Monday 3rd march,2003 11114العدد الأثنين 30 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

السياحة.. صناعة ثقافية أولاً «5» السياحة.. صناعة ثقافية أولاً «5»
عبدالله الماجد

تواصلت المقالات السابقة تحت هذا العنوان لتأصيل المقولة العلمية التي تؤكد ان صناعة السياحة هي صناعة ثقافية بقدر أهم من أي مكون آخر لهذه الصناعة وان هذا المكون يتمثل بقدر أكبر في المشاهد الأثرية ومشاهد الخصوصية التي تميز بلدانا بعينها عن بلدان أخرى وانصب الحديث بحماس ملموس عن أهمية الكشف عن الآثار وإحياء المدن والأسواق القديمة كأحد الروافد المستديمة المهمة لهذا المكون السياحي.
وفي نظر علماء الآثار والتاريخ والاجتماع فإن هذه البلاد قد تعرضت لعوامل مناخية على امتداد السنوات الموغلة في القدم وحتى تاريخها المسجل في نصوص كتب البلدان والتاريخ القديم، هذه العوامل المناخية كانت قسوتها بالغة على الإنسان وموارد المياه والنبات وكل مايهيئ عوامل الاستقرار للإنسان الذي أخذ يبحث عن مواضع تتوفر فيها تلك العوامل.
وما تبقى من الظواهر البشرية بعد زوال عصر الحضارات القديمة فإنه لم يكن ظاهرة استيطانية مستقرة بالمعنى الذي يدل عليه الاستيطان وإنما اتخذ شكل الجماعات أو القبائل في مجموعها التي تنتقل مكابدة لقسوة المناخ وبرزت تلك الظاهرة البيئية في تكوينها الرباعي (القبيلة + المياه + المرعى + الحيوان) وهذه الرباعية هي الظاهرة السائدة للتوطين في البيئات الصحراوية وقد جعلت هذه القبائل تتحرك وفقاً لحاكمية هذه الرباعية وجبروتها فأصبحت تتحرك ومعها حدودها وهو مما جعل هذه القبائل لم تنعم بدواعي الاستقرار أو الاستيطان غير قادرة على تشييد حضارة مستقرة.
بينما اتجهت القبائل التي لديها نوازع الاستقرار، إلى إقامة المدن والقرى وفقا للنسق الذي اتاحته لهم ظروفهم البيئية والمناخية لكنها على أي حال لم تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه تلك الحضارة البادئة والموغلة في زمن كانت فيه الوفرة المسببة لقيام تلك المظاهر المدنية الباذخة ميسورة.
وفيما اتجهت أمواج بشرية في هجرات متعاقبة خارج هذه الجزيرة التي بدأت في عصور تاريخية تكابد عواملها البيئية والمناخية المتجبرة بحثا عن العوامل المناسبة للنماء والحياة ظلت هذه العوامل تصبغ ما تبقى من البشر بداخلها بصبغتها وجبروتها فتميز عطاؤهم بالضآلة قياسا على ما حققه أسلافهم مما جعل بعض الباحثين في نشوء الحضارات وقيامها يتشكك في ان العرب داخل جزيرتهم لم تكن لهم حضارة وان ما وجد من بقايا ظواهر تدل على استيطان بشري إنما كان لأمم أخرى قدمت من خارج هذه الجزيرة استقرت زمناً وهي في طريقها لغزو أمم أخرى.
وفي غياب نتائج الكشوف الأثرية التي لم تتم - حتى الآن- بشكل يدحض هذا الرأي فإن أي تأويل للنصوص يصبح ظنيا قد يميل إلى الهوى وطغيان العاطفة. وقد اعتنق هذا الزعم رحالة غربيون ومستشرقون ومضى واحد من ألمع هؤلاء في بداية عهده بهذه البلاد وكانت الدلائل تشير إلى أنه سيصبح أسير هواها وان ما تبقى من حياته بعد ذلك سيمضيه في الترحال والبحث في نجودها وسهوبها إنه «فيلبي» الذي أخذته ظاهرة آثار الاستيطان التي لاحظها في محافظة الخرج من خلال قنوات الري التي شاهدها في نواحي «عين فرزان» إلى الزعم بانها تمت بتأثير «فارسي». سوف استدعي نص فيلبي تمهيداً للتدليل على أهمية الكشف عن الآثار واخضاعها للبحث العلمي الذي يدحض أي تأويل ظني:
«ثمة اغراء ان يستحضر المرء في ذهنه صورة شعب يعيش في مساكن ذوات قباب أو مساكن تشبه خلايا النحل، مشيدة من طين وقائمة على أساسات أعمدة حجرية ودعامات وسطى من المادة نفسها أو - مرة أخرى- وهذا يبدو أكثر معقولية ان تربط السكان في هذا الموقع القديم بالعمال الحرفيين البارعين الذين انشأوا الكاريز Kariz التي وصفناها آنفاً وقت ظل اسم المنشئين وما أنشأوه باقيا حتى اليوم فالسلسلة التي تقع بجوارها هذه الآثار هي سلسلة فرزان Firzan أليست قريبة من فرسان التي تعني الفرس Persian.ورغم ان الري من عيون الخرج وهو الاسم الجامع لمستودعات المياه هذه لابد ان يكون المستقرؤون الأوائل قد مارسوه الا انه يبدو لي انه من المحتمل ان هذا النسق من القنوات الذي لايزال واضحاً أمام نواظرنا لابد ان يكون مثله في ذلك مثل قنوات فرزان من عمل مستوطنة فارسية حديثة نسبياً واستخدام نظام الكاريز Kariz دليل قوي على هذا وقد وجدنا هنا أيضا نظيرا للخرائب الدائرية (التي تتخذ شكل الدائرة) والتي وصفناها آنفاً. وبعد ان صعدت منحدرات التلال في المناطق المجاورة لعين الضلع سعدت بان وجدت القمة مليئة بأكوام من الركام التي تظهر رغم كونها مجرد ركامات نظاما سيمتريا (نظام متساوق يدل على جهد بشري وتنظيم هندسي) يشير إلى وجود مستوطنة يسكنها قوم متمدنون أو مقبرة يشير وقوعها فوق الأرض الأكثر ارتفاعاً إلى ان مشيديها ليسوا من أصول عربية. (فيلبي، قلب الجزيرة العربية، ترجمة الدكتور عبدالرحمن عبدالله الشيخ، ص442، 449، دار المريخ 2002).
وقد مر على هذا الرأي الذي يميل إليه «فيلبي» سبعون عاما حتى قام باحث وعالم آثاري من أبناء هذه البلاد عام 1988 هو الدكتور عبدالعزيز بن سعود الغزي بعدة مواسم علمية بحثية في منطقة الخرج متتبعاً ما ذكره فيلبي حول ظاهرة الاستيطان في تلك المنطقة ونشر خلاصة أبحاثه في مجلة «العصور» التي تصدر عن دار المريخ بالرياض، المجلد السابع ج2، 1992، ومن بعد ذلك في كتاب بعنوان «التحولات الاستيطانية في محافظة الخرج في العصور القديمة» صدر عن الجمعية السعودية للدراسات الأثرية 1996 يقول الدكتور «الغزي» في هذا المجال:
«لاتزال مسألة تاريخ ومنشأ هذه الظاهرة الأثرية غير مؤكدة للباحثين فهناك من يقترح تاريخا لها في الفترة الإسلامية ويعتقد البعض انها تقنية ظهرت بتأثير فارسي وهناك من يرى ان فيها ماهو قديم وسابق للإسلام وفيها الإسلامي والجميع وجد بتأثير فارسي».
ويبدو ان الأمر صحيح من ناحية انها تجمع القديم والإسلامي لأنها ظاهرة مرتبطة بالزراعة والزراعة مهنة مرتبطة بالإنسان المستقر، وقصة استقرار الإنسان في محافظة الخرج تعود إلى ما قبل الإسلام بزمن طويل وتستمر خلال العصر الإسلامي.أما من ناحية ظهور نظام أثري المتمثل بالقنوات في محافظة الخرج بتأثير فارسي فهو افتراض يحتمل المزيد من البحث ويبدو لي ان تشييد واستخدام القنوات نظام محلي المنشأ حيث ان الحاجة إليه فرضت ظهوره ولأنه قد اكتشف نظام تصريف زراعي شبيه به في مناطق كثيرة في المملكة العربية السعودية على الخصوص وشبه الجزيرة العربية على العموم وأرخ بفترات موغلة في القدم وعلى سبيل المثال نذكر انه قد اكتشف في شمالي المملكة العربية السعودية وأرخ بعض منه بمنتصف الألف الثاني قبل الميلاد كما وجد الشيء نفسه في شرقي الجزيرة العربية وأرّخ بالألف الرابع قبل الميلاد، وربما يكون التاريخ أقدم وحسب آخر الدراسات حول نظام القنوات في جنوبي الجزيرة العربية فإن تاريخ استخدامها يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد (ص75، 76، 1996).

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved