Friday 3rd January,2003 11054العدد الجمعة 30 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

حضور عبدالله بلخير في الغياب حضور عبدالله بلخير في الغياب
عبدالله سالم الحميد *

كلّ حين نودّع في هذه الحياة الدنيا حبيباً أو عزيزاً له في النفس مكان وله في الذاكرة مكانة مرموقة، وقد ودّعنا هذا العام نخبة من الأدباء والمفكرين كان لهم حضورهم المشرق في حياتنا الأدبية، وكان لهم دورهم الأثير في الحياة العامة. وفي أثناء تناول تجربة نماذج من الشعراء لمشروعي الأدبي «شعراء من الجزيرة العربية» الذي سيصدر قريباً بإذن الله في أربعة أجزاء، كان أحد أولئك الشعراء الأفذاذ الشاعر الأستاذ عبدالله بلخير وقد فجعتُ برحيله قبل أيام فكان حقاً عليّ أن أبادر إلى نشر هذه القراءة عنه تعبيراً عن جزء من الوفاء لريادته وحضوره الأثير في الذاكرة والوجدان رحمه الله.
* عبدالله بن عمر بلخير أحد الشخصيات الفذّة، والأصوات المعبّرة التي كان لها دورها وحضورها في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله. إنسان مفكر وقلم معبّر، حاول أن يبتعد عن الأضواء برغم قدرته على التعبير والاتصال الأدبي لما تختزنه ذاكرته وهواجسه من أحداثٍ وذكريات ومعلومات مهمة عن المرحلة التي عاش فيها منذ بداية مرحلة التوحيد والنهضة في المملكة العربية السعودية.
* في عام 1333هـ ولد الشاعر عبدالله بن عمر بلخير في حضرموت، وسافر مع والده إلى الحجاز عام 1345هـ.
* وفي «مدرسة الفلاح» بمكة المكرمة تلقى عبدالله بلخير تعليمه، وتخرّج فيها عام 1353هـ(1).
* وفي عام 1355هـ التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت وأكمل دراسته الجامعية بها.
* وفي عام 1360ه التحق عبدالله بلخير بالشعبة السياسية في ديوان الملك عبدالعزيز رحمه الله حيث عمل في قسم شؤون الإذاعة والصحافة.
* عمل مترجماً للملك عبدالعزيز رحمه الله وكان مرافقاً له في كثير من لقاءاته بزعماء الدول الأجنبية ووفودها وسفرائها.
* عُيّن رئيساً لديوان إمارة منطقة الرياض عام 1365هـ عندما أسندت الإمارة إلى الأمير سلطان بن عبدالعزيز.
* وفي عام 1374هـ أسند إليه إدارة شؤون المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر إلى أن تحولت إلى أول وزارة للإعلام فتولى القيام بها وإنشائها عام 1381هـ حتى تقاعد عام 1382هـ(2).
تجربته الشعرية:
* لا بد لي في بداية تناول تجربة الشاعر عبدالله بلخير أن أورد موقفاً طريفاً في بداية حياته الشعرية يتحدث عنه الشاعر ضمن حديث الذكريات المنشور في ملحق «الأربعاء من جريدة المدينة المنورة»: وفي أول عهد الملك فاروق، أرسلوا طلعت حرب باشا، وهو عالم وأديب كبير، له مؤلفات وهو من خيرة رجال مصر. وطلعت حرب أرسلته الحكومة المصرية أيام القطيعة ليؤسس فرعاً لبنك مصر في مكة المكرمة وفندقاً يكون للحجاج وفي الوقت نفسه يحمل رسالة شفوية سريعة تعني إلى متى هذه القطيعة والمسؤولون هنا كانوا في انتظاره، لأن الملك عبدالعزيز والأمير سعود والأمير فيصل كانوا يحبون إنهاء هذه القطيعة.
قصيدة للمصالحة:
وقد نزل طلعت حرب باشا ضيفاً على الشيخ عبدالله السليمان، وكان رجلاً بارزاً في المملكة العربية السعودية في تلك الأيام وكان و زيراً للمالية. وقد كرم طلعت حرب باشا وقابل الملك عبدالعزيز. وأعد له الشيخ عبدالله السليمان حفلة تكريم في منزله في مكة المكرمة، وكان يصاحب طلعت حرب خمسة زملاء له من بنك مصر وكان الجميع معروفاً لنا نحن الشباب في المملكة لأننا كنا نطالع الصحف المصرية مثل اللطائف المصرية وغيرها. والحفلة كانت كبيرة جداً، حضرها علية القوم وكنت في مدرسة الفلاح تلميذاً، ولم نكن نتدخل في هذه الأمور السياسية، لكننا كنا نستنكر الأشياء الحساسة لاسيما إذا كانت من مصر وإلى متى تظل الشقيقة الكبرى بعيدة عنا. وهنا عملت قصيدة حييت فيها الضيف ورحبت به، ولما حضرنا إلى الحفلة قلت لواحد من أصدقائي وهو محمد سعيد خوجة، أنا معي قصيدة للباشا، فقال لي أنت لا تستطيع إلقاءها بدون إذن صاحب الدار الشيخ عبدالله السليمان، فقلت له: أنا أخاف أستأذن منه فيرفض، لصغر سني أولاً، ولطبيعة أبيات القصيدة ثانياً، فقال لي محمد سعيد الأفضل إن تقول له فتقدمت ناحية الشيخ عبدالله السليمان، الذي كان يطوف في تلك الحفلة على المدعوين ويرحب بهم وقلت له يا عمي، قال: نعم ماذا تريد؟ قلت أنا معي تحية للباشا تكريماً له، وهي قصيدة شعرية، فلو تسمح لي بإلقائها، فقال: هي طويلة أم قصيرة، فخشيت أن أقول إنها طويلة يرفض، فقلت له قصيرة، واعتبرت ذلك استئذاناً وتقدمت رأساً لألقي القصيدة على الرغم أن صاحب الدار لم يقدمني كعادة الحفلات التي يلقى فيها الشعر.


يا حمام الحمى تغنَّى بشعري
في ربا الروض بكرة وأصيلاً
وارفع الصوت حين تسجع حتى
يرد دالصوت دجلة والنيلا
علَّ مصراً أن تصغى فتسمع ما
ذا في ربوع الحجاز أمسى مقيلاً

واستمررت في القصيدة مرحباً بالضيف ومن معه أذكر أعماله في نهضة مصر وجهوده وكان المضيف مسروراً والباشا في غاية السرور. ثم رفعت صوتي بجرأة وقلت: «عجباً موقف الكنانة منا» وكررتها ثلاث مرات، فتعجب الناس، ونظر إلىَّ الشيخ عبدالله السليمان بدهشة ولسان حاله يقول «لبَّخ الحلو وإلاً إيه». لكنني أخذت أكمل القصيدة:


عجباً موقف الكنانة منا
ما عرفنا لسره تعليلا
قرُب الأبعدون عنا وصدَّت
وتمادت فما عسى أن نقولا
أجدير بها الصدود وحتى ما
أما آن للجفا أن يزولا
قسماً بالذي برى الكون
لا يملك فرد سواه فيه فتيلا
لو مشت «مصر» نحو «مكة» شبراً
لمشت «مكةٌ» إلى «مصر» ميلا

فسرت موجة من السرور على أوجه الجميع فسُرَّ الحاضرون لأن الحكاية تقارب ورغبة في تواصل الشعبين وإنهاء القطيعة. ثم قلت:


قد صبرنا وسوف نصبر حتى
يقضي الله أمره المفعولا
وإذا ما الحبيب أسرف في الهجر
فقل للمحب: صبراً جميلا

ستزول الغمة حتما، فصفق الجميع للقصيدة وفي نهاية الحفل طلب طلعت حرب من الشيخ عبدالله السليمان القصيدة التي ألقاها هذا الشاعر الصغير وطبعاً أعطيته القصيدة(3).
* ومنذ أكثر من نصف قرن نسج الشاعر عبدالله بلخير قصيدة وطنية تتوقدُ وجداً في عشقِ الوطنِ والانتماءِ إليه لا زالت أصداء تلك القصيدة تتردد في ذا كرة الوجدان الوطني الحماسي يقول فيها:


شبْهُ الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد
أشدو بذكراها.. وأهتفُ باسْمِها
في كلِّ جمع حافلٍ أو ناد
منها خُلقْتُ.. وفي سبيل حياتها
سعْيي.. وفي إسعادها إسعادي
كلُّ له في ما أحبَّ صبابةٌ
وصبابتي في أمتي وبلادي

ومن معاصري شاعرنا الأستاذ عبدالله بلخير الشاعر الأستاذ مقبل العيسى الذي يقولُ عنه: «الأستاذ عبدالله بلخير من رواد الشعر في المملكة العربية السعودية..
وعندما كنتُ شاباً في تحضير البعثات قرأتُ له قصيدة مطلعُها:


شبه الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد

لا شك أنني كل ما قابلتُ أبا يعرب أتذكر هذا البيت لأنه فعلاً يصور آمال وتطلعات الأمة العربية في ذلك الوقت حيث كان التحمس للقومية العربية لأنها التي تطلع إليها العرب والمسلمون.
وقد كتب الشاعر مقبل العيسى معارضاً قصيدة عبدالله بلخير أبياتاً منها:


بيتٌ من الشعر لن أنساهُ في خلدي
أرهفْتُ سمعي له يوماً بأجيادِ
لا زلتُ أذكرهُ رغمَ النوى زمناً
وهل تغورُ نجوم الملهم الشَادي
آمنْتُ بالشعرِ إلهاماً وموهبةً
تحكي الصبابات من أعمال رواد
من يلهمُ الطيرْ شدْواً في خمائله
إلا ترنُّمُ مُشتاقٍ بأمجاد(4)

* وعن نسيج البداية لدى شاعرنا عبدالله بلخير وتعليمه منذ مرحلة الشباب يتحدث الأستاذ الدكتور عاصم حمدان فيقدل: «عبدالله بلخير» واحد من أولئك الرواد الذين يجب أن نقف عند تاريخهم وقفات متأنية؛ يكون لنا فيها العبرة والدرس؛ من خلال ذلك الطريق الطَّويل والصَّعب الذي سلكوه في سبيل المعرفة، وتلك الإضافات البارزة التي نشهد أثرها في عدد من المصادر؛ التي كان صدورها قبل حوالي نصف قرن من الزَّمن يعدّ بداية رائدة، وتبشيراً بمستقبل فكريّ وأدبيّ زاهر؛ نشهد فصوله الرَّائعة في هذه الحقبة؛ التي نعيشها، والتي لا بد لنا أن نصلها بذلك الماضي؛ يعدُّ هذا الحاضر استمراراً له.
«عبدالله بلخير» ذلك «الفَلاَحِي» الذي تغذى من الثّقافة الإسلامية، والعربية الأصيلة، في حلقات العلم التي كانت تحفّها البركة لما تحقق لأصحابها من صدق وإخلاص، ولذلك الأسلوب التّربويّ القويم المتمثل في الرّعاية الرَوحيّة، والتي كانت دعامة هامّة من دعائم المعرفة لدى ذلك الجيل الرَّاسخ في تقواه، وعلمه، وسلوكياته. فلقد كان في الفَلاَح تتردد أصوات الصَّفوة من العلماء؛ من أمثال الشيخ «محمد العربي التبّاني»، و«السَّيد علوي المالكيّ»، و«الشيخ محمد نور سيف» رحمهم الله جميعاً وهو جيل أخذ أستاذنا الفاضل العلم متسلسلاً عنه، وارتوى من متابعة أثره، ولم ينس وهو يتجول في حواضر العالم الإسلامي، فيما بعد، وينشد الشعر في مغانيها أن يشيد بما تلقاه من علم، وحوته مداركه من معرفة؛ في صباه؛ وهو يتنقل بين حارة الباب وباب الباسطية؛ وهو إن دل على شيء فإنما يدّل على وفاء تختزنه نفس شاعرنا الكبير، واعتراف بالفضل؛ ينم عن تربية تتجافى عن الجحود، وتتطبَّع بالعرفان (5).
* وعن شخصية شاعرنا الأستاذ عبدالله بلخير يتحدث الأستاذ يحيى المعلمي أحد قارئي الشاعر العارفين بمعاناته الشعرية عن كثب فيقول:
«الشاعر الكبير شاعر العرب أو شاعر الأمة الأستاذ عبدالله بلخير ذلك أن الشاعر عبدالله بلخير يتمتع بصفات متعددة فهو شاعر عربي متحمس للعروبة بدأ وذلك ليس من اليوم وإنما من قبل ستين عاماً كان ينشد الأشعار والأناشيد وقد اشتهرت أناشيده وأنشدناها ونحن في المدارس وأنشدها معنا طلبة الشام والعراق، كان بعض طلبة الشام والعراق ينشدون أناشيد لعبدالله عمر بلخير قبل أن يظهر صيته في العالم كشاعر ولكن شعره انتشر لأنه مؤثر وقوي خاصة قصيدته التي يبدأها ويقول:


أرض الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد

والشاعر عبدالله بلخير هو في الأصل من أهل حضرموت وتلقى تعليمه في مدرسة الفلاح والجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت ووجوده في الجامعة الأمريكية ببيروت جعل له اتصالاً بكثير من شعراء العرب وأدبائها وأيضاً كان حريصاً أن يتصل بكبار الشعراء في العالم العربي، اتصل بأحمد شوقي في مصر وحافظ إبراهيم وأحمد زكي أبو شادي وغيرهم من الشعراء وزارهم وصار بينه وبينهم تعارف وأعجبوا بشعره شاباً شاعراً من المملكة السعودية تفجر حماسةً وغيرةً على وطنه ودينه فكان محل إعجابهم وعندما أكمل دراسته الجامعية عاد إلى مكة المكرمة وكان أول ما بدأ يعمل أن عمل في مطبعة الحكومة ليس رغبة في العمل وإنما ليكون على مقربة من مصادر الثقافة في ذلك الوقت.
المطبعة كان فيها مصدر الثقافة وكانت تطبع «جريدة أم القرى» التي كانت الجريدة الوحيدة في المملكة وكان هو يبذل جهداً في إعدادها، وإعداد الصحيفة بمساعدة الأستاذ محمد سعيد عبدالمقصود الذي كا مديراً للمطبعة وكانت المطبعة تنشر له قصائده في جريدة أم القرى وابتدأ أول انتشاره كشاعر في المملكة العربية السعودية بقصائد ألقاها بين يدي جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله ألقى بين يديه القصائد وأعجب الملك بشعره أو عز إلى عبدالله السليمان بأن يبتعث هذا الشاب إلى الخارج ليواصل تعليمه وحتى يحصل على نتائج طيبة إن شاء الله وبالفعل ذهب للتخصص في الأدب وعاد بعد ذلك وعمل في الديوان الملكي ثم صار رئيساً لمكتب شؤون الجامعة العربية والمؤتمرات في الديوان الملكي ثم رئيساً لديوان إمارة الرياض، اختاره أمير الرياض آنذاك ليكون رئيساً لديوانه ثم أصبح معاوناً لرئيس ديوان ولي العهد حين كان الملك سعود ذلك الوقت هو ولي العهد فأصبح معاوناً لرئيس ديوان ولي العهد ثم سكرتيراً خاصاً له ثم مديراً عاماً للإذاعة والصحافة والنشر أو وزيراً للإعلام بعد ذلك أحيل للتقاعد فسافر إلى خارج المملكة وقام بالسياحة الطويلة في أنحاء العالم الإسلامي وكان في كل منطقة يزورها يتتبع الآثار الإسلامية هناك وينشر قصائد ليست مجرد قصائد بل ملاحم طويلة من ثلاثمائة بيت، أو أربعمائة بيت خمسمائة بيت، في كل موقعة يشيد بالمعارف الإسلامية السابقة القديمة في عصر الفتوحات الإسلامية ويصور حالة البلد الآن وحالة البلد التي يمكن أن تكون عليها لو استمرت تحت حكم الإسلام خاصة في أوروبا بالذات.
من الشعر الذي كان ينشده أبناء العرب قصيدة له يقول فيها:


أبناء يعرب والنفوس فداؤكم
ما للشباب على الهوان مقام
فالملْك يُخطب بالصوارم والقنا
لا الكتب تخطبه ولا الأقلام
والحق يعطى للقويّ ومن يكن
غراً فإن الفاتكين قيام
لغة المدافع والقنابل والقنا
يشفى الخطاب بها والاستفهامُ
لا الاحتجاج ولا التظلل نافعاً
كذب اليراعُ وصُدّق الصِّمصامُ

قصيدة حماسية تذكي الحماس وكانت نشيداً لأبناء العروبة في مختلف أقطارها وله شعرٌ كثير في مختلف الموضوعات فأشاد بكثيرٍ من أجزاء البلاد السعودية فمثلاً عندما سافر إلى أبها أنشأ قصيدة في النادي الأدبي يقول فيها:


أزكى تحيات الصوارم والقنا
تغشى عسير حواضرا وهضابا
ومدائناً، وقرى مبعثرة على
شمَ الجبال رفارفاً وشعاباً
قممٌ معلقةٌ يضيء سفوحها
وهج الكواكب في الدجى جذاباً
شعت بها أضواؤها وتلألأت
تسبي العيون وتخلب الألبابا

إلى أن يصل مناطق من المملكة فيقول عن الجزيرة العربية:


تلك الشماريخ المنيفة والذرى
العاليات على السحاب رحابا
من حولها أبراجها وقلاعها
ملئ الفضا وسماؤها أنصابا
وأحاطها بالبحر يعرف حولها
سوراً يصون خطوطها سحابا
يلتف حول طويق والجبلين من
أجأو سلمى والقصيم ذهاباً
ويفيض أنهاراً تسيل مياهُها
تحت الجبال على الخليج عِذابا
تروى بها الأحساء وهي كما اسمها البحر
ين تزخر بالعيون شرابا

وفي الوقت الحاضر فإن الأستاذ عبدالله بلخير يقضي أوقاته إما يكتب الشعر أو يؤلف الشعر أو يُسجل بعض مذكراته وله ذاكرة خصبة مليئة بالذكريات الجميلة.
فالشيخ عبدالله بلخير رجل فعال ورجل فيه شيء من نكران الذات لا تجده في أي مكان يتحدث عن نفسه ولا تجده في أي مكان يحاول البروز أو الظهور، هو رجل شبع مجداً واكتفى مجداً يعيش الآن على ذكرياته ويعيش على حب المقربين منه وهو حقيقة محبوب جداً وأنا أجتمع به من وقت لآخر كلما أذهب إلى جدة وأحظى بالجلوس إليه وأستمتع منه ويمتعني حديثه(6).
* وعن نسيج البداية في حياة شاعرنا عبدالله بلخير يتحدث الأستاذ المؤرخ محمد حسين زيدان عن رفيق دربه فيقول: «عبدالله بلخير أعرفه ولا أعرفه، أعرف أثره ولا أعرف التأثير الذي حصل منه على هذه المكانة، لكنني أعرف تأثيراً و احداً هو أن عبدالله بلخير وأمثاله قد أعطوا «الفلاح» أن تكون بصمتها ظاهرةً علينا، فالفلاح في مكة لها بصماتُ على أبناء مكة ومنهم عبدالله بلخير الذي التحق أيضاً بالقصر الملكي عند الملك عبدالعزيز رحمه الله - كلاقط للإذاعة، فكان يأخذ من الراديو ويقرأ الأخبار للملك عبدالعزيز، وما كان كل من عمل لدى الملك عبدالعزيز يستطيع أن يستديم العمل معه أو أن يعيش فترة طويلة معه، ذلك أن الملك عبدالعزيز كان يُطاق بحمله ولا يُطاق بغضبه، ولا أدري كيف تسنى لعبدالله بلخير أن يتحّمل هذه الطاقة ولكنه أحيط برجال يقدرونه ويعرفونه»(7).
السياحة والملاحم في شعر
عبدالله بلخير:
ذاكرة الشعر ليست مقتصرةً على ما تختزنه من مكتسبات ثقافية ومعرفية وتاريخية من القراءات والأحداث التي شهدها الشاعر وعاصرها وعانى في حياته من تراكماتها، ولكنّ الارتحال في أرض الله الواسعة والتأمّل في الكون وارتياد الآفاق المختلفة يضيف إلى ذاكرة الشاعر ورؤاه أشتاتاً من التجليات والصور المعبّرة التي تجدد أنسجته وتلون أساليبه وأدوات بوحه ليستطيع أن ينسج من وشائجها نماذج شتى، وقد كانت تجربة شاعرنا الأستاذ عبدالله بلخير زاخرة بالتعبير الناضج النابض بالمعاناة الواعية للأحداث التي يتناولها في عدد من قصائده التي قرأناها مصطحبة بالمعاناة متفاعلة مع تجلياتها، وقد رصد ذلك التوجه الناقد الدكتور عبدالله الغذامي في حديث عن ملاحم الشاعر وتشخيصه لأسلوبها:
«إن ملاحم عبدالله بلخير تفوق كلَ ملاحم القرشي طولاً، وهي في ذلك شبيهة بقصائد ابن الرومي في طول نفسها وصفة الطول ليست هي الميزة الوحيدة، حيث إن القصيدة عند شاعرنا كانت بمثابة البلاغ التاريخي يعبر عنه الشاعر بمواقف شعرية تقوم على الوصف التشخيصي للحالة. وتتعدد الصور في القصيدة الواحدة لتتحول القصيدة إلى ملحمة تتشكل فيها الأدوار وتتعدد لتحدث تأثيراً في السامع ينقله إلى عالم القصيدة ليتفاعل معها، ولقد دهشتُ من رصانة أسلوب الشاعر وجزالته، وانسياب أبيات قصائده بين يديه على الرغم من طولها - دون أن تشعر بأي تعسف أو استدعاء للشعر في قصائده، وكأنّ الفصحى لغة شربها مع لبن أمه ولم يتعلمها تعلماً، ولم أرَ القافية تلين وتسهل في شعر معاصر كسهولتها في شعر عبدالله بلخير الذي سمعناه، اللهم إلا في شعر معروف الرصافي. ومن هُيّئت له قراءة شعر شاعرنا فسيرى ذلك جلياً»(8) وفي الموقف الشعري نفسه يقول الأستاذ الناقد الدكتور عبدالله الغذامي: «أما قدرةُ الشاعر على التشخيص فهي أبرز ما في قصائده، وهي التي تبرر طول القصائد، وتجعل الطول مدلولاً فنياً ذا أبعاد شعرية صادقة(9). والناقد عبدالله الغذامى يشير هنا إلى أربع قصائد من قصائد الشاعر عبدالله بلخير هي: القيروان، سبته، سويسرا، وهيلا سلاسي، نقف عند نموذج منها ففي قصيدة «سبته» بالذات يتناول أصداء رحلاته السياحية التي يقول عنها قبل إلقاء هذه القصيدة في إحدى الأمسيات الشعرية: «لقد وقفت تقريباً في العالم في كل بلد إسلامية، وأنشأت فيها قصيدة طويلة في خلال ثلاثين سنة، وقْفتُ في قرطبة وغرناطة وإشبيليا وفي سبتة وفي طنجة وفاس والقيروان وتلمسان وغيره، وسأقدم لكم فقط قصيدة واحدة عن قرطبة، ولكن سأقول كلمة واحدة عن سبتة، وذلك لأنها معروفة بأنها محجة علماء العدوتين، فكل من هاجر من الأندلس في زمانها الماضي والحاضر يمرُّ عليها وله فيها دار، فالقاضي عياض و ابن خلدون وكل أصحاب الحديث وأعلام الأندلس لهم دورٌ في سبته، وقد ذهبتُ وأقمت فيها أسبوعين ركبتُ فيها البحر قادماً من برشلونة ووصفتها:


لسبتةً ذكرٌ لا يزالُ معَطرا
يفوحُ شذا بين المدائن والقرى
وعهدٌ على الإسلام ضاء سناؤه
على المغرب الأقصى سراجاً منورا
تطاولَ ثم امتد شرقاً ومغرباً
كما سار بدر في الدياجي ونوَّرا
رأيت بها شيخاً، توجهتُ نحوه
فألفيتهُ كالرمح. يهتز أسمرا
تقود عصاه خطوةٌ، وصبيةٌ
تجاذبه في خطوه المتعثرا
مددتُ له كفى أحيِّي مسلِّما
فرحب بي مستعلماً مستفسرا
يسائلني ممن أخونا، وقد علا
محياه طيف المستريب تحيرا
فقلتُ: من البيت الحرام، فهزّهُ
جوابيَ هزَّ الكهربا.. فتسمرا
ومدَ ذراعيه، ومددتُ لضمه
ذراعيَّ في زهو العناق فكبرا
وفاضت مآقينا بما سال فارتوت
عواطفنا مما همى وتحدرا
فقلتُ: مَن العمُّ المهابُ؟ فكان في
سؤالي له ما لاح لي متذكراً
فقال: من أكناف الجزيرة، لا أعي
القبيلَ.. أمن عدنان أم كان حميرا
تدفق أجدادي ففاضوا على الرُّبا
من المغرب الأقصى خضما تكسرا
يقودهمُ موسى وعقبة كم طووا
المفازات منها بالسرايا وبالسَّرى
فجازوا على بحر الزّقاق يقودهم
بها طارقٌ فيمن أجاز ومن سرى
فأشمل منهم من تلقفت الذُّرى
طلائعهم بين المدائن والقرى
سمعنا من الأجداد أنّ جدودهم
أقاموا من البرنات للفتح معبرا
وأنّهمُ ممن أقال وحلّ في
بواتيه من نهر الموت المولول أحمرا
فكان لهم في أورليان وحولها
من الوطن الأفرنس مجد تكاثرا
إلى أن أتى الثلج المخيف وأطبق
الصَّقيع على عرب الصحاري مزمهرا
وبانت من البرد المدمر خيلهم
فكان لها من ذلك السهل مقبرا
جلوا وطووا عنها الخيام وجنّبوا
إلى الدفءِ في جيش إذا همَّ شمرا(10)

وفي مقال بعنوان «عبدالله بلخير شاعر الملاحم الإسلامية في العصر الحديث»(11). تناول الدكتور محمد أبو بكر حميد تجربة الشاعر عبدالله بلخير في نسيج قصائد الملاحم الإسلامية مؤكداً على أن إبداع الصورة الشعرية لديه يتجاوز الوصف إلى التصوير بالحركة واللون والمشاعر حين يتحدث عن أحداث خروج المسلمين من الأندلس التي تناولها الشاعر في قصيدته بعنوان «لا غالب إلا الله». التي يقول في مطلعها:


طافت الذكريات بي في درى «الحمراء»
في عالمٍ على المجد مُرسي
طفْتُ فيها، وفي حناياي منها
زفرات الواعي العليم المحس
طفتُ أرجاءها وبين
صياصيها كأني أطوف فيها برمسي
في جموع توافدت من زوايا
الأرض.. كانت غريبة الدار ليسي
مشرئباً إلى رفارفها أرنو
إليها.. تفيض بالحزن نفسي
خاشع الطرف عندما لاح لي فيها
«المصلَّى» ولاح تاج وكرسي
فاقشعرتْ مشاعري وتراءت
لي رؤى حاضري الحزين كأمسي(12)

ويشير إلى ما كانت تعيشه الأندلس على مدى ثمانية قرون حيث كان يتردد نداء الأذان في مآذنها خمس مرات في اليوم فيقول:


والأذان الداوي على الهضبات الخضر
يدعو إلى فرائض خمس
تتعالى به قراهم وتسمو
حين تصحو عليه أو حين تُمسي
فلك شعَّ بالشموس أنار ال
غرب عبر القرون في كل درس
ما رأت في ظلامها مثله أورو
بَاضياءُ يضيء فيها بقبس
مثل أضواء «قرطباً» وسناغر
ناطةٍ في الدجى ونور «بلنس»
كانت الأرض كلها تتلاقى
حول أبوابها.. ومن كل جنس
تتلقَ العلم الغزير على أعلامها
الغرَ من إمامٍ وكيسِّ

***
ونلاحظ التشابه في قصائد شاعرنا عبدالله بلخير إذ تسيطر الذاكرة الشعرية على عدد من منظوماته فتبقى أصداء قصيدة أو ملحمة سابقة في ذاكرته عند صياغة منظومة أخرى، من ذلك ما يلاحظ في «سبته» وقصيدة «لبيّك يا أمَّ القرى» حيث يتشابه الإيقاع والروىّ وتتكرر عدد من العبارات التي تتزاحم في القاموس الشعري لدى عبدالله بلخير حتى في القصيدة الواحدة نلحظ ذلك التكرار والتشابه، يقول في قصيدته:


أم العواصم والمدائن والقرى
لبيّك يا لبيك يا أم القرى
لباك من صلى وحجّ ومن دعا
وسعى وكبَّر خاشعاً واستغفرا
تتطاول القمم الشواهق في الذرى
كيما ترى في أفق مكتنا «حرا»
عال على القمم المنيفة حولهَ
تزهو السُّراةُ علا وتكبراً
يسمو الغمام له يطوف بغاره
في الأفق مستلماً ذراه مزمجرا
فتراهُ في السحب التي التفت به
مزَّملا بين الذرى مدثرا
وتكادُ تسمع سورة القلم التي
نزلتْ عليه تهز هامات الذُّرى
قُم واستمع صوت الأذان مهللاً
في الأرض من «أم القرى» ومكبرا
تتجاوب الدنيا صداه تماوجتْ
فيها مآذنها به متكررا
فإذا به بعثٌ ضياؤه
وجحافل ومشاعل تهدي السرى
وهُدى تفيضُ الجامعاتُ بفيضه
بحراً ترامى بالمعارف أبحرا

وفي قراءة الدكتور محمد أبو بكر حميد لملاحم الشاعر عبدالله بلخير ألمح إلى عناية الشاعر بالتاريخ العربي الإسلامي في تجربته الشعرية وفي ملاحمه بالذات فيقول «التاريخ بقلم الأديب غيره بقلم المؤرخ، ولاتقدم هذه الحقيقة جديداً فقد أدركها أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد عندما قال: إنّ الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التاريخ، وإن كان قد قصد بها الشعر المسرحي إلا أنّ هذا ينطبق علي التجربة الأدبية عموماً، ذلك لأنّ وظيفة الأدب ليس رواية ما وقع بالضبط في ما مضى ولكن استخدام ما حدث في الماضي للتحذير مما يمكن أن يقع في الحاضر أو المستقبل، لهذا قيل: إن عالم الشعر في توظيفه لما حدث في الواقع أقدر على إدراك أسرار القلب الإنساني لأنه يحسن استنباط المنطق من الأفعال الإنسانية والانفعالات ولهذا كان أكبر حظاً من الفلسفة، ولما كان الشعر تجربة شعورية في المقام الأول والأخير فإن التاريخ يتحول إلى عنصر من عناصر هذه التجربة يمتزج بها بحيث لا يمكن فصله عنها(13). وقد تناول الأستاذ محمود رداوي التجربة الملحمية لدى الشاعر عبدالله بلخير، وتطرق إلى الهاجس التاريخي فيها فقال عن ذلك: «وحين نعتنا الشاعر بلخير بأنه شاعر قومي وإنساني، إنما نعني أنه شاعر ملحمي أو بطل ملحمي، أي يعبر عن ذاته من خلال التاريخ، فقد كان يمثل تاريخ أمته بأمجادها، ودينها وحضارتها، وتقاليدها ومثلها وقيمها الإنسانية، كان يحاور الحاضر، ويستشف الماضي، وعلى ضوء هذه التعادلية المزدوجة كان يبث في نفوس العرب معاني الحماسة والعزة والكرامة مثل ما كان شعرا، الملاحم يثيرون شعوبهم وغيرهم إذاً هو ليس في ملاحمه شاعراً فردياً ذاتياً وإنما هو أمة بكاملها، كان يمثل التاريخ والحضارة والين كما يراها المسلمون والأمجاد والبطولات كما يراها العرب في تاريخهم (14). أما الأستاذ محمد حسين زيدان فقد شبه شاعرنا في سياحته ورحلاته بالرحالة «ابن بطوطة» وليس ابن بطوطة «المؤرخ» كما نص على ذلك بقوله: «كنا نقرأ له يوم كان لا يضنُّ بشعره، ولكن الشعر الكثير الذي ملأ الدفاتر أصبح عبدالله بلخير ضنيناً به بينما هو حافل بالذكريات، وكلنا ما كان يعرف أن عبدالله بلخير قد أمضى السنوات الكثيرة سائحاً كأنه «ابن بطوطة» ليس المؤرخ وإنما «ابن بطوطة» الشاعر، زار كل أثر إسلامي وكلَّ من إذا ذُكر بكته العين، زار الأندلس والمغرب كله.. حتى «يوغسلافيا» قد زارها فأثرت فيه، ولكن ذلك ما ضن به، كأنه يحتفل بنا إذْ يضن علينا، من هنا أُلزمه أن يبيح نشر ما كتب من هذه القصائد المطولة في «قرطبة» و «غرناطة» وفي «بلنسية» وفي الجزائر وفي فاس، وفي تلك التي إذا ما ذكرناها ذكرنا ماضياً مجيداً، ذكرنا العربيَّ الفاتح، ذكرنا العربي الذي علم اللغة، فلنا في الشمال الأفريقي تأثيران أو ثلاثة، التأثير الأول: تأثير الفتح ولم يعرب كثيراً، والثاني: هو تأثير التعريب وهو تأثير بني هلال وبني سليم، والموثر بين هذين هو تمسك المغاربة بمذهب أهل المدينة المنورة لأنهم يحبون هذه الأرض ويحبون إنسانها تمسكوا بمذهب مالك وتمسكوا بقراءة نافع، ولعلّ الأستاذ عبدالله بلخير يُطري المغرب بما يستحق ويُطري الأندلس بما يستحق وإنّ الذين عرفوا الأندلس يذكرهم التاريخ، ولعل أستاذنا محمود الصواف يعرف هذه القصة:


يا راتعين وراء البحر في دعةٍ
لهم بأوطانهم عز وسلطانُ
أعندكم نبأٌ من أهل أندلسٍ
فقد سرى بحديث القوم ركبانُ

لقد كان الشاعر يخاطب سلطاناً عظيماً له بواخر في البحر تخافها أوروبا وله جيشٌ فتح «البلقان» وغزا «النمسا» فأطلق امبراطور فرنسا الأسير من أجل عشيقته الأفريقية، ولكن معشوقه «الإسلام» في الأندلس عقه وتركه، ما أنجد الأندلسيين مع أنه لو أرسل البواخر فارغة وحمل المجاهدين المغاربة لأنقذ الأندلس، والتاريخ يسجل العار على كلّ خوان، لقد ذكرني بذلك الأستاذ عبدالله بلخير، رجل الخير الذي عرفناه وزيراً للإعلام وعرفناه في حاشية الملك يستطيع أن يضَّر ولا ينفع ولكنه نفع وما أضر(15). وقد أثار تعليق أستاذنا محمد حسين زيدان رحمه الله تساؤلات مهمة منها:
أولاً: تركيزه على أن الشاعر عبدالله بلخير ضنين بشعره على قرائه ومحبي شعره الذي يسهم في التعريف بالمواقع التي تتحدث عنها قصائده، والتوعية بالتاريخ الإسلامي في الأندلس وحضارته التي كانت في المغرب وجزء من الغرب، ومطالبته بنشر شعره وذلك ما سأتطرق له فيما بعد.
ثانياً: إشارته إلى «يوغسلافيا» وأنه ضنّ بشعره عنها، وهنا ينبغي أن أشير إلى أنّ إعلامنا المحلي والإعلام العربي قد ضنّ على قرائه بالتعريف بالدول الإسلامية ومنها الدول التي تقطن فيها أعداد من المسلمين مثل يوغسلافي وروسيا حيث لم نكن نعرف من قبل إلا أنها دول شيوعية فقط، وتلك من مسؤولية الإعلام ومسؤولية الرحالة والمؤرخين.
ثالثاً: إشارة المؤرّخ الأستاذ محمد حسين إلى التعريف وهل لفتة ذكية إلى دور الشاعر وقدرته في نقل الصور الواقعية عن أي حدث أو موقع تاريخي إلى اللغة العربية بوسيلة القصائد الشعرية، ومنها ملاحم شاعرنا عبدالله بلخير. ولا بُدّ لنا قبل اختتام الحديث عن الملاحم الشعرية للشاعر عبدالله بلخير أن نورد أبياتاً من ملحمة «قرطبة» التي أشار إليها في مقدمة حديثه عن «سبته» التي أوردنا أبياتاً منها. يقول الشاعر في قصيدته بعنوان «قرطبة»:


ترامى بين الشوقُ المح مغربا
لعاصمة الإسلام في الغرب «قرطبا»
سرير ملوك العُرْب في فجر مجدهم
على الأرض لما شع شرقاً ومغرباً
تركتُ بباريس المقام ميمماً
حماها، وقد نادى هواها ورحبا
تخيرتُ أن أسري إليها ومركبي
«القطارُ» اتخذنا منه للشوق مركبا
كأنَك في مسراك فيه برفرفٍ
من الخلد ما أبهى سناه وأرحبا
أوانَك في أرجوحة تتلقف المحط
ات مسراها الرتيب توثبا
تطيل به الأسفار عمرك.. أنت في
ذراعيه هادي البال إن خب أو حبا
تمرُّ بك الدنيا، وأنت ممتعٌْ
بها.. تجتلي منها العجائب معجبا
ركبتُ قطار الليل، والليل مشرقٌ
بباريس في أضوائها قد تجلَّبا
تطاول منساباً بنا وكأنه
الشَهابُ هوى بين النجوم مذنَّبا
مقاصيره مثل القناديل نورت
دجي الليل.. تطوي مشمخراً وسبسبا
تراءت على الأفق البعيد كأنها
الكواكب تهوى.. كوكبٌ جر كوكبا
تلوتْ على قضبانها وتأودتْ
تُراقص في مجرى تعاريجها الرُّبى(16).

وهكذا يستطرد الشاعر في الوصف التصويري لما حوله متناسياً الأحداث الأهم مندهشاً بالقطار وكأنه يركب فيه أول مرة ولكنه الانسجام مع الصورة التقليدية القديمة المنغرسة في الذاكرة من شعر البحتري وابن الرومي وغيرهما من شعراء الصوف والديباجة ثم يأخذ الشاعر بعد أكثر من عشرين بيتاً حشواً إلى «قرطبة» التي اشتقنا إلى ملامحها وأخبارها فيقول:


وصبَح مسرانا.. فحط قطارنا
بأندلس الإسلام.. أهلاً ومربحاً
بقرطبة الفتح المبين التي سرى
بنا نحوها الشوق المصفق ملهبا
جعلت طريقي حين أقبلت جرها
العظيم على «الوادي الكبير» مجنبا
تُطلُّ القصور النائفات بشطه
على ما تناءى منه أو ما تقربا
رفارفُ جناتٍ تطاول ظلُّها
على صفحة النهر العريض مخضباً
يعطرها ما فاحت به شرفاتُها
من الروض ما فيه الندى قد تسربا
كأن به من عرف «طيبة» نفحةً
من الطيب من «وادي العقيق» ومن «قُبا»
أو «الغوطة الفيحاء» رفرف حورها
بما لاح فضي الأفانين أشهبا
أو «النيل» ياما أروع النيل وهو في
مواكبه يختال في مصر مُذهبا
تجاوزْتُ جر النهر أهتز نشوةً
كما اهتز «عمار» فلبى مشوبا
إلى «الجامع الأقصى» إلى المسجد الذي
تعالت به تزهو وتختال «قرطبا»
بقية ما أبقى الزمانُ، وصانه
من المجد للإسلام والعُرب واجتبى

إلى أن يقول في هذه المنظومة المطولة مستذكراً ومذكراً بالأحداث الإسلامية السابقة:


أثارت شجوني الذكرياتُ بقرطبا
وأشعلت الشجو الدفين الذي حبا
وقد كان حلمي يوم يممتُ ساحها
وصلهيتُ في محرابها متقربا
سلامٌ على باني شوامخ مجدها
و «صقر قريش» من تعالى توثبا
وحامل أضواء الحضارة مشعلاً

بها في أوروبا ما أنار وهذَّبا(17)
***
صحيح أنه شعر تقريري تقليدي ولكنّه يأخذنا إلى أبعاد تاريخية إسلامية فيكاد أن ينسينا فنية الشعر والاحتفاء بابتكاراته. ويبقى التساؤل مفتوحاً عن عدم نشر الشاعر الأستاذ عبدالله بلخير لشعره حيث لم أجد الإجابة المقنعة عن ذلك مما جعل هذه القراءة مقتصرة على ما توفر من شعره المنشور في الصحافة وما أشير إليه في القراءة الموجزة عنه.
أما تكريم الرجل على عطائه وإخلاصه تقديراً ووفاء له فهو أهم ما تطالب به هذه القراءة الموجزة عنه، وتلفت النظر إليه.
* الرياض- فاكس 4852199
(1) ص211 من كتاب «وحي الصحراء» وص5،29 من كتاب «عبدالله بلخير» لمحمود داوي.
(2) ص6، 31 من المرجع السابق.
(3) الأربعاء 19 رجب 1415هـ «حوار مع الشاعر عبدالله بلخير».
(4) من كتاب «عبدالله بلخير شاعر الأصالة» للأستاذ محمود رداوي.. ص250.
(5) جريدة المدينة العدد 8777 في 13/11/1411هـ.
(6) من حديث مسجل معه السبت بتاريخ 2/10/1418هـ في البرنامج الإذاعي «رجال في الذاكرة» من إعداد المؤلف.
(7) ص244 من كتاب «عبدالله بلخير شاعر الأصالة والملاحم العربية الإسلامية» لمحمود رداوي.
(8) ص240، 241 من كتاب «عبدالله بلخير» للأستاذ محمود رداوي.
(9) المرجع السابق.
(10) من أوراق الأستاذ الشاعر أحمد سالم باعطب.
(11) مجلة أهلاً وسهلاً ص34 يناير 1998م.
(12) المرجع السابق ص32.
(13) المرجع السابق ص330.
(14) ص96 من كتاب «عبدالله بلخير شاعر الأصالة والملاحم العربية والإسلامية» للأستاذ محمود رداوي.
(15) ص247 من المرجع السابق.
(16) و (17) من أوراق الأستاذ أحمد سالم باعطب عن إثنينية الأستاذ عبدالمقصود خوجة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved