Monday 10th march,2003 11120العدد الأثنين 7 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

البوصلة التائهة بين المحافظة 19 والولاية 51 البوصلة التائهة بين المحافظة 19 والولاية 51
د. منصور الداموك *

يذكِّر الموقف الحالي للولايات المتحدة تجاه العراق وكوريا الشمالية بموقف العراق تجاه الكويت و«اسرائيل» قبل أكثر من عقد من الزمن. طبول الحرب على العراق بدأت تقرع ويعلو صوتها - كما يعلم الجميع - بعد أحداث سبتمبر الشهيرة حينما حدد الرئيس الأمريكي العراق ومعه ايران وكوريا الشمالية أطرافا في محور شر يتربص بأمريكا وأمنها وثقافتها ورفاهية شعبها. ورويداً رويداً تخف حدة المواجهة مع ايران وكوريا الشمالية ويبدأ التركيز على العراق. فكانت البداية محاولة ربطه بأحداث سبتمبر، إلا ان أحداً لم يقتنع بالفكرة، فبدأ الضرب على وتر أسلحة الدمار الشامل العراقية، ليكون الهدف النهائي للادارة الأمريكية اسقاط نظام الحكم العراقي ورئيسه على اعتبار ان ذلك - حسب الزعم الأمريكي هو الحل الوحيد الذي سيضمن عدم وصول هذه الأسلحة الى أيدي «الارهابيين» ويجلب الحرية والديموقراطية لأبناء الشعب العراقي والأمن والاستقرار للمنطقة ولجيران العراق«!!!». يقول بوش في اطار حملته لاقناع الشعب الأمريكي بحتمية الحرب ضد العراق انه لولا حرب الخليج الثانية لكان العراق قد تمكن من انتاج سلاح نووي العام 1993م، وان العراق لا يزال يحتفظ بالبنية الأساسية اللازمة لانتاج هذا السلاح، وان الخوف الأكبر بالنسبة لأمريكا هو أن يجد «الارهابيين» نموذجاً لطموحهم المخبون عندما يرون نظام حكم خارج عن القانون يمكن ان يوفر لهم التقنيات اللازمة لقتل عدد هائل من الناس.
ومع ان أقطاب الادارة الأمريكية أجمعوا على ضرب العراق، فقد طرأ جدل بين صقور تنادي بمهاجمة العراق دون اكتراث لما يقوله الآخرون، وحمائم ترى ضرورة أن يُمرر قرار الهجوم من خلال مجلس الخوف.. عفواً «الأمن».. كما يقال «!!»، وهو الخيار الذي ساد أخيراً بإقرار مجلس الأمن للقرار 1441.
«أجندة» الادارة الأمريكية الحقيقية تجاه المنطقة التي تتجاوز مجرد الاطاحة بالنظام العراقي بقيت طي الكتمان اللهم إلا من بعض الاشارات البسيطة التي تسربت عن طريق وسائل الاعلام الأمريكية المقربة من الادارة، أو من بعض أقطاب الادارة، والتي كانت في مجملها مغلفة بحسن النية «!!» ولا تذهب بعيداً عن التبشير بنشر الحرية والديموقراطية واصلاح نظم الحياة السياسية والاجتماعية والتعليمية.. بما يتفق والرؤية الأمريكية بطبيعة الحال «!!».
في عز الهيجان الأمريكي تجاه العراق، تتخذ كوريا الشمالية - الطرف الثاني في محور الشر حسب الرؤية الأمريكية - تتخذ موقفاً مفعماً بروح المواجهة والتحدي للولايات المتحدة، عندما تنصلت عياناً بياناً من التزاماتها بموجب اتفاق 1994م الذي أبرمته مع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، والذي قضى بايقاف الكوريين لبرنامجهم للتسلح النووي مقابل صفقة قيمتها خمسة مليارات دولار تشمل حصولها على 500 ألف طن متري من زيت الوقود الثقيل سنوياً واقامة مفاعلين نووين يعملان بالماء الخفيف ومحيدين عن العمل للأغراض العسكرية. الحكومة الكورية الشمالية طردت مراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وباشرت بازالة الأختام وكاميرات المراقبة التي وضعتها الوكالة، ومن ثم أعلنت انسحابها من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، مبررة ذلك بتنصل الأمريكيين عن اتفاق 1994م. الاجراءات الكورية الشمالية وصفت من قبل الوكالة الدولية بأنها «خطيرة جداً»، والخبراء يؤكدون ان بامكان الكوريين انتاج السلاح النووي خلال أشهر معدودة، بل ويشير الأمريكيون الى ان كوريا الشمالية قادرة على انتاج كميات من البلوتونيوم تكفي لصنع 50-55 سلاحاً نووياً في السنة إذا ما دخلت ثلاثة مفاعلات نووية مجمدة الى الخدمة.
السلوك الكوري الشمالي في الأزمة الأخيرة صاحبه تصعيد خطير في نهج الخطاب الكوري، فقد أعلن الكوريون بوضوح ان فرض عقوبات اقتصادية على بلادهم سيعني الحرب وان على أمريكا ان تختار طريق الحوار وإلا فإنها ستدفع ثمناً غالياً لحماقاتها. على الطرف الآخر، اتسم الموقف الأمريكي بالتهدئة والمهادنة، فوزير الدفاع الأمريكي رامسفيد يرى ان موقف كوريا الشمالية يختلف عن موقف العراق رغم ان كلا منهما - مع إيران - يمثل خطراً على العالم حسب زعمه. ويعتقد الوزير الأمريكي ان الدبلوماسية طريق مثالي لحل الأزمة مع الكوريين ويعول كثيراً على الجهود الاقليمية في هذا الاطار. الرئيس بوش - وفي لهجة لا تقل مهادنة - يرى ان المواجهة مع كوريا الشمالية دبلوماسية وليست عسكرية وأنها ستحسم سلمياً، ويعتقد ان كوريا الشمالية تناور من أجل اعادة الحوار مع الولايات المتحدة، وهو الحوار الذي بدأ بالفعل في واشنطن بعلم ومراقبة الادارة الأمريكية «!!». أما الكوريون فقد زادوا الموقف تصعيداً، فهذا وزير دفاعهم كيم إيل تشل يتوعد بمعاقبة أمريكا بلا رحمة ويؤكد ان الجيش والشعب في كوريا الشمالية سيقاتلان ضد الإمبريالية، وسينتقمان من صقور أمريكا المتغطرسين «!!».
الموقف الآخر الذي تذكرنا به الأزمة الحالية المفتعلة من قبل الولايات المتحدة تجاه العراق، هو موقف هذا الأخير العام 1990م تجاه الكويت. فبعد توقف الحرب العراقية الايرانية أصيب رأس النظام العبثي العراقي بالغطرسة والغرور، فاتخذ قراره بتوجيه بوصلة مغامرته الجديدة تجاه الكويت، هذه اللؤلؤة الغنية بالنفط، التي بدأت تلوح في الأفق كحل لمشاكل النظام المالية الخانقة وتعويض ل«النشامى» و«الماجدات» عن فلذات الأكباد الذين قضوا في دفاعهم عن الحدود الشرقية للوطن العربي «!!». ولم يتبق إلا ايجاد مبرر الغزو، فبدأ البطل العروبي، بافتعال أزمة جديدة اتهم من خلالها الكويت بسرقة بترول الرميلة والتآمر مع أعداء الأمة لتدمير العراق العظيم «!!».. ولم يفت على رأس النظام العبثي في بغداد، وفي سياق حملته التسويقية لقرار ابتلاع الكويت ان يواصل خداعه وتضليله ودغدغته لمشاعر الجماهير العربية، فراح يعلن على الملأ قدرته على حرق نصف «اسرائيل» دون ان يوضح لماذا النصف فقط؟! فصول المسرحية العبثية توالت - كما يعلم الجميع - فقام صدام بغزو الكويت صبيحة يوم الخميس الثاني من اغسطس 1990م، ثم أعلن ضمها فيما بعد لتكون المحافظة العراقية رقم 19 «!!» أما «اسرائيل» فقد بقيت في مأمن رغم أنها قامت العام 1984م بتدمير منشآت المفاعل النووي العراقي عن بكرة أبيها، وحتى الصواريخ التي اطلقت عليها خلال حرب تحرير الكويت لم يكن لها أي قيمة عسكرية، ولم يكن لها من هذه سوى محاولة خلط الأوراق، وهو الهدف الذي لم يتحقق «!!».
الموقف الأمريكي الحالي من العراق وكوريا الشمالية والموقف العراقي السابق من الكويت و«اسرائيل» تعكسان حجم مآسي الشعوب عندما يكون مصيرها بأيدي حفنة من الرجال من ذوي الأهداف الأنانية الباطنية والرؤى الضيقة التي لا تتعدى نظرتها أرنبة خشومها ومن حولها وتؤمن بأن القوة والقوة وحدها قادرة على ان تحيل الحق الى باطل والباطل الى حق. فها هي كوريا الشمالية تزبد وترعد وتتوعد، والخبراء يؤكدون قدرتها على انتاج السلاح النووي قريباً جداً، ناهيك عن كونها في مقدمة الدول التي تمتلك تكنولوجيا انتاج الصواريخ البالستية القادرة على حمل مختلف الرؤوس. ومع هذا تواجه بلهجة مهادنة، بل ومسالمة من قبل الادارة الأمريكية. في المقابل يعلن خبراء التفتيش الدوليين الذين جابوا العراق طولاً وعرضاً عن عدم وجود دليل يدين العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل، ومع ذلك فبوصلة الحشود العسكرية الأمريكية لا تعرف إلا العراق، البلد الغني بالنفط والمفتاح المنتظر لباب المصالح، وتحقيق المخططات والأهداف الأمريكية الصهيونية في المنطقة، والحديث لا يدور عن شكل وماهية نظام الحكم البديل في العراق وسيد بغداد المنتظر الذي يرجح ان يكون حاكما عسكرياً أمريكياً يجعل من العراق الولاية الأمريكية رقم 51 «!!». تماما كما فعل صدام سنة 1990م عندما بلغ أوج قوته العسكرية، فرأى ان الكويت هي الأنسب لبداية تنفيذ مخططاته وبرامجه العفلقية المريضة، ملقياً عرض الحائط بكل الاعتبارات والالتزامات والتعهدات.
إنها سطوة القوة الغاشمة المهيئة لخدمة الباطل، وإذا كان صدام وجد من يوقفه عند حده ويعيد كيده الى نحره، ترى كيف يكون الحال في مواجهة أمريكا التي يبدو أنها وجدت في أحداث سبتمبر فرصة ولا أجمل لاعادة صياغة وجه العالم وفقاً لمرئياتها ومصالحها. واننا وإنا لنتساءل كيف سيكون حال العالم بعد عقد من الزمن، وهي المدة الزمنية التي حددتها أمريكا لنفسها لوقف حربها على ما تسميه «الإرهاب»؟!.

(*)mk_aldamouk

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved