Saturday 12th april,2003 11153العدد السبت 10 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

العرب رهن القيم والأنماط العرب رهن القيم والأنماط
د. إسماعيل نوري الربيعي

لم تتوقف حالة الوهن التي نالت العرب على مجال الضعف والسكونية التي استشرت في مختلف قطاعات الحياة العامة، بل ان التحدي الأهم بات واضحاً في هذا الزحف القادم من الغرب الذي تجلى في جملة من الفروض، التي تراوحت ما بين المباشر الذي تمثل في الهجمة الاستعمارية التي زحفت نحو العرب منذ بواكير القرن السادس عشر، أما العامل غير المباشر فقد تركز في هذا التفاوت الكبير الذي بات يميز قسمات المقارنة بين العرب والغرب لا سيما في مجال المعرفة الفكرية والعلمية.
يقف العرب في عصر الاستقلال، وهم لايزالون يعيشون وهم السيطرة والتبعية للآخر، وبقدر ما يحضر الغرب في كل شيء حتى في أدق تفاصيل الحياة، فإن المهمة التي بقيت تؤرق حياتهم وتجعل منهم في أشد لحظات الحيرة والارتباك حول الواقع الذي يحيط بهم، بقيت تعاني العطالة، لاسيما في مجال التنمية الوطنية، حيث بقاء الهيمنة للفئات القديمة من الرأسمالية الوطنية «الكومبرادور» التي ظلت تعمل بكل ما تملك من جهود، في سبيل تدعيم أواصر علاقاتها مع الرأسمالية العالمية، وفي ظل هذا الإطار كان التغاضي عن طبيعة الفروض التي تمارسها مكونات السلطة الوطنية«الاستقلالية» التي جعلت من حضورها فارداً في مختلف الفعاليات، حتى ليكون التقاطع وقد تبدّى في هذا الحضور المهيمن لقطاع واحد يتمثل في السلطة السياسية، التي بقيت تدور في فلك عقلية العصور الوسطى.
يتركز مجال المفارقة في الحياة العربية، في التوجه الحثيث الذي يبدر عن لدن السلطة الرسمية في تثبيت معالم التوقف التي تظهر على شكل العناية بهذه الواجهات الكبرى والمرتبطة بالشعارات والمقاولات التي تمجد وتعظم من قيمة المنجز الوطني، في الوقت الذي يتم فيه إهمال الجوانب الفكرية الأصيلة المتعلقة بالأسباب التي جعلت من العرب يعيشون هذه التفصيلات من التأخر، الذي يعم مختلف قطاعات الحياة. وبقدر ما برز الوعي بازاء الفعاليات التي تتفاعل في الغرب باعتبار مكامن القوة والازدهار الذي يتفاعل في داخله، فإن لحظة المبادرة للنهل عن هذا النموذج، كانت قد ظهرت من قبل محمد علي باشا الذي حاول بناء دولته وفق النسق الأوربي الحديث، لتبدأ تجربة التحديث بتوسع شديد المباشرة حيث أرسلت العديد من البعثات الدراسية إلى العالم الغربي، لاعتبارات التقدم الكامنة فيه، إلا أن النتائج بقيت تدور في فلك الاستهلاك المباشر، الذي لم يثمر عن نهضة حقيقية يمكن من خلالها تجاوز الأحوال القديمة.
تحديد الثمن سلفاً
من واقع الفشل الذي تعرضت له تجربة التحديث، برز الاتجاه من قبل النخب الحاكمة إلى احتذاء النموذج الذي مارسته بعض القوى الأوروبية الداخلية، لاسيما البورجوازية في تصديها لمسألة المواجهة والنهوض بالواقع، حتى كان التمثل لهذا الدور من خلال ترصد مكامن التجربة التاريخية لواقع الثورة الفرنسية في قيادة قوى التحرير للواقع، إلا أن التطبيقات التي انغمست فيها النخب العربية بقيت تعاني من حالة الابتسار وسوء فهم التمثل، لاسيما أن نطاق التطبيق بقي محاذياً للواقع، ولم يستطع أن يغور في التفصيلات المتعلقة به، ولعل للاستغراق الذي ولجت فيه هذه النخب، جعل منها فاقدة لأسس الشرعية التي تتطلبها مدركات التفاعل المباشر مع المجتمع، هذا بحساب الافتقار إلى الأطر الموضوعية التي تميزه.
الانتقائية التي ميزت مجهود التحديث الذي قاده محمد علي باشا، ارتكز على مجال محدد غير قابل للتعديل، قوامه الارتهان عند الجانب المادي، ومن هنا كان التطلع إلى التدخل المباشر في مختلف القطاعات العسكرية والتنظيمية بل ان الأمر احتوى على العديد من المسائل المتعلقة بالنشاط الثقافي مثل المطبعة والصحيفة، إلا أن اللافت هنا، أن القوام الثقافي بقي عالقاً في هذا الانشغال المظهري، وليس الفكري العميق.
ولعل السؤال الذي بقي عالقاً في مضمون حدود التجربة، الذي ميز اتجاهات الميل من لدن بعض القوى الشرقية، لتحديث قواها حيث يتم استحضار النموذج الياباني الذي جاء في أعقاب التجربة المصرية، لكن النتائج تبقى تثير الانتباه بل التعجب، فالأسبقية الزمنية التي ميزت النموذج المصري على الياباني بما يزيد على الربع قرن، تم هدرها في ظل التركيز على الجانب الواحد، وإهمال الاستتباعات الأهم والأشد حضوراً والمتعلقة بالجانب الفكري، فحضور السلطة في تحديد الممنوع والمرغوب جعل من مسألة التحديث تعاني من النقص في صميم المضمون، إلاّ أنه من المهم هنا الالتفات إلى أهمية سياقات التفكير السائدة في كل حقبة تاريخية وطريقة الوعي السائد، حتى ليكون السؤال الأهم حول ماذا كان يريد محمد علي باشا من التحديث، وبأي عقلية كانت تصدر آلية الأحكام والتمثلات، فالأمر هنا يتعلق بمحاولة اللحاق بالركب الذي بلغته أوروبا حيث القوة، التي جعلت منها تنساح في العالم، وأوروبا بدورها لم تبخل أن تقدم بعضاً مما تملك من خبراتها المادية وبالأثمان التي تحددها سلفاً.
السباحة في الفضاء
الانفصال الذي بقيت تعاني منه السلطة في الوطن العربي، جعل منها واقعة تحت إسار وهم القوة، الذي يأتي بين يديها لكنه سرعان ما يتبخر، فالسلطة الحاكمة لم تبخل يوماً في البحث عن المكامن المادية وعلى مختلف الأصعدة، لكن المدار الذي يتم فيه الاستخدام يبقى يعاني من التأزيم إلى حد الابتذال، حيث فقدان التأسيس الفكري الذي جعلت منه العدو الأوحد لها، ومن هنا كان الحرص الشديد على أهمية تحجيمه والعمل على تقويض تداوله.
حتى انعدمت مجالات المشاركة الى الحد الذي بات الأمر يتعلق بهذه الفردية المطلقة، التي تجعل من السلطة أداة ثابتة لاستغراق معالم القوة والنبذ لكل القوى، التي يمكن لها أن تساهم وتشارك في صنع مستقبل الأوطان، ومن هنا تحديداً يكون التطلع نحو ترسيم معالم النموذج الذي يؤكد على الطابع المحافظ، الذي ينظر إلى فعالية التغيير الفكري، وكأنه رجس من عمل الشيطان، وبدعة تقود إلى الضلالة، ومن هذا العسف الذي يفرد ظلاله على الواقع، تعرضت القدرة على مواجهة التحديات إلى الاحتباس والتوقف حتى كانت الإفرازات وقد تعالقت في صلب العقل العربي، الذي انغمس في الشكل على حساب المضمون، وبات دوره متعالقاً في هذه الرغبات المتعلقة بالأمنيات والأحلام والتحليق في الفضاء المثالي، من دون أن يكون لها القدرة الفاعلة والحقيقية، على ملامسة أرض الواقع.
لم يعدم الفكر العربي أن يتطلع إلى محاولة تجسير الهوة التي فرضت بحضورها على واقع العلاقات السائدة، حتى كانت المبادرات المتوجهة نحو درس المضامين والأسس المتعلقة بمختلف الشؤون والشجون بما فيها الاجتماعي والثقافي والديني، وقد قيض لمشروع النهضة الابتداء في محاولات استنهاض الواقع، عبر توسيع مجال التداول للعديد من القضايا والموضوعات التي تهم تفصيلات الحياة العربية، والمتعلقة بقضايا المرأة وتحريرها، حيث دعوات قاسم أمين وجميل الزهاوي، أو هدم محتوى الاستبداد الذي تعرض له عبدالرحمن الكواكبي والتعرض الواسع والشامل لمختلف المضامين، إلاّ أن نقطة التقاطع الأهم كانت تتوقف ملياً، عن طريقة التأويل والتفسير التي يقدمها الدين، هذا بحساب طريقة توجه القوى المهيمنة للإفادة منه، بأقصى ما تستطيع، حتى كان التشبث بالنصوص المجتزئة من أجل تدعيم السطوة وإدامة الحضور.
الخشية المفرطة
على الرغم من الجهود التي بذلتها حركة النهضة العربية، في ترصد المساوئ والمشاكل التي تحيط بالأمة، إلاّ أن المضامين الفاعلة في صلب العامل الاجتماعي بقيت تعاني من التهلهل والضعف المقيم، فقد بقيت الحركة تعاني من هذا الخوار وضعف المبادرة حول المسائل الأكثر حسماً في مجال التحلل من أوزار الضغوط وممارسات الهيمنة التي كانت تفرضها السلطة الحاكمة، بل ان مجال التوفيقية كان ينساح بإفراط واضح، حتى غدا يقيم على جدية التطلع نحو مسار إصلاح الأوضاع، حتى ان التيار الثوري اللاحق الذي تسيد مجال العلاقات، بات الأكثر تمسكاً بهذا الفارق الاصطلاحي الذي تقوم عليه دعوة الإصلاح، ليتم دمغها بالرجعية والتبعية والنقص الشديد، هذا بحساب أن الوطن العربي، بحاجة إلى ثورة عامة شاملة، تقوم باقتلاع جذور الانحطاط والعمل على تغيير الواقع بكل الإمكانات المتاحة، حتى كانت النتيجة، هذه الأحوال الكارثية، التي تجعل من المواطن العربي حقل تجارب تترى عليه المتغيرات من كل جانب، من دون أن يكون له أي حضور أو دور.
لم تكن النهضة في منأي من أعراض البدايات، وإذا كانت مساهماتها الواضحة في التأكيد على أهمية المطالب الوطنية وحفز الدعوة الى الاستقلال ورفض الوجود الاستعماري، إلاّ أن التفعيل الفكري بقي يعاني من هذا الاضطراب والارتباك المقيم، حيث الخشية من نقاط التصادم مع نقاط التشابك الكبرى، خصوصاً أن بديلها المعرفي ظل أسيراً لهذا المحتوى الذي يبدر عن هموم القوى الطالعة والناهضة، التي لم تستطع أن تمسك بخيوط الإدراك المعرفي الصميمي والفاعل، ولعل لحظة الارتعاد والخواف المضطرد التي عانى منها المثقف العربي، بازاء الأنماط والقيم السائدة على الصعيد الاجتماعي، جعلت منه يعيش هذه الخشية المفرطة من الجديد وروح المبادرة، التي تعني له الوقوع في هذا العزل والإقصاء من قبل المجتمع، خصوصاً في ظل هيمنة القوى المحافظة، التي تعمد إلى إذكاء نار العداء بازاء الجديد ومجالات التغيير، هذا بحساب الخشية على المصالح والامتيازات الثابتة، وإذا ما كانت الملاحظات تترى حول النقص الذي اعترى فكر النهضة حول أهمية وقيمة بعض الفواصل الفكرية، في سبيل إدراك سبل التقدم والتغيير، فإن الواقع كان يكشف عن تفصيلات عميقة الأثر في إبراز مثل هذه الفواصل، لأسباب تتعلق بطبيعة المعنى الاجتماعي المتداول.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved