Saturday 12th april,2003 11153العدد السبت 10 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شيء من شيء من
شيء من بغداد وكابول.. أوجه الشبه
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

سقطت بغداد مثلما لم تسقط حتى أم قصر»، وسقط صنم الرئيس الملهم والقائد الأوحد بحبال علقها عراقيون وجرتها دبابة أمريكية، وبمجرد أن هوى ذلك الصنم تنفس أهل بغداد الصعداء، وعبروا عن رأيهم دون أن يجبرهم أحد، فانهالوا على تمثاله بالنعال، وأصبح العراقيون في وسط العراق لأول مرة منذ ثلاثين عاماً أحراراً يقولون ما يريدون، وبدأت العراق، وربما المنطقة كلها، تاريخاً جديداً، لا ندري إلى أين يتجه، ولكنه بكل تأكيد أفضل بالنسبة للعراقيين من حكم ذلك الطاغية ونظامه الذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
كان ذلك بالنسبة لي، كما بالنسبة لكثير من العراقيين، متوقعاً، أما الذي فاجأنا منذ أن بدأت الحرب فهو قدرة هيكلية النظام العسكرية على المقاومة بعد أن تدرعوا بالمدنيين، وخلعوا البزات العسكرية، واختلطوا بالناس، لتظهر مقاومتهم للقوات الانجلو امريكية وكأنها مقاومة شعب وليست مقاومة نظام. وهذا ما انطلى على كثير من العرب، فانبرت بعض القنوات الفضائية العربية في «الفزعة» لأهل العراق، على اعتبار ان المقاومة التي ظهرت في الجنوب العراقي كانت مقاومة شعب لمحتل، وان العراقيين، رغم خلافهم مع نظامهم، قد أجلوا هذا الخلاف، وتكاتفوا وتراصوا في مقاومة المحتل. غيرأن تلك المقاومة تكشفت حقيقتها بمجرد أن سقط النظام بوصول القوات الأنجلو أمريكية لأسوار بغداد، ومن ثم ذلك السقوط السهل للعاصمة التي كانوا يظنونها ستكون «عاصمة الصمود والتصدي»، فإذا هي أول من يصفق للغزاة، ويتعاون أهلها معهم في اسقاط تمثال الطاغية، في صورة رمزية عميقة الدلالة، تدلُ على أن «العرب» لأول مرة في تاريخهم اختاروا طائعين أن يتحالفوا مع «الأجنبي» لإنقاذهم من نير وظلم واستبداد الحاكم الوطني، بعدما جربوا في الماضي ظلم الاستعمار ثم جربوا في الحاضر ظلم الأنظمة الوطنية، فاكتشفوا ان نير الاجنبي لا يقارن ألبتة مع نير وظلم الديكتاتوريات المحلية. والغريب أننا لا نتعلم من تاريخنا. فما حصل في بغداد كان قد تكرر في كابول، ولو عدنا الى خطاب بعض الفعاليات الإسلامية العربية الذي كان سائداً قبل الحرب الامريكية على طالبان، لوجدناه نفس الخطاب الذي واكب الحرب على النظام العراقي، وان نفس فتاوى الجهاد كانت هي وبحذافيرها نفس الفتاوى التي اطلقها البعض قبل أيام لدعم «صمود الشعب العراقي» كما كانوا يرددون. غير ان «تهليل» أهل بغداد للقادم اليهم من الجنوب، كان تماماً مثل تصفيق أهل «كابل» للقادم اليهم من الشمال، فقد اظهر الوضع على حقيقته، وأكد ان الإنسان دائماً وأبداً يبحثُ عن مصالحه، ويرفض الأغلال ويتوق الى التحرر ويكره العبودية، حتى وإن اضطره ذلك لأن يتحالف مع الغزاة. ومشكلة الخطاب العربي السياسي الشعبي بكل ألوان طيفه أنه لا يهتم بالإنسان قدر اهتمامه بالايديولوجيات والشعارات. هزمتنا اسرائيل في حرب 67 لأننا رفعنا شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، ولأن «المعركة» صارت لها الأولوية المطلقة، أصبح قائد المعركة فرعوناً، لا يُسألُ عما يفعل، وأصبح الإنسان المحكوم ثانوياً في سلم الأولويات، فكان ذلك من أهم أسباب الهزيمة. وفي حرب طالبان رفعنا شعار «لنتحد ضد الغازي الأمريكي» ونسينا معاناة الإنسان الأفغاني وفقره ومعاناته من تقوقع وتخلف النظام الطالباني، ولم نصدق ونحن نرى بأمهات أعيننا أهل كابل يقابلون حلفاء الشيطان الأمريكي بالورود والرقصات والاحتفالات. وما اشبه الليلة بالبارحة، نسينا معاناة أهل العراق مع صدام، ونسينا كل تاريخه الدامي، ونسينا معاناة الإنسان العراقي الذي عانى من نظامه ما لم يعانه أي شعب مع حاكمه في التاريخ، ورفعنا نفس الشعار الذي رفعناه في أفغانستان: لنتحد ضد الغازي الأمريكي، ولأن التاريخ اثبت أكثر من مرة ان الشروط اذا تكررت افرزت نفس النتائج، كانت «بغداد» نسخة مكررة من «كابل».
وأهم ما أفرزته الحرب الأخيرة على العراق من عظات يكمن في تقديري أننا يجب دائماً وأبداً أن نتجه الى الإنسان، لا الى الشعارات. ومتى ما اقتنعنا أن الإنسان ومصالحه وأمنه وعيشه ورفاهه وكرامته هي التي يجب أن تكون لها الأولوية المطلقة في كل خطاباتنا وتعاملاتنا، نكون في رأيي قد تخلصنا من أهم أمراضنا التي جعلتنا في آخر الأمم تحضراً، وأولهم تخلفاً.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved