Thursday 30th January,2003 11081العدد الخميس 27 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ثلاثة أصوات في إيقاع مأزوم ثلاثة أصوات في إيقاع مأزوم
قراءة في الأمسية القصصية (2 - 2)
حسين المناصرة

ثمة رؤية شاملة تحذر من موت التاريخ والصحراء في القصتين اللتين قرأهما القاص حسن النعمي. فقد قدم في قصة «رهوان وبائع الجرائد» فشل خريج قسم التاريخ في الحصول على وظيفة، بل انه فشل في الحصول على مساعد لبائع الجرائد.. والمسألة في ظني ليست مبالغة في تصوير حالة «رهوان» تحديدا وانكساره مع والديه من خلال غياب العمل والانتاج وبالتالي البطالة.. المسألة أكبر من ذلك، انها مسألة كساد شهادة التاريخ، بمعنى موت التاريخ في زمن نحن بحاجة فيه الى تعميق هذه الشهادة في الواقع الذي غدا مأزوما في سياق الانفتاح والعولمة.. لذلك تعد هذه القصة رثاء بطريقة تراجيدية للتاريخ وشهادته الجامعية، رثاء للجذور التي نحن بحاجة الى الكشف عنها وتعميقها، لأنها شكلنا الحضاري، او خصوصيتنا في هذا الزمن الذي امسى يحارب الخصخصة تحت شعارات جنائزية كثيرة.
ان رثاء التاريخ لا يعني اغفال معاناة رهوان بوصفها معاناة ذاتية حقيقية ايضا، بوصفها معاناة جيل من الشباب راح يدرس الدراسات النظرية والانسانية، وابتعد عن الدراسات التقنية والعلمية، فغدا الواقع نفسه يعاني من تضخم قطاع الخريجين الجامعيين في التخصصات الادبية مثلا، بحيث لم يعد المجال الوظيفي قادرا على استيعابهم، ومن هذه الناحية لابد من اعادة برمجة العملية التعليمية برمتها في ضوء فهمنا لهذه القصة التي تعلي من شأن السوداوية في حصول خريج الكليات النظرية على وظيفة، وفي المقابل تعلي من اهمية دور الوظيفة الانتاجية اليدوية.
لقد بالغ القاص كثيرا في اغلاق ابواب الرزق المتاحة امام رهوان، وكأننا في عام 1945م، حيث من المتوقع ان نجد صورة حقيقية لرهوان وغيره بعدما يزيد على ربع قرن على الاكثر.. ففي ذلك الزمن ربما تغدو وظيفة بائع الجرائد شحيحة على نحو ما فعله رهوان وهو يبحث عن بائع الجرائد ليوظفه مساعدا له:
«حدقت في كل زوايا الشارع لم أر أثراً لبائع الجرائد. واصلت بحثي عنه في الشوارع المجاورة سألت المارة إن كانوا قد رأوه لا أحد يهمه إن كان هناك بائع جرائد في الشارع أم لا.. وسعت دائرة البحث وكان كل شارع يفضي الى شارع آخر. وكل شارع يفضي إلى فراغ آخر.. رأيت الشوارع شكلاً واحداً».
ان كانت قصة «رهوان وبائع الجرائد» تدمج بين الحوارية المتكلفة احيانا وبين الشعرية المأزومة، فان قصة «حدث كثيب قال» قصة شاعرية عميقة الرؤى، فهي تعد من ابرز ما كتبه القاص حسن النعمي في مجال القصة القصيرة، وهذا ما يفسر احتفاءه بها حيث قرأها في امسية سابقة اقامتها جمعية الثقافة والفنون في منتدى القصة، وقد وضع عنوانها عنوانا لمجموعته القصصية.. ولم ابالغ عندما اشرت الى ان هذه القصة تستحق ان توضع ضمن المنهاج المدرسي او التربوي، لما تمتلكه هذه القصة من حميمية عن العلاقة بين الانسان والصحراء، حيث «كثيب» ابن الصحراء يتوهج من خلال العلاقة مع المكان الذي اشتق اسمه منه، هذا المكان الذي غدا في عرف الآخر / الغازي مكانا للموت، لذلك يصبح موت الجمل، وايضا موت كثيب نفسه تضحية من اجل الحيلولة دون موت الصحراء.. ولم ابالغ أيضا عندما اشرت الى ان القصة رثاء للصحراء النظيفة او الطبيعة الجميلة بطريقة او بأخرى.
ان الصحراء في القصة هي موطن الانسانية والصفاء لذلك يبدو موت الجمل وكثيب وطرد الناس من الصحراء حالة غرائبية يمارسها الغرباء.. وهنا تشكيل تساؤلات كثيب المأزومة قبل موته: «لماذا انا؟ لماذا جملي؟ لماذا الصحراء؟» وهذا بالتالي موطن شعوره بجريمة الآخر الغريب: «ايتها الصحراء، هذا غريمنا اقعد جملي، انتهك نقاءك، صادر رحابك.. » لذلك كان لابد من المواجهة مع الجندي الغريب، ولابد من قتله لأنه المعتدي، ومن هنا ايضا نجد منطق الحوارية عند كثيب وهو يخاطب جثة الجندي قائلا: «سجل شهادتك قل لهم لماذا نحن؟ لماذا قتلوا الصحراء فينا؟».. من خلال هذا الخطاب تصبح الصحراء رمزا للوطن العربي كله، وكثيب هو الانسان العربي ابن الصحراء حيث وجد، والجمل هو رمز الشموخ العربي في هذه الصحراء، وانه لابد من المواجهة في نهاية المطاف حتى يحمي العربي هذا المكان الانساني الحميمي في مواجهة الغزاة مهما كانت اهدافهم.. ومن هنا ايضا تنتهي القصة بهذه العبارة الحميمية على لسان كثيب الذي اقسم الا يبارح صحراءه، فأخذ يصوت على الناس قائلا: «قوموا الى صحرائكم يرحمكم الله».
ان هذه الرؤية الانسانية هي رؤية المثقف العربي الذي يبحث عن انسانية الثقافة العربية، فلا يجدها في غير الصحراء الماضي الرمز الحي الذي يعيش في اعماق الانسان الى حد ان يغدو اسمه «كثيبا»، وفي هذا السياق تبدو جمالية القصة في كونها تكشف تجليات الصحراء بين النقاء او البياض متمثلا في الصحراء العربية وبين السواد والعري متمثلا في الغزاة الساعين الى اعدام صحرائنا:
«ضاقت الصحراء بما رحبت.. تألم كثيب ان يجد نفسه ملزما بالتجوال في محيط ضيق الابعاد. هو الذي يجوب الصحراء بلا حدود، يجد نفسه واهله وناسه مهددين بالفناء، ربما برصاصات طائشة كالتي اقعدت جمله. لكنه الآن في حالة قعود من نوع غريب: امنه، اشياؤه، مفردات الصحراء بكاملها اصبحت مستلبة، خرج من خيمته حدق في سماء الليل، ادرك بشاعة الاشياء».
لقد استطاع القاص عبد الحفيظ الشمري في قصتيه ان يشدنا الى الرؤية السردية العميقة الدلالات، والمتعددة الاصوات، اذ لديه قدرة كبيرة على ان يجعل من الحبة قبة بأسلوب المبالغة الجمالية، وهذا تحديدا ما فعله في قصة «صرير أقفال السجن الثانوي» حيث استطاع ان يصور تراجيديا السجن الثانوي من خلال التغلغل داخل اعماق الفتاة/ الفتيات اللواتي يشعرن اكثر من غيرهن بمأساوية قلعة المدرسة الحصينة، رغم ما فيها من حرص تربوي ظاهري، حيث يتحول هذا الحرص التريوي الى سجن، كما تتصوره الفتاة على نحو:
«كم تفزعني طريقتهم في بناء الجدران، وفتحات النوافذ التي احكم غلقها، وعلوها الشاهق الاصم. لو اعدت النظر في تكوينها العقابي لاخافتني ابوابها الصدئة، بضخامتها، وشراسة ابوابها الفولاذية الصارمة».
ويغدو الموت - في اسلوب من اساليب السخرية السوداء - كأنه الفرج او الحل: ان يموت الحارس رمز الشر، او ان تموت الفتاة رمز الخير المسجون.. لكن الموت الذي غيب الحارس العجوز لم يحل المشكلة، اذ جاء بحارس شاب اشد صرامة، تبدو صورته على انه: «نزق لا يأبه بنا، كأن شيخنا اوصاه فعلا بأن يحكم وثاق الباب بسلسلة هائلة يلتقط اطرافها قفل اشد صرامة، لكنه لامع».
كأن هذا التغلغل المأساوي الذي يعبر به القاص الشمري عن مأساوية الرؤية داخل الآخر (المرأة) هو ما يجعل هذه القصة غير متكلفة - على وجه التحديد - في التعبير عن الرؤية النقيضة، بمعنى ان المرأة لم تعد مجرد «الثور الذي يحمل العالم على قرنيه» انها تغدو انسانة تحس بدرجة عالية من الازمة والاستلاب:
«كانت الاقفال هي التي تواجهنا بصرامة، وأقفال اخرى تطوق اي فرصة للبوح خارج ما درج عليه منذ امد.. تثير فزعي هذه الاقفال، ويسحقني صرير مفاتيحها لتظل في الذهن حتى آخر اليوم جلبة اصطكاكها المؤذي».
أما قصة «الراعي الجسور»، فهي تسير ضمن الرؤية الماثلة في جل قصص الشمري، بمعنى ان قصصه توغل كثيرا في رمزية الجنون والموت بوصفها رمزية تكشف عن غموض النفس الانسانية في مواجهة الحياة التي غدت اكثر تعقيدا مما يتصور الانسان، وعلى هذا الاساس غدا الراعي الجسور حالة غريبة عندما تحول من رمز ايجابي كامن في لفظة «الجسور» الى حالة مرضية غريبة، تفضي به في نهاية المطاف - بعد ان غدا يحارب الآخرين كلهم متمثلين ب«تلعة الحمض» - الى الموت الغريب، خاصة ان الحكيم عجز عن تجسيد مرضه:
«ما به يا حكيم بلادنا؟ أتراه يحب؟ لا.. قلب الدهيني من حجر، هل لديه نية للثأر؟.. لا يبدو، هل افترسته الفاقة.. لا خلق راعيا فقيرا مثلكم.. ابه مس هل خاتله الجن ولاذوا به.. لا.. لا، ما به اذن يا شيخنا؟ لا علم لي.. العلم عند علام الغيوب».
يملأ الحقد قلب الراعي الدهيني تجاه «التلعة»، وهو حقد لم يؤت ثماره رغم ما عرف عن جسارة الراعي الذي اكثر من الوعيد والتهديد في القصة، ثم كانت النهاية سخرية سوداء، حيث تدلى جسد الراعي الدهيني من حبل عالق بعارضة الحظيرة المليئة بالاغنام، فصار جثة تلوب الفضاء بشكل هش، ولكن المفاجأة التي يواجهنا بها القاص في نهاية قصته هي ان هناك امكانية كبيرة لان يكون الراعي الدهيني ضحية اغتيال ما، بمعنى انه اعدم لا انتحر، حيث تصير القصة عالما مفتوحا في نهايتها الماثلة في الفقرة التالية:
«لأول مرة يموت في «تلعة الحمض» شبه المقفرة راع على نحو كهذا.. قال حكيم الحمض وهو يحرك سواكه ويستدرك على الحضور: من يقلب الكتب والسير والحكايا سيجد ان سلالة الدهيني هنا وهناك بهم من مات غيلة على نحو ما ترون هنا».
بكل تأكيد كشفت قصص القاصين الثلاثة عن تعددية في الاصوات الاسلوبية ممثلة في الشعرية عند علوان، والرؤيوية عند النعمي، والايحائية عند الشمري.. وفي الوقت نفسه كشفت القصص الست عن ايقاع مأزوم في حياة ابطالها الذين لا يمثلون انفسهم بقدر كونهم رموزا للعالم البشري الذي ينتمون اليه في اماكن غدت غرائبية بفعل التحولات او التشوهات التي تحيل الانسان العربي الى نموذج من نماذج السخرية السوداء في شؤونه الخاصة وفي محيطه الاجتماعي ايضا!!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved