Wednesday 1st January,2003 11052العدد الاربعاء 28 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من يهن يسهل الهوان عليه! من يهن يسهل الهوان عليه!
د. عبدالعزيز إسماعيل داغستاني/ رئيس «دار الدراسات الاقتصادية» الرياض

صدق الشاعر في قوله، وما ينطبق على الفرد ينسحب بالضرورة على المجتمع وعلى الدولة، والانطباق في هذا السياق طبيعي جداً، فالفرد هو اساس كل مجتمع وكل دولة، ويقتضي هذا السياق ان يحتكم العقلاء الى السلوك الفردي في تفسير سلوك المجتمعات والدول.. فالفرد أنموذج والمجتمع او الدولة حالة ينسجها افراده، وعلى ضوء هذا الربط تُبنى النظرية الاقتصادية التي تفسر سلوك الانسان. هذه حقيقة علمية وليست سفسطة فكرية يُقصد منها التلاعب بالالفاظ لخدمة الفكرة وبناء النظرية.
وإدراك هذه الحقيقة هو شرط أساسي لفهم قضايا الاقتصاد المعاصرة خاصة تلك التي يمتزج فيها الاقتصاد بالسياسة، فاذا كانت للاقتصاد ضوابط علمية تؤطر نظرياته وتحاول ما أمكن السيطرة على سلوكيات الانسان بافتراضات محكمة تضعه ضمن موازين العقل والحكمة المتعارف عليها، اذا كان للاقتصاد ذلك، فان السياسة قد يصعب تحجيمها وفكها من عقال الجدل والتلون والتطرف، فالسياسة فن والاقتصاد عِلْم، وعِلْم الاقتصاد يضع نظرياته وفق معطيات محددة تحكم مجال تطبيقها، وعلم الاقتصاد، من هذا المنظور، يعطيك مرتكزاً صلباً لتفسير الواقع واستخلاص رؤية اكثر شفافية وأقدر حنكة على مواجهة الواقع واستقراء الاحداث واستشراف المستقبل، وفي هذا التفسير لمسات فنية يتجسَّد من خلالها ابداع الانسان وتفوقه وتفاوت قدراته وامكاناته، فيكون تطبيق علم الاقتصاد فناً يربطه بالسياسة ويلقي عليه أوزارها ويغوص به في وحلها ويدخله في دهاليزها فيضعف احدهما الاخر وينجر الاثنان في غياهب السلوكيات الانسانية التي قد تحتكم للمنطق والعقل وقد تبعد عنه كما بَعُدَ المشرق عن المغرب، ومع هذا التباعد يوهن الربط بين العلم والفن وتختلط الابعاد وتتنافر الاطراف وتزول لُحمة البناء وينفك تماسكه، وأكثر فوارق التباين يكون في مفهوم الالتزام ومضمونه.. ان تلتزم بفرضية النظرية الاقتصادية، هو شرط اساسي وضروري لان تنطبق عليك، ولكل نظرية ناجحة فرضياتها، والافتراض ضرورة، فالنظرية الاقتصادية تتعامل مع الانسان، وهو كائن متغير، وتثبيت نزعة التغيُّر الفطرية في الانسان هو نهج علمي لتأطير سلوكه وفق محددات عقلانية متواترة، والانسان الفرد هو الانسان المجتمع والانسان الدولة، وكل تكوين جماعي يُبنى من مفرده كما العقد من حباته والسيل من قطرات المطر والنار من مستصغر الشرر، وفي الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله، وصلاح الفرد صلاح للمجتمع وللدولة، واذا اجتمع فريق على رأي، صلح امرهم وقوت شوكتهم وعمَّ الخير عليهم ببركة الجماعة وقوة الاتحاد.. هذه فطرة بشرية قد تبدو بدهية او ساذجة او قد يعتبرها البعض من مسلمات الامور، وهي ان كانت كذلك الا انها تمتاز في الوقت نفسه بنهجها العلمي الذي اخذ به علم الاقتصاد في بناء التكتلات الاقتصادية (Cartel) والاقتصاد فرد ومجتمع ودولة، ولكل تكوين ضوابطه ومرتكزاته الخاصة به التي لاتتعارض في المبدأ مع السلوك السوي في البناء النظري المؤطر بالافتراضات والشروط. ونجاح التكتل الاقتصادي يعتمد على التزام اطرافه ببنود الاتفاق، والالتزام يعني الحصول على مكاسب جماعية تعطي للفرد ما لا يمكنه ان يحصل عليه من مكاسب في الأجل الطويل بدونه، والأجل الطويل هو المحك العملي لأي سياسة اقتصادية سليمة، المكاسب العاجلة او المؤقتة قد لاتدوم وقد تكون طُعماً يؤدي الى الهلاك.. العبرة بالأجل الطويل، بمن يكسب دائماً وليس بمن يكسب الآن فقط، وأوبك تكتل اقتصادي فريد، تفرُّده في صموده رغم العثرات ورغم الصعوبات ورغم الإغراءات، تفرُّده يعطيك التفاؤل، ولكنه يجعلك دائماً في حذر وفي خوف وفي ترقب وفي وَجَل، تخاف ان ينهار الصمود ويتبدد التفرد وتضيع المكاسب، ويكون المستقبل قاتماً تتمنى ان تقف عجلة الايام حتى لاتصل اليه. اوبك رغم كل ذلك ما زالت صامدة، وصمودها تفرُّد يجب ان نعضَّ عليه بالنواجذ ونشحذ من اجله فكرنا ونسخر له عِلْمنا وما أُوتينا من حكمة وعَقل ومنطق. أوبك في التزام اعضائها الصارم بحصص الانتاج المقررة، مارست هذا الصمود بحكمة تُحسد عليها، ويخاف الانسان الحصيف دائماً على ماله من نظرة عينه ذاتها. كم هو مؤلم ان تكون الحاسد والمحسود في الوقت نفسه. وُصِفَ الالتزام بأنه صارم، والصرامة مطلب جماعي، وقرار الجماعة هو رهن قرار افرادها. المسؤولية الجماعية هي مسؤولية فردية أولاً، والمحصلة الايجابية هي منظور جماعي نهائي، محصلة جماعية تتحكم فيها ارادة فردية، اذا صلح الفرد صلح المجتمع، اذا صلح العضو صلحت اوبك، والتفاوت في الالتزام يقلق، وهذا التفاوت قد يؤدي الى فك عرى الالتزام ويهدد الصمود ويثير الخوف حول مستقبل اسعار البترول، ان التزام اعضاء اوبك بحصص الانتاج المقررة سيخلق فرصة قوية لثبات سعر برميل البترول عند المستوى والحدود المتفق عليها، فإذا شذَّ عضو عن الاتفاق وزاد انتاجه فإنه سيحقق مكاسب آنية ولكنها ستكون مؤقتة اذ قد يُغري تصرف هذا العضو عضواً او اعضاء آخرين فيحذون حذوه فينفرط العقد وتخمد جذوة الالتزام وصرامته ويذبل الصمود وتذوب المكاسب الآنية ذوبان الملح في الماء فيشربه الكل كدراً وتنخفض الاسعار وتعود السنوات العجاف. العاقل من يتعظ من ماضيه، والعاقل من يحترم التجربة، والعاقل من يلتزم، من يهن يسهل الهوان عليه، والخروج من هذا المأزق يكون بالالتزام، والالتزام كلمة سحرية براقة لايكون سحرها حقيقة ولا يضيء بريقها طريق المستقبل إلا بالاحتكام الى العقل، ومن حكَّم عقله ما هوى، وأن يهوي الفرد مصيبة، اما ان يهوي الاقتصاد برمته فالمصيبة أكبر، ورحم الله من اتعظ، والعظة نعمة من الله فلا نضيّعها، وإذا سهل عليك الهوان سهلت عليك نفسك.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved