لكانت جميلة، ولكن ياللاسف ومعنى قوله ياللاسف انها ليست جميلة لانها منثور، والمنثور منثور، مثل الجوهر المنثور، لا بل مثل الحصا المنثور، وهكذا فانه رفعها ثم دلى بها الى الحضيض، كان ظريفاً ويملأ المنتدى بظرفه، مثلما يملأه باختراعاته الدبلوماسية المثيرة.
كان السجال بين الطرفين يرتفع الى حد الصخب، وفيه طرائف كثيرة غير ان اجمل الطرائف يأتي مصادفة حين يدلف الى المجلس بعض الاخوة من البدو الذين اعتادوا الدخول قبل بداية المنتدى، انك لترى الدهشة طافحة على وجوههم حين يجلسون ثم يسمعون مثل هذا الكلام الغريب على اسماعهم في كل شيء وفي ما لا يخطر على بال احدهم، واغرب الغريب سماعهم للشعر الحر، فاذا قيل لهم، هذا شعر، طارت عيونهم في جباههم واستدارت حماليق عيونهم في المآقي، وتظهر على وجوههم تكشيرة العجب والفزع والغيظ والهزء والرغبة في الشتم واللعن ولكن لا حيلة لهم الا هذه الحيلة الوحيدة، الشكوى من الزمان الذي تغير وتغير وتغير لم يكن يعجبهم كلامنا، فكيف يعجبهم هذا الشعر بل انهم يعجبون من الامير لماذا هو يحتفي بنا ويترك غيرنا ونحن حتى في هيئتنا ليس فينا ما يروق للناظر، او يشرح الخاطر.
ذات مرة، وكنا مع الامير على مائدة العشاء، وبينما نحن على المائدة، دلف الى المائدة أديب من الادباء المرموقين، ومن مدرسي اللغة العربية، بل هو استاذ الامير في اللغة، حين كان الامير في المرحلة الثانوية، وكان من بين الجالسين احد البداة فوقعت عينه على هذا الاستاذ وهو اسود شديد السواد فلم يرق له منظره، ولكن حين وقعت عين الامير على الاستاذ حتى هبت واقفاً وانزاح عن مكانه من رأس المائدة ثم خطا بأوسع خطوة وجذب هذا الاستاذ ليجلسه مكانه فأبى، ثم أبى، ثم أقسم بأغلظ الايمان ألاَّ يجلس الا ها هنا..
والعبرة من سرد هذه الواقعة لا تحتاج الى فيلسوف يقوم بشرحها.. هذه هي الثقافة في كل شعوب الارض لا تتقدم الى الامام الا بالقادة الملهمين الذين يجيدون خلط كيمياء المجتمع المتباينة وصريرها في وعاء شفاف، ويالها من عملية خارقة لا يقوم بها الا عظماء الرجال. بخ،بخ، انه ادب الملوك.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved