Saturday 22nd march,2003 11132العدد السبت 19 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

المشهد الأخير المشهد الأخير
عبدالعزيز السماري

كان مشهد تسليم غرناطة درامياً ومأساوياً، كما روته فصول التاريخ؟ اذ سار السلطان المهزوم ابو عبدالله الصغير مع نفر من اتباعه الى خارج المدينة، حتى وقف على جسر نهر شنيل لملاقاة الموكب الملكي القشتالي المنتصر.. ثم تقدم من الملك الكاثوليكي لدى وصوله، وقبل ذراعه بمهانة، وامر وزيره يوسف بن كماشة بتسليم مفتاح المدينة التي قاومت لأكثر من مائتي عام، مطيلة بذلك الوجود العربي والاسلامي في الاندلس بعد أن تتابعت منذ منتصف القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي حلقات سقوط ولايات الاندلس.. ثم تابع ابو عبدالله الصغير سيره حتى وصل تل البذول المشرف على غرناطة.. واستدار نحو المدينة العربية الآفلة مردداً عبارة.. «الله اكبر.. الله اكبر.. انه قدرك يا رب العالمين».. واذا بالدموع الساخنة تطفر من عينيه في الحال، ازاء هذا المشهد الصعب، لتتقدم منه امه بجسارة قائلة:« ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال».
إنها احد تلك المشاهد التراجيدية، التي ينجذب اليها المؤرخون، ويؤدي ترديدها على صفحات التاريخ الى اختصار زمن السقوط في لحظة استسلام مهينة، فاهتماماتهم في العصور السابقة لم تكن تعنى بحياة المجتمعات، ولم تنفذ الى جوهرها، وذلك المشهد لم يكن إلا وجهاً من وجوهها، ولكنه لم يكن في اغلب احيان اهمها، فلم يرد في بقية مشاهد ذلك المسلسل الطويل من السقوط الحضاري في الاندلس، ما يخبرنا عن تفاصيل تلك المرحلة وتغيراتها من الداخل، واختزال اسباب سقوط امة وانحسار حضارة، عمرها الزمني اكثر من ثمانية قرون، ثم تهجير ملايين من سكانها العرب والمسلمين، في بكاء فرد اضاع ملكه لانه لم يحافظ عليه كالرجال، فيه الكثير من التضليل والتمويه والشخصنة لتاريخ امة في رجولة حاكم مستبد، ونظراً لغياب الدراسات الانسانية الاجتماعية والاقتصادية عن وصف مراحل الانحطاط السياسي في تلك الفترة، غابت الحقيقة، وظل ذلك المشهد الحزين.
وربما يدرك من تهيأت له زيارة قصر الحمراء في غرناطة، لماذا سقطت دولة بني الاحمر..!، فالقصر المطرز بالتحف والجواهر من الداخل، بُني داخل قلعة ذات اسوار عالية، وعلى قمة جبل مرتفع،.. لقد كان علو جدران اسواره وبعده عن المدينة، يحكيان قصة اتساع الهوة بين المجتمع الساكن في السهل، وبين قصر الحاكم على قمة الجبل، ويمثل تباعدهما بداية مرحلة الصراع النفسي إن جاز التعبير، بين السلطان وشعبه، ودلالة على ردة فعل تسلطه وانفراده بحكمه، واختصاره للدولة ومؤسساتها في شخصه المتفرد بالحكم عالياً فوق القمة، وعلى ازدياد قلقه وخوفه، وتصدع جسر الثقة بينهما، بسبب ظهور اعراض البارانويا والشك غير الحميد، ومهما طال الزمن وتعددت وجوه التدهور، سيبقى ذلك التفرد مؤشراً دائماً لحركة منحنى السقوط في اتجاه الانحدار.. واسباب سقوط الدول، لم تعد خافية عن الناس، اما اولئك المغيبون عن مشاهد فصول التاريخ في الامس، فقد غدوا احد اهم ابطال الصورة الحديثة للدولة في الوقت الحاضر.
وفي الامس، لم يستطع مشهد حزين ان يختزل تلك الحقيقة المؤلمة في الارجنتين، فالصحافة نقلت للعالم، مشهد بكاء وزير المال الارجنتيني، غيلير مونيلسين، يوم الخميس قبل الماضي في طوكيو، التي غادرها مباشرة في اليوم التالي، وذلك لان مسؤولين يابانيين طالبوه بأن تبيع الارجنتين قسماً من اراضيها، ككبرى الولايات المعروفة باسم باتاغونيا الواقعة في اقصى الجنوب بجوار تشيلي، لتسديد ديونها التي زادت العام الماضي على 154 مليارا و 600 مليون دولار، منها ملياران و700 مليون متأخرة السداد لليابان مع فوائدها منذ 10 سنوات، والتفاصيل الاهم في فصول مسلسل السقوط نقلتها وسائل الاعلام من قبل، فالازمة الارجنتينية السياسية الخانقة، والانهيار الاقتصادي بسبب جذور الفساد الاداري والمالي، اوصل البلاد لهذه الحالة التعيسة، وهيأها لسيطرة القوى الاجنبية على ثرواتها، ورمى بالسكان الابرياء في وحل الفقر والتشتت، وزاد من ألم المأساة الوطنية، ان يطلب «الدائن» بيع ولاياتها في المزاد العلني لتسديد ديونه، في مشهد حزين آخر..
اما ما يحدث في عراق التاريخ، فلا يعلم الا الله بما ستنتهي اليه هذه الحرب المدمرة والموجهة ضد الابرياء العزل،.. هي بكل تأكيد، حرب غير اخلاقية ضد شعب عربي، تم الاعداد لها عبر استغلال قنوات شرعية، فبعد ان تم نزع مجلس الامن لاسلحته تنفيذاً لقرارات الامم المتحدة، تشن عليه الولايات المتحدة حرباً من خارج اسوار المجلس الدولي، وهي سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ الحروب، ووجه قبيح من وجوه الخداع والظلم والافتراء، تظهر بشاعته في النوايا المبيتة لشن هجوم على بغداد مهما آلت اليه نتائج التحقيقات.
ومعايير الحروب في الوقت الحاضر تبدلت بعد التطور المخيف في اسلحة الدمار، ولم يعد حصار المدن وسيلة مجدية لاستسلامها، وستكون نتائجها مروعة، و ستحفل بمشاهد مأساوية، لن تخفيها مؤامرة مؤرخين او اي محاولة لاختزال اهوالها في مشهد حزين، فالإعلام الحديث تسلم زمام النقل الحي للاحداث من المؤرخين الاوائل، وقد يبقى لهم دورهم القديم، في البحث عن «مشهد أخير»، يبكي خلاله المهزوم بحرقة من ندم..
ولا ادري مَنْ سيبكي مَنْ؟ ومَنْ سيذرف الدمع دماً في أروقة المشهد الاخير من الحرب الشرسة.. أهو المجد الذي سيبكي، اهم مراكزه الحضارية في تاريخ البشرية، ام هو الشعب العراقي الذي سيبكي قصة صموده امام الاستبداد والقهر، وخضوعه لاقدار الحروب التي ارغم على خوضها ضد «العدو» الصديق، خلال العقود الثلاثة الماضية، ام سيبكي العرب نكد الدنيا التي اجبرتهم على صداقة لابد منها لعدو جائر، لا يتوقف عن الظلم والانحيار والتناقض باسم السلام والعدالة والحرية والديموقراطية، ولا يخجل من عدم الوفاء بالتزاماته الاخلاقية كقوة دولية مفترض ان تكون على الاقل مسئولة، ام يفعلها التاريخ، ويمتنع، رأفة بحالنا ولو لمرة، عن عرض ذلك المشهد الاخير،.. مشهد بكاء الزعيم على المجد الذي اضاع، والثروة التي بددت، والعراق الذي مزق، والشعب الذي شرد،.. ام سيقرر مقص الرقيب حجب ذلك المشهد لعدم ملاءمة عرضه للمشاهدين، او ر بما لان فصول تلك الرواية الدرامية لم تنته بعد، ولايزال التخطيط جارياً على اعداد ذلك النوع الرديء من المشاهد الحزينة في مواقع اخرى، مادام.. التفرد بالقرار، والهروب من مواجهة ازمات الواقع، رسوماً جدارية تزدان بها، كواليس المشهد الاخير في مسلسل السقوط العربي في التاريخ.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved