Tuesday 25th february,2003 11107العدد الثلاثاء 24 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

السفر بين الحاضر والماضي (2) السفر بين الحاضر والماضي (2)
عبدالله بن عبدالعزيز بن إدريس

قديما قالت العرب (السفر قطعة من العذاب).
والحق أن الأمر كذلك.. حتى مع التقدم العلمي المذهل الذي قصّر المسافات، وقرّب الأبعاد بين جوانب الأرض حتى كأنها طويت للبشر.. بفضل ما منح الله تعالى بعض عباده (من العلم) الذي أوجد هذه المخترعات التي أصبحت تقل الإنسان إلى أهدافه وأغراضه الحياتية في ساعات قليلة.. كان يتكبد قطعها سيراً على سفن الصحراء (الإبل) في أسابيع أو شهور.. مع ما يلقاه من مخاطر ومخاوف، تحف سفره، وترهق نفسه. وتبطئ بوصوله إلى مبتغاه.ولا مقارنة، طبعاً، بين الجمل، والطائرة أو السيارة، ووسائل المواصلات الحديثة والاتصالات في القديم والحديث.ومع ذلك كله.. فلا يزال السفر وسيبقى كذلك.. محفوفاً بكثير من المخاطر والمخاوف التي يعرفها الجميع كحوادث السيارات وسقوط الطائرات، وغير ذلك.وتبقى فوائد الأسفار قائمة أبداً إلى يوم الفناء.ولذلك
فإن صاحب الأبيات الشعرية المشهورة قد صاد كثيراً من طيور الأسفار الجميلة، في أبياته.. وأن فات عليه أشياء لم يذكرها.


تغرّب عن الأوطان في طلب العُلا
وسافر ففي الأسفار (خمس فوائد)
تفرُّج هم،ٍّ واكتساب معيشةٍ
وعلمٌ، وآدابٌ، وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذلٌّ ومحنةٌ
وقطع الفيافي، وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خيرٌ له من مقامه
بدار هوانٍ، بين واشٍ وحاسد

***
لعلَّ مما فات صاحب هذه الأبيات أن يشير إليها الأمور الآتية:
1- السفر في طاعة لله.. كسفر الحج والعمرة وزيارة المسجد النبوي والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب العلم.
2- السفر للسلام على الاقارب والأصدقاء مما يعد من باب صلة الرحم.
3- الاطلاع على آثار الأقدمين للعبرة والعظة، والمقارنة بين ما كانت عليه أحوال الناس في العهود الماضية، من الخوف والجوع والجهل، والمرض. وهي واقع أبدله الله لنا في هذا الزمان بالأمن، والشبع، والعلم، والصحة.
في الزمن الماضي لم يكن السفر للنزهة - إلا نادراً - وإنما كانت ظروف الحياة هي الباعث عليه.
وكان الرجل هنا في نجد يسافر إلى (الشام) وإلى (مصر) وإلى (العراق) وإلى (الخليج العربي)، وإلى (الهند) بحثاً عن الرزق، وكانت المعاناة شديدة وكاربة، وبخاصةٍ إذا انحبس المطر عن البلاد.. وصَوَّحت الآبار وخَيَّم شبح الجوع والقحط المضني.
وقد يمكث الرجل المغترب سنوات عديدة دون أن يرى أهله أو يروه.. بل قد لا يعرف أهله أحيٌّ هو أم قد مات.. حيث لا وجود لبرقيات، ولا هواتف، ولا بُرُدٌ تصل إلى القرى لتحمل رسالة إلى أهله تبرِّد قليلاً من حُرَق قلوبهم وعواطفهم ولهاً وشوقاً إليه.. اللهمَّ إلا أن تأتي رسالة شفوية منه على لسان عائد من سفرة مماثلة.
ولقد كان هذا الغياب الطويل سبباً لمرض والدة المسافر أو زوجته - مثلاً - كذلك الرجل الذي أزمع العودة فأرسل رسالة شفوية مع زميل له في البلد البعيد.. طلب منه أن يبشِّر أهله بأنه سيعود قريباً. فانسكبت دموع الفرح من أجفانٍ قَرَّحها البكاءُ طويلا على الغائب الحبيب.
لما وصل هذا المغترب إلى أهله وتحلقوا حوله للسلام عليه، والاطمئنان على سلامته وصحته.. وقد حضر الجميع.. رجالاً ونساءً وأطفالاً.. إلا أنه افتقد إحدى الحبائب التي أحضر لها هدية لتفرح بها علاوة على فرحها به.. وفرحه بها..!
سأل: (وين فلانة.؟) يعني زوجته فَجْمَج الجميع واختنقوا بعبراتهم.. وجاءه الخبر صارماً للاضلاع: (الله يُحسن عزاك فيها، ويرحمها، ويخلفها عليك بخيرٍ منها.. ماتت قبل شهر..)
ووجم المسكين وجوماً مميتاً.. لم يلبث إلا قليلاً حتى لحق بها..
فتضاعف الحزن على أهله بفقد زوجته أولاً ثم بفقده هو.. مما لم يتح لهم يوماً أبلج.. في حين كان المنتظر أن تغمر السعادة جميع أهله وأقاربه ومحبيه.. ولكن أقدار الله نافذة وهذا هو ديدن الحياة.وكم في الأسفار من قصص وصور دامعة.. وأخرى باسمة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved