Thursday 30th January,2003 11081العدد الخميس 27 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

المعنى في بطن الأنثى: «لهفة جديدة» لهدى الدغفق المعنى في بطن الأنثى: «لهفة جديدة» لهدى الدغفق
د. سعد البازعي (*)

حين وصلتني مجموعة هدى الدغفق الشعرية «لهفة جديدة» «بيروت: دار الكنوز الأدبية، 2002»، كان لابد من البحث لها عن مكان في صف طويل من المجاميع الشعرية والقصصية والكتب التي تصل من الاصدقاء واضطر الى وضعها في قائمة الانتظار التي قد تمر الاعوام دون ان اطلع عليها. وهو وضع مؤلم ليس لمن يرسل تلك الاعمال لي ولغيري ممن يتوسم فيهم الاهتمام بالابداع الجديد، وانما لي شخصيا بوصفي واحدا يهتم فعليا بذلك النتاج، ولايجد الوقت الكافي لمطالعته، فقد ظلت مجموعة احمد الملا «ظل يتقصف» في مكتبتي عدة سنوات قبل ان التفت الى كنوزها الشعرية لامتع نفسي اولا بما فيها، محاولا بعد ذلك اشراك القارىء بما يتراءى لي في تلك المجموعة.
لكن المؤكد في حالة بعض ما يصلني انني القي عليه نظرة سريعة تعد استكشافا اوليا لما تعد به، وهو ما حدث مع مجموعة الملا، فقد قرأتها واختزنت بعض ما فيها من جمال مرجئا الوقوف على ذلك الجمال حتى وقت لاحق. وهو ايضا ما حدث مع مجموعة هدى الدغفق. اما السبب في ايثار بعض ما يصلني على غيره فهو معرفتي بأعمال سابقة للكاتب وتوقعي بطبيعة الحال ان يأتي عمله الجديد موازيا لسابقه او افضل «بالطبع هناك حالات تسفر عن بعض خيبة الامل». وفي حالة الدغفق كنت قد قرأت بعض قصائدها في مجلة «النص الجديد»، واقصد هنا القراءة النقدية المتمعنة التي تكشف عن قدرات الكاتب، فوجدت لديها ما يستحق الوقوف والاشادة به لدى كل محب للشعر الحقيقي.
ذلك الشعر الحقيقي هو ما تحمله لهفة الدغفق الجديدة. وحين اقول الشعر الحقيقي فانما اعود الى قناعتي التي طالما رددتها حول قصيدة النثر بوصفها الشكل الاكثر قدرة على امتلاك الشعر من القول الأدبي المعاصر، ليس لأن الايقاع التقليدي او شكل القصيدة العمودي فقدا القدرة على الابداع، ولكن توصلا الى ان ذلك الايقاع وما يلتصق به من اشكال اصبحت منهكة جماليا، بتعبير الناقدة الفلسطينية سلمى الجيوسي، واكثر استعصاء من ثم على الابداع والتجديد. اي انني لا انفي الشعرية عن شكل من الاشكال ولكني اتوقعه في الاشكال الاقل تقيدا بتقاليد البلاغة ونمطية النظم. وهذا يعني ايضا انه حتى قصيدة النثر ليست موعودة بالضرورة بالجدة والابهار لمجرد كونها كذلك، ففي كل الاحوال ثمة موهبة منتظرة لولاها لما استطاع شكل او فن ان يرتقي درجات الاهمية.
فما الذي يميز مجموعة الدغفق اذاً في ظل هذه المعطيات؟ هو بالتأكيد اجتماع امكانيات الشكل والموهبة، وهو ما توضحه النصوص نفسها كما سنرى. وسأبدأ بقصيدة عنوانها «معنى» تبرز جمال الشعر من ناحية، ويتضح منها ايضا ان النصوص، على قصرها، تتفاوت في مستواها ليس من نص آخر فحسب، وانما ضمن النص الواحد ولنقرأ المقطع الأول من «المعنى»:
في بطن الشارع..
الآن..
في كل مكان..
مذبوح..
هذا المعنى
حيا في بطن الشاعر
كان
في هذا المقطع كمين اعد للقارىء يتمثل في احتمال قراءته «الشارع» في السطر الاول على انها «الشاعر»، ليعود الى الكلمة الاولى بعد ان يجد «الشاعر» في نهاية المقطع. وما يحدث حيلة فنية يمكن بها قسر بعض القراء على مراجعة توقعاتهم واعادة النظر في اسلوب تلقيهم المثقل بالنمطية. والنمطية هي ايضا ما يقتل المعنى الذي تؤكده المقولة الشائعة - النمطية - بدورها، وان لم تقصد الشاعرة بالضرورة الى هذه النمطية الاخرى - التي تقول: المعنى في بطن الشاعر. فالمشكلة هي في كيفية استهلاك المعنى الذي كان في بطن شاعرة، الاستهلاك الذي يقتل المعنى، تماما كما يحصل للروح الانسانية في الفلسفة الافلاطونية، حين تأتي طازجة فرحة الى هذا العالم، ثم ما تلبث ان تسقط في الالفة والعادية.
ويمكننا ان نلاحظ هنا ان الحيلة الفنية المشار اليها يصعب تطبيقها في الشكل التناظري او العمودي، لان المفردة تفقد الكثير من تفردها، او كونها «مفردة»، ضمن البيت الشعري التقليدي بتراتيبته المعروفة، وليس سوى الشكل التفعيلي او النثري لجعل المفردة مفردة حقا تمارس حريتها على الورقة وفي فضاء السطر الكامل فتتصل او تنفصل عن غيرها حسب الشروط الفنية المطلوبة. وفي هذا ما يفسر ظهور قصيدة النثر على شكل مفردات مجدولة، تنفرد الواحدة او المجموعة القليلة منها بسطر كامل، وهو ما لا يدركه الكثيرون فيتندرون به.
يتضح هذا في قصيدة «المعنى»، كما في غيرها من قصائد المجموعة. ولو عدنا الى ما فعلته الشاعرة حين قلبت دلالة «المعنى في بطن الشاعر» لوجدنا أننا إزاء صورة مترعة بطزاجة الشعر، وهذا هو ما يأسر قارئاً مثلي حين يتصفح مجموعة من هذا النوع. لكن الصورة نفسها لا تخلو من لاحقة تقلل من جمالها، واقصد المقطع الثاني من القصيدة نفسها: «الكرة النارية/حطبها انت/قصيدتك/ لا تحرق غناء سواك.. ايها الشاعر».. هنا مباشرة كان أجدر بالشاعرة الاستغناء عنها، فقد عبر عنها المقطع الاول تعبيرا كافيا، وبايجاز موح جميل، فكأن الشاعرة ارادت الا تجعل لسوء الفهم سبيلا فأتبعت الايحاء الاول بتقابلاته الجميلة بمقطع يعلن ما كان موحى به وهو هشاشة موقع الشاعر.
هذا النزول من الدهشة الى العادية ليس لحسن الحظ هو السمة الغالبة على المجموعة «وان تضمن مفارقة في قصيدة تتحدث عن ذلك النزول نفسه». هذا مع ان قصيدة «المعنى»، وعلى الرغم مما اعتراها، من النصوص اللافتة في المجموعة، وتشبهها في الموضوع قصيدة بعنوان «هديتك» تتضمن قلقا آخر على سرعة اضمحلال المدهش والجميل في حياتنا اليومية والحاجة من ثم الى القصيدة بوصفها القادرة على الاحتفاظ بذلك المهدد بالاضمحلال. ففي كل ليلة، تقول الشاعرة، تقوم قبل نومها بفتح «سقف السماء» لتهدي «بدر الليلة» الى قصيدتها «قبل أن تأكله العتمة»، او قبل ان يأتي النهار: «سيعجنه الغد/لن يبقى من رغيفه سوى فتات النجوم».
غير ان هم الدهشة ليست الهم الوحيد في مجموعة «لهفة جديدة». هم آخر يتماثل في «شجيرة»:
سكونها يزعزعني
كلما أنصت اليه
الصخور المتكاتفة
تلملم بركانها
منذ سنون
سكونها ليس الا ارادة
الصخور المتكاتفة
في احشائها شجيرة
لا تبدو الآن
هذا الاحتفاء بالقادم وما يمور به من حركة عنيفة او نماء، سواء كان بركانا تهيئه الصخور الصامتة الصامدة، او شجيرة تكمن كالمعنى في بطن الشاعرة، ليس سوى احتفاء بالمتغيرات الممكنة والمرجوة لحركة ونماء على المستوى الانساني، لامرأة تنتفض على ما يحيط بها، او اسير يثور على اسريه، او موات يستعيد روحه وخصوبته. وكان بامكان التعبير ان يسير باتجاه تعبير اصبح مباشرا مثل «ولا بد لليل ان ينجلي» او «للحرية الحمراء باب»، ولكن الشعرية مختلفة تماما، والدلالة تأتي عبر صورة موازية ومستقاة من ظواهر الطبيعة بدلا من الصدور المباشر عن المعنى او التعبير المباشر عنه.
ما تعانيه المرأة تحديدا وما تصبو اليه موضوعة اساسية في مجموعة الدغفق. نجدها في عدد من النصوص، منها نصان بعنوان «بذورها» و«الزوجة»، كما ان منها نصوصاً تتصل بالمرأة المبدعة على نحو حميم سواء من خلال التعليم او من خلال الكتابة، وكلاهما لصيقان بالشاعرة. ومن النصوص الاخيرة «سبورتي البعيدة» و«أي امرأة أنت» «وهذه الاخيرة اهدتها الشاعرة الى مكتبتها». في السبورة تتراءى الطالبة الهاربة من روتين المواد الدراسية ومحدوديتها الى فضاءات اوسع، وفي «أي امرأة أنت» ترى الشاعرة في مكتبتها أنموذجاً للأنثى الرائعة في مكابداتها وما تحتمله من مشاق.
يا لك من انثى نادرة
اية اضلاع لرفوفك الرقيقة
واية عزة في ساقيك
تحتملين كتبي
المشحونة عراكا
احلاما لا تأتي
وقصائدا متألمة
هذه العلاقة الحميمة تجعل المكتبة امتدادا للشاعرة نفسها، من ناحية، وأماً منفصلة عنها، من ناحية اخرى، تحتضن الكتب والافكار والمشاعر في عراكها وألمها بتضحية لا تقدمها عادة سوى الأمهات.
في «لهفة جديدة» شعر حقيقي لا تقدمه سوى الشاعرات ولقراء محتملين لا يغريهم سوى لهفة الفن الجميل.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved