Sunday 12th January,2003 11063العدد الأحد 9 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

إنَّ «الوَفاءَ».. سَجِيَّةُ «الأحرار»..؟! إنَّ «الوَفاءَ».. سَجِيَّةُ «الأحرار»..؟!
حمّاد بن حامد السالمي*

.. رأيت مقالاً لطيفاً؛ كتبه صاحب زاوية «بوص ونوص» في جريدة «الاقتصادية»؛ الزميل الأستاذ؛ «محمد بن ناصر الأسمري»، وذلك في عدد يوم الخميس؛ الموافق لليوم السادس والعشرين من شهر ديسمبر من العام المنصرم. تكلم فيه على خصلة «الوفاء»؛ وربط بينها وبين ما أثر عن حيوان مستأنس هو «الكلب». فقد أراد الأستاذ «الأسمري» في مقاله هذا على ما يبدو؛ أن يقول للقارئ العربي في هذا الزمان؛ بأن «الوفاء» الذي هو من الخصال الحميدة، ومن الصفات الإنسانية المجيدة، ينبغي أن يكون في صلب المناداة بالديمقراطية في عالمنا العربي اليوم، لأن ديمقراطية خالية من الوفاء المتبادل بين القادة والشعوب؛ هي «دِيَم» بدون «مقراطية»..! و«الدِّيَم» لا تدوم بحال من الأحوال..!
.. وهناك قضية محورية أشار إليها الأستاذ «الأسمري» في مقاله هذا؛ تتعلق ب«التضاد والتصادم» في الخطاب العربي؛ الذي هو وليد ثقافة عربية عريقة؛ من شمائلها الوفاء بطبيعة الحال؛ لكنها ليست خلوة من مفارقات على كل حال. هذه القضية؛ تتلخص في مقدرة عربية عجيبة؛ تجعلنا نتعايش مع الشيء وضده في آن واحد..! فنحن على سبيل المثال؛ وبمناسبة الكلام على وفاء «الكلب»؛ نعترف ل«الثور» بالتحمل؛ ول«الحمار» بالصبر؛ ول«الكلب» بالوفاء؛ ونحفل بذلك في أدبياتنا؛ لكننا سرعان ما ننقلب على هذه المسلمات؛ فنجعل من التحمل بلاهة، ومن الصبر جبناً، ومن الوفاء حقارة، فنسقط كل هذا على خصومنا، فننعت هذا بالثور؛ وهذا بالحمار؛ وذاك بالكلب..! إلى غير ذلك.
.. هذه القضية؛ هي إشكالية أخلاقية، لمحها بعض العرب الأوائل قبلنا؛ فكتبوا فيها؛ ثم برعوا في أسلوب الإسقاط النفسي؛ حين صنفوا في صفات الحمير والبغال والثيران والكلاب والبعران وغيرها، وجعلوا للحيوان إشارة بالغة؛ ولغة ناطقة. ومن أشهر هؤلاء: «المقفع» في كتابه: «كليلة ودمنة»، و«الدميري» في كتابه: «حياة الحيوان»، والجاحظ في كتابه الكبير: «الحيوان».
وقد احتل «الكلب» مساحة واسعة من البحث عند «الدميري والجاحظ»؛ ربما لصلته الوثيقة بحياة العرب القديمة في الفيافي والقفار، وحتى بعد تحضرهم ثم تمدنهم؛ صار الكلب عوناً لهم في كثير من مناشطهم، فالدميري صنف الكلب إلى أهلي للحماية؛ و«سلوقي» للصيد؛ وهذا ينسب إلى «سلوقا» وهي مدينة باليمن. أما الجاحظ؛ فقد عقد في كتابه الشهير؛ فصلاً طويلاً ممتعاً في المناظرة بين صاحب «الكلب» وصاحب «الديك»..!
احتلت مجلداً كاملاً. وقد رأى بعضهم؛ أن الجاحظ كان يقصد التناظر بين «العرب والشعوبية»؛ لأن شعار العرب في وقته؛ كان «الكلب»، وشعار الشعوبية كان «الديك»..! وفي اتخاذ العرب الكلب شعاراً لهم آنذاك؛ إنما كان احتفاءً بوفائه معهم، والوفاء من شيم العرب المعروفة.
.. على أن مقال الأستاذ «الأسمري» آنف الذكر؛ أعادني إلى الوراء لأكثر من خمس عشرة سنة، إلى كتاب قديم؛ لكنه طريف ظريف؛ وخفيف لطيف، اسمه: «فضل الكلاب.. على كثير ممن لبس الثياب»..! هذا الكتاب؛ كتبه مترجم ومؤرخ وأديب مشهور هو: «محمد بن خلف المرزبان»؛ أو «المرزباني» في بعض المصادر، وينسب كذلك إلى قرية كان يسكنها من غربي بغداد اسمها «المُحَوَّل»، فيقال له: «المُحوَّلي». وهو صاحب كتابين شهيرين هما: كتاب: «الحماسة»، وكتاب: «الشعراء».
وقد صنف أكثر من خمسين كتاباً، من أشهرها كتاب: «الحاوي في علوم القرآن». ويبدو أن «المرزباني»؛ كان مغرماً بالتصانيف النادرة الظريفة، التي لا تخطر على بال أحد؛ فقد ذكر له «ياقوت» منها: «من توفي عنها زوجها فأظهرت الغموم وباحت بالمكتوم»..! و«الجلساء والندماء»، و«النساء والغزل»، و«من غدر وخان»، ثم «ذم الثقلاء».. وغيرها.
.. ومن الواضح هنا؛ أن «المرزباني» في زمانه؛ عانى من تنكر الخلان؛ وغدر الإخوان، فالتفت يمنة ويسرة، ونظر إلى الأمام وإلى الخلف، فلم يجد حوله ممن يعرف؛ من يتأسى بوفائه أو إخائه، فما كان منه إلا اللجوء إلى حياة الحيوان؛ فكان مثله مثل «عبدالله بن المقفع» في «كليلة ودمنة». فها هو يعمد من خلال ذلك؛ إلى سرديات قصصية لطيفة؛ وإسقاطات حكمية بليغة، يمررها من خلال «الكلب»؛ بما عرف عنه من وفاء يضرب به المثل. ثم يظفر من مرويات عصره ما يكفي؛ للتشفي ممن ينكصون عهودهم؛ وينكثون وعودهم، فراح يقرعهم في ثنايا مروياته؛ بمقارع التنكير تارة؛ والتذكير تارة؛ ليعرفوا أفضال كلابهم عليهم..! هكذا.. هكذا.. لكنه ما قال بأفضلية الكلاب عليهم. وهذا هو الفارق بين «فضل» و«أفضل».
.. إن السطور الأولى من مقدمة «المرزباني»؛ تفصح عن معاناته الحقيقية مع خلانه وإخوانه؛ وكتابه العجيب هذا؛ هو من وحي هذه المعاناة الأخلاقية. يقول: «ذكرت أعزك الله؛ زماننا هذا، وفساد مودة أهله، وخسة أخلاقهم، ولؤم طباعهم، وأن أبعد الناس سفراً؛ من كان سفره في طلب أخ صالح، ومن حاول صاحباً يأمن زلته، ويدوم اغتباطه به؛ كان كصاحب الطريق الحيران، الذي لا يزداد لنفسه اتعاباً إلا ازداد من غايته بعداً، فالأمر كما وصفت، وقد يروى عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: «كان الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه..». انتهى.
.. وفي زمن «المرزباني»؛ مثلما هو الحال في كل الأزمنة؛ تظل الشكوى ملازمة للناس؛ فمن ذلك شكواهم من تغير أحوالهم؛ وفساد أخلاقهم؛ ومن هذا وذاك؛ قلة وفائهم. فهذا هو شاعرهم يقول:


ذهب الذين إذا مرضتُ تَجَهَّلوا
وإذا جهلت عليهمُ لم يجهلوا
وإذا أصبت غنيمة فرحوا بها
وإذا بخلت عليهمُ لم يبخلوا

.. ومن ها هنا.. نتبين المعضل الذي عالجه المصنف، وهو غدر الإخوان، وعدم الركون إلى وفائهم، فقد أراد أن يذكرهم بوفاء الحيوان الذي هو قريب منهم؛ حتى أصبح الكلب ذا فضل على كثير منهم في نظره، وهم الذين يتمثلون بوفائه صباح مساء.
.. إن إشكالية قلة الوفاء أوندرته بين الناس؛ قائمة منذ الزمن القديم حتى يومنا هذا؛ وكلام الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه؛ ربما يصدق في زماننا هذا أكثر. فماذا أبقى الأولون للآخرين من بعدهم..؟
.. لقد ورد ذكر الكلب في القرآن الكريم مرة واحدة في سورة الأعراف؛ وفي سورة الكهف أربع مرات، وفي قصة أهل الكهف في قوله تعالى:{وّكّلًبٍهٍم بّاسٌطِ ذٌرّاعّيًهٌ بٌالًوّصٌيدٌ..}؛ فيها دلالة على أن الكلب؛ هذا الحيوان الأليف؛ كان ملازماً وقائماً على حراسة أصحابه. فهذه من أعظم دلالات الوفاء لهذا الحيوان.
.. ومما يستلطف في هذا الأمر؛ ما نسب إلى «الحسن البصري ت110هـ»، وكان إمام أهل البصرة، وحَبْر الأمة في زمنه، وأحد العلماء الفقهاء الفصحاء. فقد ذكر لهذا الحيوان؛ عشر خصال محمودة؛ جاءت على هامش وفاء الكلب؛ وبره بأصحابه من بني البشر.
.. وعوداً إلى «المرزباني» في مصنفه اللطيف؛ فهو عمد إلى وفاء الكلاب مع الناس؛ فجعل من ذلك؛ محوراً رئيساً للقصّ في النَّصّ؛ فراح يورد من الروايات الغريبة والعجيبة المسندة، ما يدعم به هدفه وغرضه؛ من تذكير قارئه؛ بخصلة الوفاء التي مجدها العرب في كلابهم؛ لأنها كانت من جليل صفاتهم، فإذا بعضهم على خلاف ذلك. قال: يروى أنه كان لميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ كلب يقال له «مسمار»، وكانت إذا حجت خرجت به معها، فليس يطمع أحد بالقرب من رحلها مع مسمار، فإذا ر جعت؛ جعلته في بني جديلة، وأنفقت عليه. فلما مات؛ قيل لها: مات «مسمار»، فبكت وقالت: فجعت بمسمار..!
.. ومن عجائب مروياته في هذا الباب، قال: ذكر بعض الرواة قال: كان للربيع بن بدر كلب قد رباه، فلما مات الربيع ودفن؛ جعل الكلب يتضرب على قبره حتى مات..! وعن شريك قال: كان للأعمش كلب يتبعه في الطريق إذا مشى حتى يرجع، فقيل له في ذلك فقال: رأيت صبياناً يضربونه؛ ففرقت بينهم وبينه، فعرف ذلك لي فشكره، فإذا رآني؛ يبصبص لي ويتبعني..! ومما روى؛ أن أحدهم ماتت امرأته، وخلفت صبياً، وكان له كلب قد رباه، فترك يوماً ولده في الدار مع الكلب، وخرج لبعض الحوائج وعاد بعد ساعة، فرأى الكلب في الدهليز وهو ملوث بالدم وجهه وبوزه كله، فظن الرجل أنه قد قتل ابنه وأكله، فعمد إلى الكلب فقتله قبل أن يدخل الدار، ثم دخل الدار، فوجد الصبي نائماً في مهده، وإلى جانبه بقية أفعى قد قتله الكلب وأكل بعضه، فندم الرجل على قتله أشد ندامة، ودفن الكلب. فلا غرابة إذن أن تضرب العرب الأمثال بوفاء كلابها فتقول: «أوفى من كلب، وأشكر من كلب، وآلف من كلب»..!
.. إذن.. قضية «الوفاء أو لا وفاء»، هي قضية متجددة، فكيف نجعل منها عنصراً رامزاً في أدبياتنا، فلا يوازيها سوى الكرم والشجاعة، بل هي من المروءات العربية، فالوفاء في الثقافة العربية؛ هو عنوان للأمانة والصدق والإخلاص. والوفاء في السيرة العربية؛ هو ضد الخيانة والغدر. وهذه الخصلة؛ قدرها العرب ومجدوها، ولهذا شبه شاعرهم رأس قومه ب«الكلب»؛ حين أراد تمجيد طبع «الوفاء» فيه، فقال يمدح الخليفة العباسي «المتوكل»:


أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدَّلوِ.. لا عدمناك دلواً
من كبار الدِّلا.. كثير الذَّنُوب

.. وصاحب هذا التشبيه الفريد؛ هو الشاعر علي بن الجهم؛ الذي جاء من البدو؛ فاستوحى أدواته الشعرية؛ من محيطه الذي عاش فيه، لكنه عاش في الحضر بعد ذلك؛ فظل على سليقته في تقديس خُلة الوفاء بين الإخوان والخلان فقال:


وجرَّبنا.. وجرَّب أوَّلونا
فلا شيءٌُ أعَزَّ من الوفاء

.. وقبل هذا الشاعر المخضرم؛ تنبه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه؛ إلى ندرة الوفاء بين البشر؛ فقال شعراً:


ذهب الوفاء.. ذهاب أمس الذاهب
فالناس بين مخاتل وموارب
يغشون بينهمُ المودة والصفا
وقلوبهم محشوة بعقارب

.. ومن حرص العرب على التخلق بخليقة حميدة مثل الوفاء؛ فإنهم ظلوا يلحون في أشعارهم وقصصهم وأمثالهم على هذا الأمر؛ حتى إذا رأوا الغدر في إخوانهم؛ والخيانة في خلانهم؛ دقوا أجراس الخطر فقالوا: «لا تشرب من البئر وترمي فيها حجراً»؛ ثم قال شاعرهم:


عَزَّ الوفاء.. فلا وفاءَ وإنه
لأعَزَّ وجداناً من الكبريت..!

.. ثم زادوا في تغريب ما فقدوا؛ فترحموا على الوفاء؛ وربطوا بينه وبين عالم الأشباح والمستحيلات، فقالوا:


ثلاثة يا صاح لم توجد ولم تكن
الغول والعنقاء والخل الوفي..!

.. ولأن «الوفاء»؛ هو من شيم العرب كما أسلفنا؛ فإنهم ما انفكوا يتشبثون بأهدابه، ويتمثلون بأمثاله؛ ويتغنون بأشعاره، ويرغبون فيه وفي أفضاله. ومن أجمل ما قرأت في هذا؛ ما ورد عند الأستاذ «عبدالعزيز بن محمد الأحيدب»؛ في الجزء الثاني من كتابه: «حكم وأدب من مآثر العرب». قال: «الوفاء؛ هو مراعاة العهد؛ وتجنب خلف الوعد، وحفظ الود، وهو أحسن شمائل الإنسان، وأوضح دلائل الفضل والإحسان، وأقوى وسائل أسباب المجد، وأحق الأفعال بالشكر والحمد، تمس الحاجة إليه، وتجب المحافظة عليه، فمن تحلى بالوفاء؛ وتخلى عن الجفاء؛ ورعى عهد إخوانه؛ وحفظ حقوق أودانه؛ وجبت محبته، وحسنت سيرته، وكملت مروءته، وصفت مودته».وقال بعض أهل الوفاء شعراً:


ثبَتَت على حفظ العهود قلُوبُنا
إن الوفاء.. سجية الأحرار

.. وفي نهاية المطاف؛ فقد جعل الله في هذا الخلق العظيم؛ حكماً تُجتلى، ومن مخلوقات خلق الله؛ الدال على قدرة الله ووحدانيته؛ «الكلب»، ومن هذه الحكم «الوفاء»، وعلى الإنسان الذي هو أعز مخلوقات الله وأرفعها؛ أن يتبصر في هذا الخلق العظيم؛ و«الوفاء»؛ هو من أسَنّ الفضائل، وأجل الشمائل، وهو من أرفع المكارم، ومن أغلى المغانم.
فاكس:/7361552/02

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved