Tuesday 8th October,200210967العددالثلاثاء 2 ,شعبان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

الجينوم وإشكالية الجبر والاختيار .. الجينوم وإشكالية الجبر والاختيار ..
يوسف عبدالرحمن الذكير

منذ عشرات القرون والمفكرون يجهدون ويتجادلون بحثاً عن سبيل للوصول إلى قرار حول إشكالية تلك المعضلة المحيرة. فما أن يحتج فلاسفة حرية الاختيار، بأن الله وهب الإنسان العقل لتحديد مساره قائلين: «ما الإنسان سوى عربة يجرها جوادان، الغرائز والمشاعر، قد يجمح أحدهما ليحيد به عن الطريق، إلا أن العقل هو الحوذي الماسك بالسوط واللجام والقادر على إعادته إلى جادة الصواب».. حتى يرد فقهاء الجبرية محاججين: «قولكم مبتسر، ونظرتكم ضيقة، فالإنسان وإن كان لسفينته ربان، إلا أنه في بحار الحياة، تتقاذفه تيارات من مختلف الاتجاهات، وتعصف به رياح وعواصف، قد تغرقه في لجج، أو تلقي به على شطآن لم تكن في الحسبان، ولم يكن له فيها خيار أو فرار»..!
الأمة الإسلامية لم تتخلف عن ركب الأمم الحية، إبان قرون انفتاحها الثقافي، وتألقها الفكري، فلم يتهيب عن خوض تلك المعمعة مفكروها من فلاسفة وفقهاء على حد سواء، لم تكن المواجهة بالضرورة ما بين أولئك وهؤلاء، بقدر ما انقسمت كل فئة منهم، إلى فرق اعتقد كل منها أنه يسير على طريق الحق والصواب. تشعب الفقهاء إلى ملل ونحل ،وانقسم الفلاسفة إلى مدارس ومذاهب، لم يكل أي منها عن البحث الدؤوب للعثور على باب للخروج من تلك المعضلة المضنية، إلا بعد عن غام دربهم، إثر أفول شمسهم، فترسم خطاهم أقوام آخرون، أضاءت لهم دربهم، شمس الحضارة التي دارت لتبزغ على أرضهم.
ما إن هبت رياح التحرر الفكري لتقشع ضباب تزمت كهنوتي، خيم فأعمى بصيرة وبصائر الغرب لما يقرب من ألف عام، حتى حملت تلك الرياح بذور علوم أبناء خلدون ورشد وسينا والنفيس وعشرات غيرهم إلى مروج أوروبا. أينعت فأورقت، علوم الاجتماع والطب والفلسفة والطبيعة، وتبرعم منها أو من تحت ظلالها علوم النفس والأجناس والمجتمعات البشرية وفلسفة التاريخ والاقتصاد. فما ان اشتد عودها حتى حان دورها لتدلي بدلوها في جب الجبر والاختيار، لعلها تروي قافلة البشرية الظمأى إلى جواب. ولكن أضحت القافلة هذه المرة حداة وأدلاء، نجوا بتلك القافلة البشرية نحو وهاد، كان لوعورتها أشد الأثر على مسيرة البشر، أفراداً ومجتمعات!..
* * *
لم تعد الجدلية فكرية فقهية، تدور حول محور التوصل إلى صيغة توافقية ما بين إجبار لا يعفي الإنسان من وعد إلهي بالثواب والعقاب وخيار يتيح للإنسان الإمساك بزمام الأمور، فقد بات لتلك الجدلية عجلات تدور حول محاور ما خطرت على بال!.. إذا ما أن تمخض علم الفيزياء عن قوانين «نيوتن» في تفسير حركة الأجرام السماوية، وحتمية خضوعها لسنن إلهية أزلية، حتى أعتقد العالم الرياضي الفرنسي الأشهر، في القرن الثامن عشر «بير لابلاس» أنه قد عثر الجواب حين قال: «لو تمكّن من معرفة مكان وحركة كل ذرة في الكون، فبإمكانه التنبؤ بالمستقبل، إذ إن الجميع محكوم بقوانين فيزياء لا تتغير».. ولكن سرعان ما انهار ذلك الاعتقاد حين تفرع عن علم الفيزياء دربان حالكان، أولهما نظرية الكم «Quantum Theory» التي أقرت بأنه على مستوى مكونات الذرات، لا يمكن معرفة سرعة ومكان الجسيم في آن واحد، وثانيهما نظرية التشوش «Chaos
Theory» التي أفضل ما يفسرها هو القول الشهير بأن
رفرفة جناح فراشة في الهند، قد ينجم عنها إعصار في البرازيل.. فالأحداث الصغيرة قد تتعاظم وتكبر لينجم عنها نتائج جسيمة لا يمكن التنبؤ بها، ولا تخضع لقوانين نيوتن التي ما هي سوى واحدة من قوانين وسنن خالق مبدع،، لا تعد ولا تحصى..
* * *
أما على مستوى الأفراد فلعل أول من عانى من جدلية الإجبار والاختيار، كان ساحات القضاء .. فبعد ميلاد علم النفس، وتشعب علوم الطب إلى فروع وراثية وأخرى بحثية في تلافيف المخ وفصوص الدماغ وتأثيرها على سلوك الإنسان، فسرعان ما اتخذ من تلك العلوم الحديثة ذريعة ووسيلة تهدف إلى تخفيف أحكام أو تبرير إجرام.. فكم من مجرم تمت تبرئته أو خفف الحكم عنه بحجة معاناته من مرض نفسي أو خلل عقلي، أو جنون لحظي متأصل في شخصيته التي ما كان له يد في بذرها ولا خيار في تكوينها؟.
* * *
ما إن أعلن عن إتمام التوصل إلى الخريطة الوراثية للإنسان، حتى ازدادت وتيرة شلالات المؤلفات سرعة ودفقاً، فلا يكاد شاطئ أو ساحل من شواطئ وسواحل القارة البشرية إلا وغمرتها فيضانات من الآراء والمقالات، فأغرقت الجوانب الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والصحية وما لا يعد ولا يحصى من الجوانب الأخرى، إلا أن ما يهم هو ما ينحصر ويقتصر على استشراف مدى قدرة دور الجينوم في حسم الجدل المحتدم منذ أجيال حول مسألة الإجبار والاختيار؟.
فالجينوم لم يؤكد ما كان معروفاً منذ أجيال من توارث للصفات الجسدية بين الأجيال، أو يرسخ الاعتقاد بما كان متداولا منذ عقود من تأثير للوراثة على إمكانية الإصابة ببعض الأمراض فحسب، بل أثار عاصفة من الجدل حين أشار إلى أن كل ما يتصف به الإنسان من سمات الشخصية والمواهب والميول الفردية، قد تكون مشفرة ضمن صفحات كتاب خريطة المورثات، المكتوب بما يقرب أو يزيد عن ثلاثة مليارات حرف!!.
كان أول القطر إعلان اكتشاف مورث «جين» الذكاء، الذي تم تحديده كما قيل من أخذ عينات من عشرات من تلاميذ الولايات المتحدة ومقارنتها بغيرها من الأطفال العاديين فتم فرزه وتسميته علمياً بالمورّث «الجين IGF2R» . بل وذهبت مطبوعة مرموقة، دولية الانتشار إلى نشر بحث عن فأر تم حقنه بجين الذكاء، فوجد أنه يتفوق على أقرانه في سرعة معرفته إلى الطريق الأسرع والأسهل للوصول إلى الغذاء.
المنطق يفرض طرح تساؤلات مشروعة، لماذا يكون هناك جين للكآبة، ولا يوجد جين للسعادة؟ .. وكيف أن هناك جيناً للذكاء ولا وجود لجين للغباء، مثلما هو الحال في وجود جين لحدة الطبع والهياج؟.. أما التاريخ فحجته أرسخ وبيانه ساطع كالشمس، فما من عالم خلّف عالماً ولا من فيلسوف أنجب فيلسوفاً، ولا من نابغة، ذبياني كان أو فنان قد أورث نبوغه ومواهبه لأبنائه، على مدى التاريخ ومختلف الأمم والأقوام!!.. فأين جينات الذكاء، ومورّثات النبوغ؟!.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved