Friday 3rd January,2003 11054العدد الجمعة 30 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من وحي الأندلس من وحي الأندلس
المسلمون بين الأمس واليوم
قصيدة
للشاعر/ عبدالله عمر بلخير

ترك الشاعر الراحل معالي الشيخ عبدالله عمر بلخير تراثاً شعرياً ضخماً، لم ينشر بعد في ديوان. وقد حصلت «الجزيرة» على بعض قصائده المجهولة التي يعود تاريخ نظم بعضها إلى حياة الملك عبدالعزيز، وستنشرها من حين لآخر تقديراً للرجل وحفاظاً على تراثه من الضياع.

الجزيرة


تَرامي بيَ الشوقُ المُلِحُّ مٌغَرِّبَا
لِ(عاصمةِ الإسْلام) في الغرْب (قَرْطُبا)
سريرِ مُلوكِ (العرْبِ) في فجْر مَجْدِهْم
على الأرض لمَّا شعَّ (شرقاً) و(مغْرِبا)
تركتُ ب(باريسَ) المقامَ. ميمِّماً
حِماها.. وقد نادى هواها ورحِّبا
تخيَّرْت أن أسْري إليها. ومَرْكبي
(القطارَ) أتَّخَذْنا منه للشوق مركبا
كأنّكَ في مَسْراكَ فيه. برَفْرَف
من (الخُلْدِ) ما أبْهى سَناهُ. وأرْحَبا
أَوَ انَّكَ في أرْجُوحةٍ. تتلقّفُ (الْ
مَحطّاتُ) مَسْراها الرَّتيبَ. توَثَّبا
تُطيلُ به الأسْفارُ عُمْركَ.. أنت في
ذراعيْه هادِي البالِ. إن خبَّ أوْحَبا
تَمرُّبك الدنيا. وأنتَ ممَتَّعٌ
بها.. تجْتلى منها العجائبَ مَعْجَبا!
ركبتُ قطارَ الليل. والليلُ مشرقٌ
ب(باريسَ). في أضْوائها قد تجلْبَبا
تَطاولَ مُنْساباً بنا. وكأنَّهُ
الشِّهابُ هوى بين النجوم. مُذَنَّبا
مقاصيرُه مثل القناديل نَوَّرتْ
دُجى الليل.. تَطْوي مُشْمخرِّاً وسَبْسَبا
تراءَتْ على الأفْقِ البعيدِ كأنها الْ
كواكبُ تهوي.. كوكبٌ جرَّ كوكبا
تلوَّتْ على قضْبانِها. وتأَوَّدتْ
تُراقصُ في مَجْرى تعاريجها الرُّبى!
يموجُ رسيسُ الشجْوِ حَوْل انْسيابها
كهمْسِ العَذارى العاشقاتِ إذا نَبا
يُخيَّل للمُصْغِي إليها.. وهَمْسُها
يَلي صَمْتَها.. خَفْقُ الفؤادِ معذَّبا
أوَ أنَّ الذي يُصْغِي إليها. وقد سَجا
به الليلُ. في ما قد نأى أو تَقرَّبا
معازفُ جِنٍّ في (وبارٍ) تلاحقَتْ
ودقَّاتُ طبْلٍ خلْف نيرانها اختبا
ترامتْ إلينا من مَراقصِ (عَبْقَرٍ)
على (الرَّبُع الخالي) تهبُّ بها الصَّبا
أراجيزُ. قد خَبَّ القطارُ مُسابقاً
صداها المدوِّي... راجزاً متعقِّبا
يلفُّ (جبالَ البيرنِيه) ويَعْتَلِى
شماريخَها بين السحاب تحسُّبا
تحدَّرَ من صعْبٍ مُنيفٍ من الذُّرى
إلى مثْلِه.. إن لم يكنْ منه أصْعَبا
إذا ما هوى ينسابُ بين هِضابها
تَخيَّلْتَ ثعباناً قد انْسابَ مُرْعَبا
تلوَّى على حافاتِها مترنِّحاً
يحاولُ من تلك الشماريخ مَهْربا
على ضوْءِ بدْرٍ صاحكٍ سار حولنا
يطلُّ علينا مُسْفِراً.. لا محَجَّبا!
وَصبَّحَ مَسْرانا.. فحَطَّ (قطارُنا)
بأنْدلس الإسْلام. أهْلاً ومَرْحَبا
ب(قرطبةِ) الفتْح المبينِ التي سَرى
بنا نَحْوَها الشوقُ المصفِّقُ مُلْهَبا
جعلتُ طريقي حين أقبلتُ جسْرَها
العظيمَ، على (الوادي الكبير). مجَنَّبا
تطلُّ القصورُ النَّائفاتُ بشطِّهِ
على ما تَناءى منه. أوْ ما تقرَّبا
رفارفُ جنَّاتٍ تَطاولَ ظلُّها
على صَفْحة النَّهْر العريض. مخَضَّبا
يعطِّرُ ما فاحتْ به شُرُفاتُها
من الرَّوْضِ. ما فيه الندى قد تسرَّبا
كأنَّ به من عَرْف (طيْبةَ) نفحةً
من الطِّيبِ.. من (وادي العقيق) ومِن «قُبا»
أو (الغُوطةِ الفيْحاء) رفْرَفَ حَوْرها
بما لاحَ فضِّىَّ الأفانين. أشْهَبا
أو (النِّيلِ) ياما أرْوعَ النِّيل وهو في
موَاكبهِ يَخْتالُ في (مصْرَ) مُذْهَبا
تجاوزْتُ جسْر النهر. أهتزُّ نشوةً
كما اهْترَّ (عمَّارٌ) فلبَّى مثوِّبا
إلى (الجامع الأقصى) إلى المسجد الذي
تعالتْ به تزهو وتختالُ (قُرْطُبا)
بقية ما أبقى الزمانُ وصانَه
من المجْدِ للإسلام والعرْب... واجْتبى
فلمَّا تراءى لي، وقفتُ مسلِّماً
يخيَّلُ لي أنِّى أرى فيه (يَثْربا)
ولو جاز في (الإسلام) قبَّلْتُ ركْنَهُ
وطُفْتُ، كما طفْتُ (العتيقَ) المحجَّبا
خلعتُ نعالي خاشعاً عندبابه
أسيرُ إلى محْرابه متأهِّبا
وكبَّرتُ فيه قائماً في تحية الْ
قُدومِ. بقلْبٍ خافقٍ قد توثَّبا
أطلْتُ تحيَّاتي. فطالتْ تحيَّتي
بمحْرابه.. أجثُو به مترهِّبا
وسلَّمْتُ. تَدْوى الذكرياتُ بخاطري
أكادٌ أرى ذهْني بها قد تعصَّبا
تخيَّل لي منها رؤاها كأنَّها
أمامي. يرى فيها خيالي المغيَّبا
يمرُّ على ذهني الكليلِ هَواجساً
تغشَّتْ يقيناً شعَّ فيها مكهْرَبا
تراءى (أميرُ المؤمنين) وآلُه
وموكبهُ في (جمعة الصوم) مُجْتبى
تحفُّ كراديسُ الفوارسِ تَحْملُ
الرِّماحَ به حوْل المٌصلّى تألُّبا
ترجَّلَ يمشى.. والعمائمُ حوْلَه
تمُورُ. وكلٌّ بالسِّلاح تنكِّبا
وأدَّى صلاةَ الفرْض قام خَطيبُها
فرَهَّبَ في ما قد أطالَ. ورغَّبا
وأبكى (أميرَ المؤمنين) وعيدُه
وقد مَحَّض النصْحَ الأميرَ. وأسْهبا
وقال الذي ما قاله. فوق منبرٍ
سِواهُ، بأذني حاكمٍ حين أنَّبا
وصلَّى.فقامتْ بالمصلِّين حوله
الصفوفُ.. فلمَّا أمَّنوا اهْتزَّتِ الظُّبا
فأضْفى على الجَمْع الجلالَ تماوُجُ الصَّهيلِ
.. بتأمينِ المصلِّين مُسْهَبا
أثارتْ شجُوني (الذكرياتُ) ب(قرطبا)
وأشْعلتِ الشَّجْوَ الدَّفينَ الذي خَبا
وقد كان حُلْمي يوم يمَّمتُ ساحَها
وصلَّيْتُ في محرابها متقرِّبا
السلامُ على باني شوامخ مَجْدِها
و(صقْر قريشٍ) من تَعالى توثُّبا
وحاملِ أضْواء الحَضارة مُشْعلاً
بها في (أوربَّا) ما أنارَ وهذَّبا
تهيَّأتُ.. فاخْترتُ (العباءةَ) كالسَّنى
المرفرفِ. واخترتُ (العقال) مُقَصَّبا
وسرْتُ إلى (دار الخلافةِ). كلَّما
قربْتُ بخَطْوي ازْدَدْتُ منها تهيُّبا
دخلتُ فِناها.. والسُّعاةُ بجانبي
وخلْفي. يدلُّوني السبيلَ المقَرِّبا
إلى قاعةٍ كبرى، تزاحَمَ حوْلها
وفي بابها.. من قام فيها تأهُبا
تراءى (أميرُ المؤمنين) بصَدْرها
فلمَّا رآنِي.. قام يمشي مرحِّبا
فسلَّمْتُ تسليمَ (الخلافة) لاثماً
به.. فوق عينيه الجبين المعصَّبا
يفوحُ بعرْفِ الطِّيب مِفْرَقُ رأسِه
وفي كفّه السيفُ الذي قطُّ مانَبا
ومِلْنا إلى صدْر المكان. فمالتِ الْ
عيون علينا.. هيبةً وترقُّبا
وأومأَ لِي في أن أكون يمينَهُ
وكرَّر لي ترحيبَه حينما احْتَبى
يٌسائلني عن (مكةٍ) وديارهمْ
بها وهو يستقصى لما كنتُ مُطْنِبا
وكان لنا فيما أفَضْنا بذكره
حديثٌ ترامى في المسامع مُعْجبِا
وطابتْ لنا (دارُ الخلافة) وهي في
عُلاها.. مَحَجُّ الخلْق في الارض تُجْتبى
أقمْتُ أصلّي (الخمْسَ) في المسجد الذي
يموجُ بمن صلَّى به. وتقرَّبا
وفي المسجد العلمُ العزيرُ تزاحمَ
الجموعُ عليه. حينما عزَّ مَطْلبا
مشي بِى الهوى.. أرْنو إلى حَلَقاتِه
وقُوراَ، شجيّاً، خاشعاً. متأدِّبا
رأيتُ (ابْنَ حزْمٍ) ذاع في الدرْس صوتُه
يقرِّر ما أشْجى القلوبَ. وما سَبى
تعالى. فأصْغى السامعون فخِلْتُ ما
تَعالى انْهمارَ الغيْثِ. أرْوى وأخصَبا
يحفُّ به طلاَّبُه.. فهو بينهمُ
يردِّد ما أفضى به، وتأهَّبا
يشعُّ جلالُ العلْم فوق جبينه
يفوحُ بعَرْفٍ من تُقاه مطيَّبا
وينشدُ من شِعْر الجَمال طرائفاً
يبلُّ بها يُبْسَ القلوب مُرطِّبا
يرشُّ بها أكْبادَ صَبٍّ وعاشقٍ
بطلٍّ من الحُبِّ الطهورِ. تصَبَّبا
ويرْوي بها أصْداءَ كلِّ بصيرةٍ
ويُجْلى عن الأبصار ما قد تحجَّبا
تضوَّعَ في (طوق الحمامةِ) شجْوُه
فأَرْوى به ما كان أظْما وأسْغَبا
وأسبغَ فيه من طُيوفِ خوالج
النفوسِ.. صفاءً بالسَّماح مٌشَرَّبا
وأبصرْتُ (شيخاً) قد تحلَّقَ حوْله
المُريدون.. ما أبهى مُحيَّاه أشْيَبا
وقالوا (ابْن رُشْدٍ) قلْتُ شيخُ زمانهِ
وأُعجوبَةُ الإسلامِ عِلْما ومنْصِبا
وشيخُ شيوخِ الفكْر في الغرْب كلُّهمْ
يسيرون في مَسراه.. عقلاً ومَشْربا
أصختُ بسمْعي نحوه. فإذا به
يموجُ بما يُملي عليهم. مصوِّبا
تريَّث في إمْلائه متهدِّجاً
يردِّدُ ما يَرْوي.. بياناً مرتَّبا
يخبُّ وراه الكاتبون، ليكتبوا
أماليَ قد أفضى بها متشعِّبا
ففاضتْ عليهم من نُهاه بما به
تمرَّس في هذى الحياة وجرَّبا
يبرهنُ أن الله جلَّ جلاُلهُ
بَرى سننَ الأكْوان. سلْباً وموجبا
وألَّف منها ما تنافرَ. فاسْتوى
(الوجودُ) على ما قد أرادَ وركَّبا
ويمضي على هذا البيان. كأنّه
سحابةُ غيْثٍ في يَفاعٍ قد أجْدَبا
وقمتُ أريدُ (الشعْرَ) فارتاحَ صاحبي
وكا (ابْنَ قزمان) الاديبَ المجرِّبا
مَشينا إلى (الوادي الكبير) فحَوْلهُ
(عكاظٌ) أقاموا فيه للشعْر مَضْربا
قد اضطربتْ أرْجاؤه بمواكبِ
الشَّباب.. كأضْواء النجوم تلهُّبا
تزاحمَ فيه المنشدون. وردَّد
الرُّواةُ. وغنَّى من يغنِّي.. فأَطْربا
ومالَ على أذني (ابنُ قزمانَ) هامساً
مُشيراً إلى شيْخٍ تُفَكُّ له الحُبى
يشقُّ زحام المحْتَفين تطاولتْ
إليه عيونُ المعجبين.. تطرُّبا
تربَّع ما بين الجموعِ، فأحْدَقوا
به في اضْطرابٍ.. منصتين تألُّبا
فقال: عرفتَ الشيخَ؟ قلتُ (ابْنَ ناصحٍ)
أو (ابْنَ الطُّفيل) العبقريَّ المهذَّبا؟
فقال: مغنِّي الشرق (زرْيابُ) حوْله
الجماهيرُ. كَمْ من منكبٍ لزَّ مَنْكبا
أبو الهَمَساتِ الراقصات. تناثرتْ
على لهَوَاتِ العاشقين. تعَرُّبا
ومُوحي بما غنّى المغنُّون. (والتُّرُ
بدورُ)، وما أشجى. وأضْنى. وعذَّبا
ومُنْشى أهازيج الهوى. وهي عندنا
التَّواشيحُ.. قد أنْشا غناها المركَّبا
تعلَّم منه(الغرْبُ) ألْحان عزْفِه
فَشرَّق في دنيا الأغاني. وغرَّبا
وهاتيك (غزلانٌ) وتلك (هنيدةٌ)
فتاتاه. في حبٍّ دفين تعذَّبا
تبثَّان من (عُودَيهما) ما تمايلتْ
عليه خُصورُ المنْتَشين. تلقُّبا
أهازيجُ أوحتْها ل(زرْيابَ) جِنَّةٌ
تسيلُ على العيدان حباً تَصَبْصَبا
حبَتْنا به (بغدادُ) فهو بهذه الدّيار..
تراه المَشْرقيَّ المغرِّبا
إذا هَجعَ السُّمَارُ، وانْسابَ صوتُه الشجيُّ
على الوادي الكبير مشبِّبا
وغنّى بما أشْجى.. فماستْ مشارفُ
الذُّرا.. وذؤاباتُ (العروس) تصبُّبا
رأيْنا بوادينا (العقيقَ) و(وجَّهُ)
و(خيْفَ مِنى) و(المنْحَنى) و(المحَصَّبا)
(وفسْطاط) وادي النيل وهو مصفِّقٌ
لِما اهْتزَّ من طولِ النخيل.. مُرجَّبا
و(دجلةَ) يجرى خلْفها في هيامه (ال
فُراتُ) بشاطِى (القُرْنتين) تلعَّبا
مشارفُ دنيانا. ومهوى قلوبنا
وحيث العُلا والمجدُ للعرْبِ. وإلابا!
وتابَع ما يَرْوي (ابنُ قزمانَ) ضاحكاً
يٌسائلني في غبْطةٍ. متعجِّبا..
أتدْري من (الشيخ) الذي مالَ وانْتحى
من القوم.. ما بين المليحات. مرْقبا
تنكَّر في أردانه متخفِّياً
على ما تراه ثَمَّ فيها مُجَلْبَبا..
(ابْنُ زيدون) كم قد رقَّص الغرْبَ شعْرُه
ب(ولاَّدةٍ) فيما تغنّى وشبَّبا
هَواها. فغنَّاها. وغنَّتْه ما به
إذا رَفِّ في سمْع المسيحيِّ . صَلَّبا
فأَوْرقَ دوْحُ الحبِّ واخْضرَّ وازْدهى
وقد كان من قَبْلِ ابْنِ زيدون مُجْدِبا
على صوته غنَّتْ قُرانا. وصفَّقتْ
ذُرانا.. بما أشْجى القلوبَ وطبَّبا!
وأبْصَرَنا من قد تجمَّع حَوْلنا
فقد عَرَفُونا صاحبين تحزَّبا
فصاحوا جميعاً بابْنِ قزْمانَ فانْتَشى
وغنّى. فأشْجى لحْنُه حين أعْرَبا
فماجتْ بما غنّى الجُموعُ. ورفَّتِ الْ
بمقاصيرُ. تزهو بالجمال وبالصِّبا
تناثَرَ في الأقمار من شُرُفاتها
يشعُّ بها جنْحُ الدَياجر. أقْشَبا
حرائر من علْيا (أميَّة) تستحى ال
بُدورُ إذا ما لُحْنَ من سُجُفِ الخِبا
كأنِّي أرى (لبْنى) و (لَمْيا) و(ميَّةً)
يزاحمْنَ (ليلى) و(الرَّبابَ) و(زينبا)
ترفَّلن في زاهي الحرير مساحباً
ومسْنَ بأرْدان الدِّمقْسِ مذهَّبا
تحفُّ بهنَّ الغانياتُ وصائفاً
من (الحُور) و(الولدان) و(الرِّيم) والظِّبا
مجرَّةُ ملٌكٍ أشرقتْ بضيائه
وجرَّتْ من الأمجاد. مجْداً تغلَّبا
تعرفت (اوْروبَّا) الحياةَ بظلِّه
مباهجَ.. ما أحْلى رُؤاها وأعْذبا!
وتابعتٌ سيرى.. وابن قزمان صاحبي
دليلي. اذا ما ملْتُ. مال مطرِّبا
نجولُ على الوادي.. وأضواءُ بدْره
قد اتّخذتْ من ضفَّة النهر مَلْعبا
يغنَّي بها في منحنى النهر عاشقٌ
بظلِّ شراعٍ. جرَّصوتاً ومطْربا
تهادى به.. حتى ترى لانْسيابه
على صفحةِ الماء المصفِّق. مَسْحَبا
أصاخَ له في شرفةٍ سمْعُ مدنفٍ
به هزَّه لمَّا رَنا... مترقِّبا
شجاه بما غنّى.. فأَصْغى لما شجا
وكان الهوى فيما تكتم واختبا
وغاب رقيبٌ قدْ ينمُّ بما رَأى
وأزكى الهوى ما قد يكون مكذَّبا!
أفقْتُ من احْلامي. فالفيْتُني بها
على سِنَةٍ من غمْضة الطَّرْف أقربا
رؤىً لستُ أدْرى كيف مرَّتْ بخاطري
أماط الكَرى عنها الستارَ وصوَّبا
خيالٌ وأشباحٌ. يلاحقُ بعضُها
من الغيْب بعْضاً. لاهثاً متغضِّبا
تهزُّ كياني. وهي تُومض كالسَّنا الْ
بعيد بذهني.. لا أضاءَ. ولا خَبا
تلاشت أمامي كالسَّراب فخِلْتُني
كأنِّيَ ممَّا كنتُ قد عدْتُ مُسْلَبا
إلى (مسجدٍ) لمْ ألقَ فيه موذِّناَ
يؤذِّنُ. أو ساعٍ يلبِّي مؤوِّبا
أفقْتُ. فألْفيتُ السَّوارى يلفُّها
من الحزْنِ. ما قد لفَّها منه. مُرْهِبا
حبيسات ماضٍ مَرَّ يخشاه حاضرٌ
إذا ذكَروا ما كان فيه. تهرَّبا
تماسكْن في ذعْرٍ من الصّمْت مُرْجفٍ
كانَّ خيالاً مدَّ ناباً ومخْلبا
أحطْنَ بمحْراب (الصلاةِ) و(مِنْبر)
الإمامة. فعْلَ المستجيرِ قد ارْعِبا
وقد أوصدتْ من حولهنَّ نوافذُ (الْ
مصلَّى). فأمْسى كلُّ نورٍ محجَّبا
فلا يُرشدُ الزوَّارَ في جَنَباتِها
نهاراً. سوى ضوءِ الشموع مُذَبْذبا!
تركتُ (المصَلَّى) خارجاً في كآبةٍ
من (المسجد) الثَّاوي على البعْد مُغْرِبا
أجرُّ خُطى سَيْري. وقد ضاق خاطري
بما لاحَ لي فيما بدا وتقلَّبا
تحشرجُ أنفاسي. بما اغرورقتْ به
عُيوني. كئيباً كاسفَ البال مُتْعَبا
اردِّد في مِثْل اللَّظى بين أضْلعي
أحسُّ به كالجمْر فيها تلهَّبا..
فقدْناك يا (سُلطانةَ المدنِ) التي
بمَغْربها في (الغرْبِ) سمَّوْهُ (مغْربا)!
طوى الدهرُ من عليا سماكِ (مجرَّةَ النُّجوم)
فأمْسى ليلُ دنياك مُرْعِبا
تهاوتْ صُروح المجد فيك. ودَّمرتْ
ذُراه السَّوافي.. ثم راحَتْ به هَبا
كأن لم تكنْ تلك (القرون) مواكباً
من المجْد تترى. موكبٌ أمَّ موكبا
هو الدهرُ. دولابٌ يدورُ. وهذه
(الحياةُ) صراعُ.. ما تعمَّرَ. خُرِّبا
تَوالى بها كرُّ العُصور. ولم تزلْ
تدورُ وتُطْوى.. كلُّ ما اخْضَرَّ أجْدَبا
فويلٌ لمن يتَّعظْ من تقلُّب الزَّمانِ
ومن لم يتخذ منه مَشْربا
ولا غالبَ الا الله.. عروةُ واثقٍ
لمنْ كان مغلوباً.. ومن قد تغلَّبا
تجوَّلْتُ في أربْاض (قُرْطُبَ) باحثاً
بها عن بَواقي المجْد فيها منقِّبا
وقفت على أطلالها.. فإذا بها
بلا قعُ.. قد جفَّ الذي اهتزَّ أو رَبا
ألا أيُّها المجْد الذي انْهارَ صرْحُه
وأصبحَ ذِكْرى تبعثْ الغمًّ مُكْرِبا
تعالى به (الاجْدادُ) حتى سَما بهمْ
وضيَّعه (الأحْفادُ) حتى تخرَّبا!
تنازعَ (قوَّادُ الطوائف) بينهمْ
وقد صالَ منهم كل من هبَّ أو دَبا
فتلقى على أنحاء كلِّ ولايةٍ
(أميراً) و(سُلْطاناً) و(قيلاً) و(مكْربا)
يخوضون حرباً. قد صلَتْهُمْ بنارِها
فكانوا وقُوداً في لِظاها. ومكسَبا
قبائل. عادتْ للتنازع بينها
تناستُ من (الإسلام) ديناً ومذهبا
أثارتْ شعارَ الجاهلية دامياً
يقاتل (عدنانٌ) على الحكْم (يَعْرُبا)
قد انْغَمسُوا في اللهو والفسْق فانْتَهوا
به حين أمْسى منذرُ القوم مُذْنِبا
وأقبل طوفانُ (الفرنْج) فأغْرَقتْ
أواذيه دنياهُمْ.. طغى وتعقّبا
تسيلُ بمَنْ فرَّ المسالكُ ناجياَ
من الموت.. مذعورَ الجوانح مُتْعَبا
وأوقدتِ النيرانُ.. يلتهم اللَّظى
الأُسارى. وحتى من تنصَّر. أو صَبا!
ألا أيها النُوَّام. والشرُّ مُحْدقٌ
بأوْطانهمْ.. أوْدى بها حين أَرْعَبا
تفجَّر في أقطارنا.. وكأنَّه الْ
بَراكينُ تَدْوي بالدَّمار توثُّبا
تجمَّعَ فيه الأقوياءُ.. تحالفوا
علينا، عَداءً منهمُ وتصلُّبا
تجمَّع فيه (الشرقُ) و(الغربُ) كلّهمْ
يحاربُ مَنْ مِنَّا لسلطانه أبى
وما اجْتمعوا عَبْر القرون جميعُهمْ
إذا اجْتمعوا.. إلاّ علينا تعصُّبا
وما بينهم في الكارثات (محايدٌ)
فأضْعفُهمْ. تلقاه ذئباً وثعلبا
ودونكمُ التاريخُ.. عَبْر قُرونِه
تفيضُ به البَغْضا على العُرْب كالْوَبا
وما نحن فيه اليوم. برهانُ ما مضى
ليؤْمنَ من لاحَى. ومارى. وكذَّبا
وعِلَّتُنا الكبرى. هوانُ صُفوفنِا
وضعْفُ قوانا.. قد أصابا فأَعْطبا
(ملايين) مثْل النمل. لا في صِراعها
الحياة. على جهد الضعيف تدرَّبا
ولكنّه في العدِّ. كالرَّمْل تعبثُ
الرياحُ به عبْر الفيافي. تقلَّبا
تموجُ به كثبانه في زعازعٍ
يسمُّونها فيما تهبُّ به. الهَبا!
قضاءٌ قضاهُ اللهُ. عاقبَ من طغى
به. أو بغى. لمَّا تمادى.. وأدَّبا
فيا ويح من لم يتَّعظْ بمصيرهمْ
سيلقى الذي لاقوا. ويَكْبُو كمن كَبا
وها هي (إسرائيلُ) فوق صُدورنا
وعمَّا قريبٍ سوف يبلغُكَ النَّبا
يُعيد بها (الغرْبُ المحاربُ) دَوْره
علينا.. وهذا سيْلُه بلغَ الزُّبى
قد اسْتلَّ منَّا للجهاد حماسَنا
فأوْحى بما سَمَّى (الجهادَ) (التعصُّبا)
وآزَرهُ (إعْلامُنا) في اجْترامِه
غباءً.. عن الحقِّ المبينِ تنكبا
وسلَّطَ فينا من يقودُ جُموعَنا
على سننٍ ممَّا رآهُ وأوْجَبا
نسيرُ. فلا نَدْري إلى أين ينتهي الْ
مسيرُ بنا.. بين الجهالةِ والغَبا
وها هي (دنيا المسلمين) تدور في الأعاصير
.. تحتاج الرَّواسيَ والرُّبى
قد انْتشرتْ في (المسلمين) عداوةُ
(المبادىء) تلقى كلَّ وجْهٍ مقطِّبا
كأنَّك تلقى فيه خصْماً مُحارباً
ينازعُ في حلقومك الرُّوحَ مُغْضبا
وتلْقى به الويلَ المدمِّرَ إنْ سَطا
وسادَ على (إخْوانه) متعصِّبا
كأنَّ بنا من (لعنة اللهِ) ما بَنا
فلا نلقى مما قد جنيناه مهربا
هي (الذكرياتُ) المبكياتُ. تُثيرها
(طليطلةٌ) و(اشبيليا) بعد (قُرْطبا)
أطوفُ بها طَوْراً. وطوراً تطوفُ بي
فيمُسي بها شجْوُ الهوى متسرِّبا
فيا ذكريات الفتح في الغرب جدِّدي
لنا عصْرَ تلك الذكرياتِ. المحبَّبا
وهزَّي بها منَّا نياطَ قلوبنا
وزِيدي، فبُثِّينا شَذاها المطيَّبا
أعيدي رُوى (المنصور) (والداخل) الذي
بنى.. ثم أعلى ما بناه وطنَّبا
(وموسى) وغازي صخرة الفتح (طارقٍ)
و(عٌقْبةَ) و(الخولانِي) خولان (مأربا)
لنذكرَ في الشرق (المثنَّى) و(حيدراً)
و(خالدَ) و(القعْقاعَ) ثمَّ (المهلَّبا)
و(سعْدَ بنْ وقَّاصٍ) (وعَمْراً) (وجعفراً)
و(عكرمةً) و(ابنْ الزبير) و(مُصْعَبا)
ذرُى (العْرب) في دنيا الفتوح تَناثروا
على الأرض. في مَسْرى النجوم تشعُّبا
يقودون (عْدناناً) وقحطانَ والصَّدا)
و(طيَّاً) و(هَمْداناً) و(قيْساً) و(أرْحبا)
و(كندةَ) في تيجانها. و(هوازناً)
و(خيل تميمٍ) الصاهلاتِ. و(تَغْلبا)
وألويةً فيها (البرابرُ) حمْيَرُ الأطالسِ.
والأُوراس.. أصْلاً ومَنْقِبا
جحافلُنا الكبرى. ورايات فتحنا
على جَنَبات الأرض.. تُفْدى وتجتبى
ملأْنا بها الدنيا ضياءً ورفعةً
وعلْماً وعدْلاً في الورَى وتغلُّبا

قرطبة: (فندق المسجد موسكيتوهوتيل)
صيف عام 1977م

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved