Saturday 22nd march,2003 11132العدد السبت 19 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شيء من شيء من
حُمّى البيانات والحرب
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

مع بدء القصف الجوي الأمريكي على العراق، سوف تتزايد بكل تأكيد حُمّى «البيانات» التي هي على ما يبدو «موضة» مثقفينا هذه الايام. فلا يكاد يمضي اسبوع الا ويُزف الى مسامعنا بيان يحمل من الخطابية، والعبارات الرنانة، والمواقف العنترية، ونشجب ونرفض وندين ونستنكر، ما يُذكِّرنا ببيانات «الصمود والتصدي» سيئة الذكر والفكر، يوم أن اختار الرئيس السادات خيار «السلام» مع إسرائيل. ذهبت أدبيات الصمود والتصدي، وبقي منها مجرد «خيالات مآتة» تظهر بين الحين والآخر، همها الاول والاخير أن تقول: لا.. بسبب أو دونما سبب.
والسؤال: ماذا استفدنا - بالله عليكم - طوال تاريخنا من بيانات الرفض والشجب والاستنكار والادانة؟.. لا شيء!. والمشكلة أن الانسان عندما يبتعد عن الموضوعية، ويتكئ على الشعارات، ويتعامل مع «ما يجب أن يكون» ويتجاهل التعامل بواقعية مع «ما هو كائن» هو في تقديري انسان حالم أكثر منه موضوعياًَ. والانسان الحالم لا يمكن البتة أن يكون فاعلاً، ناهيك عن أن يكون مفكراً أو سياسياً أو قادراً على إحداث أي تغيير. وعندما سألت أحد نجوم البيانات عن سبب إصراره على توقيع كل بيان يندد بأمريكا ويرفض حربها مع النظام في العراق، أجاب بتلقائية:« تسجيل موقف!».. وأضاف:« العالم يرفض ويستنكر ونحن ساكتون، يجب أن نقول شيئاً!».
غير أن الحقيقة التي غفل عنها نجمنا المثقف الكبير أن الانسان في الغرب عندما يتظاهر رافضاً، أو مندداً بموقف ما، هو في الواقع يستجيب لمصالح مؤسسات أو منظمات فئوية ينتمي إليها فكرياً أو وظيفياً أو إيديولوجياً، وتلك المؤسسات هي من نسيج مجتمعه، وهي التي تدفعه بالتالي للاعتراض والرفض، او التأييد والمساندة، وهي في كل مواقفها تسعى إلى تحقيق مصالح المنتمين إليها أولاً، لذلك فإنها عندما تقوم بممارساتها تلك فإنها تقوم بها وفق حسابات دقيقة تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية أو مصلحية أو فئوية أو إيديولوجية، ولأسباب عقلانية وليست عاطفية بكل تأكيد.. أما نحن فمحركنا هو التقليد الفارغ والعواطف الجياشة، ثم لا شيء. وهذا هو الفرق الجوهري بين بياناتنا واعتراضاتهم. ونسي أولئك أن العرب تاريخياً هم أكثر خلق الله في أرض الله إصداراً لبيانات الشجب والإدانة والغضب، ولو كانت مثل هذه البيانات تنفع وتُقيل العثرات، لكان العرب قد هزموا إسرائيل منذ زمن «اللاءات» الثلاث، أو ربما قبل ذلك ببعيد!.ولأن الحرب الجوية بدأت، والأحداث متسارعة وتتغير بين ساعة وأخرى، فربما ينشر مقالي هذا وقد بدأ الهجوم البري الأمريكي على العراق، وسوف يتفاجأ الكثير منا، وبالذات مثقفونا، عندما يرون العراقيين، وهم المعنيُّون بالأمر أولاً وأخيراً، يحتفلون بالقادم إليهم ليخلصهم من ذلك «الوحش» الجاثم على صدورهم منذ أمد بعيد، تماماً مثلما احتفل أهل «كابل» وهم يستقبلون قوات الشمال المدعومة من الأمريكيين عندما اقتلعت نظام «طالبان» من جذوره.. وأتذكر أن بعضاً منا آنذاك قد أصدروا البيانات شاجبين ومنددين ورافضين التدخل الأمريكي في أفغانستان، لذات الأسباب ونفس الدوافع، غير أن النتيجة التي أكدها الأفغانيون أنفسهم للعالم أجمع كانت:« نعم» للأمريكيين و«لا» لأولئك الذين ساموا الناس سوء العذاب حتى لو كانوا أبناء جلدتهم ومواطنيهم، ليقع أصحاب تلك البيانات ضحية جهلهم وربما سذاجتهم، فظهروا وكأنهم يقفون مع أعداء الشعوب في خندق واحد، وما أشبه الليلة في العراق بالبارحة في أفغانستان.
والذي لا يدركه الكثيرون منا أن الشعوب العربية التي عرفت الاستعمار، ثم جَرَّبت أنظمتها الوطنية، أصبحت تتوق للمستعمر الأجنبي ليخلصها من المستعمر الوطني، بعد التجارب والمعاناة المريرة التي عانى منها ذلك الانسان مع أنظمته الحاكمة، ففي تقديري أن هذه التجارب قد غَيَّرت جذرياً ثقافة «مقاومة الاحتلال» التي كانت منتشرة بين تلك الشعوب قبل حكم الأنظمة الوطنية، لترسخ ثقافة جديدة مؤداها أن الانسان المقموع والمسحوق والجائع والمستلب على استعداد ان يرضخ لكائنٍ من يكون ليحكمه شريطة أن يُقيم أودَه، ويحترم كرامته، ويتعامل معه بإنسانية، وهذا ما سوف تثبته تطورات هذه الحرب، وسترون.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved