ونحن نخوض المعامع منذ دهر مع النفس والآخرين، تزخر قطوف كثير من أدبيات الفكر العربي ببكائيات كره الآخرين لنا.. جهل الآخرين بنا وتجاهلهم أيضا.. ولماذا يحقدون علينا؟ إذا تجاوزنا إجرائياً نون الجماعة، فإن هذه البكائيات توحي بتبرئة الذات باعتبار أن الآخر أو الغرب يمارس الكره تجاهنا، والجهل بنا دون محاولة للفهم. كما تشي تلك الشكوى بأننا نحاول جهدنا فهم الآخر ومعرفته، ولا نبادر بالكره إلا كعمل مضاد فهم البادئون بالبغضاء. وهنا، لن نتمكن من معرفة البادىء بالكره.. تماماً مثلما لن نتأكد مَنْ أتى أولاً.. هل البيضة أتت من الدجاجة أم الدجاجة أتت من البيضة؟
مَنْ هو الآخر الذي يكرهنا؟ الغرب؟ وهل الغرب لون صافي المصالح والمواقف؟ وإذا كانت الإجابة بأنه رغم وجود تفاوت في مواقف الغرب تجاهنا فإن الحديث يعني التيار الأساسي أو الأقوى في الغرب، وهو أمريكا في هذه المرحلة، فأمريكا بدورها ليست تياراً سياسياً أو فكرياً واحدا، بل هي بلد متعدد الأعراق والثقافات والمصالح والنفوذ، ويشكل الإسلام ثاني دين فيها من حيث تعداد السكان، أو كما يوضح إدوارد سعيد أحد أبرز النقاد للإدارات الأمريكية المتلاحقة عبر عقدين من الزمان، بأن أمريكا ليست مؤامرة يهودية، بل: «مجتمع معقد يتصارع فيه الكثير من التيارات والمصالح والضغوط».
وإذا قلنا إن الإعلام الأمريكي يشوه صورة العربي والمسلم ويبذر الكره تجاهنا، فيمكن طرح العديد من الأسئلة الحيادية:
هل نحن لا نفعل الشيء ذاته تجاههم؟ ألا يتسابق غالبية مثقفينا الى شتم الغرب وعلى رأسه أمريكا؟ وهل صورة العربي المسلم هي وحدها التي تتعرض للتشويه.. هناك مثلاً اليابانيون، الألمان، الطليان يعرضون في أفلام هوليوود بأنماط سلبية مقولبة مثلنا تماماً، فماذا كانت ردود أفعالهم؟ وهل كل السلبيات التي يعرضها الغرب عنا هي تشويه أم أن بعضها يعبر عن حقائق موجودة بالواقع؟ هل دققنا النظر في الحقيقي والباطل من الأنماط التي يذكرونها عنا دون حماس يعمينا عن رؤية أحوالنا وأفعالنا؟
وإذا أراد بعضنا أن يكون موضوعياً تراه يخفف اللهجة القاسية ويتنازل عن جزء بسيط من كبريائه الشرقي موضحاً أن ما يقوم به الإعلام الغربي ناتج عن جهل وعدم فهم، أي أنه ليس تشويهاً مقصودا، مع إقرار خجول ببعض القصور ناتج عن أننا لم نفلح في توضيح كم نحن طيبون مظلومون، ليظل الخطأ الأكبر يلام به الآخر الذي يتخبط بالجهل أو عدم التفهم، وننام متدثرين براحة الضمير. أما حين يقع عمل مؤذ من جانبنا تجاههم فهو لدي أغلبية مثقفينا، استثناء نادر لا يعبر عنا، ولانعتذر عنه ولا نناقش معطياته، بل قد نطالب الآخر بتفهمه وتقدير ظروفه، أو ربما نطالبه بمراجعة سوء تصرفاته التي أنتجت حماقة سلوك بعضنا!
قد نكون فعلاً من أطهر شعوب الأرض وأكثرها تعرضا للظلم هذه الأيام (خاصة أن هناك حرباً غير شرعية دولياً على العراق)، قد يكون من أزماتنا الحادة مع العالم الخارجي ناتجة عن جهل الآخرين بنا، لا اعتراض على ذلك، ولكن من الضروري لموازنة العلاقة مع الآخر أن نبدأ بحث أزماتنا معه من خلال الاتهامات الموجهة إلينا أي من الداخل قبل أن نلوم الخارج. من مصلحتنا إدارة الاختلاف مع الآخرين بروح غير معادية وبلغة الحوار المنفتحة وليس بلغة الدفاع الأعمى، وعدم القطيعة ما لم تتعرض مصالحنا الحقيقية للتهديد.. فالحياد والتجرد والموضوعية أمور أساسية في تقييم الذات والآخرين.. وهنا يجدر بنا أن لانضع غاية مسبقة غرضها تبرئتنا من كل العيوب واتهام الآخر بها. إن فهم الآخر لن يتحقق دون أن نتعاطى مع تراثه وحاضره الفكري والاجتماعي، ونقيِّم ظروفه بموضوعية وإنصاف. فإذا استخدمنا المعطيات الواقعية عبر وسائل موضوعية وحصلنا على نتائج لا نرغب بها ينبغي عدم التهرب من أخطائنا.
فليس من الحكمة عندما نتعرض لأزمة حادة في علاقاتنا الخارجية أن يلقي مفكرونا تهماً جاهزة توجه نحو الآخر وحده! ربما يكون هذا من أدوار السياسة وطبيعتها للدفاع عن المصالح، ولكنه لا ينبغي أن يكون من أدوار المفكرين الذين يقومون بمهمة التنوير المنصف والدفاع عن المصالح بعيدة المدى.
وإذا كنا نطالب الآخر بحسن فهمنا فكريا واجتماعياً، فإنه من الطبيعي أن نفعل الشيء ذاته تجاهه، قبل الحكم الجزافي عليه أو التعميم التبسطي على مواقفه تجاهنا، ولا نكتفي بالظواهر السطحية لأعماله بل نحاول معرفة الأسس الحضارية لهذه الأعمال.
فإذا كان الآخر الخصم هو أمريكا، ينبغي أن نفهم الأسس التي تبني عليها مواقفها وندرسها باستفاضة وبطريقة منهجية. ولكن لا يوجد معهد أو مركز يقوم بهذه المهمة في العالم العربي حسب ما يذكر ادوارد سعيد الذي يطالب بالدراسة المنظمة والعلمية لأمريكا شعباً ومجتمعاً وتاريخاً، ويقول: «نعم أمريكا هي بلد مكدونالدز وهوليوود والجينز وكوكا كولا وسي.إن،إن، وتصدر كل هذه المنتجات إلى كل مكان بفضل العولمة والشركات المتعددة الجنسيات.. لكن علينا أن نعرف مصدر هذه المنتجات وفهم العمليات الثقافية والاجتماعية التي تكمن خلفها، خصوصاً مع المحاذير الواضحة المترتبة على التفكير التبسيطي والاختزالي أو الجامد بأمريكا».
ليست تلك محاولة للتماهي مع الآخر المتفوق وتبرئته وجلد الذات، بل محاولة لفهم الذات والآخر.. لن يجدي فهم معادلة «نحن والآخر» إذا كان غايتها المسبقة تبرئة الذات وإدانة الآخر..
فتلك أفضل وصفة للتأزم مع الآخرين. لن يفلح البحث عن من يكره من، أو البحث عن من بدأ الكره والأذى أولاً، فهو بحث عبثي.. انه لعبة البيضة والدجاجة، بينما نحن والآخر إزاء واقع شاحب يتراوح بين معركة السلم ومعركة الحرب، فأيهما نختار؟
|