Friday 18th april,2003 11159العدد الجمعة 16 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قصة قصيرة قصة قصيرة
المطر المسافر
شموع محمد الزويهري

أطلقت ساقيها للرياح تخطو بسرعة رهيبة.. نظراتها مشتتة والقلق يتفنن يرسم خطوطه عبر قسماتها المرهقة تترقب هذا الكم الهائل لعله يقل ولكن!!
لم تستطع الانتظار.. حاولت خوض المعركة مع المجاهدات بما تبقى لهن من آمال كانت في يوم ما ترفرف عبر أحلامهن الوردية.. دست جسدها الهزيل عبر الزحام حتى تسنى لها أن تلتحم الأكتاف بعضها ببعض محاولة الوصول إلى القاعة الكبرى، فهناك آخر خيط يمكن الإمساك به..
ما هي إلا لحظات حتى اطل وجه مرهق يهتف دراسات إسلامية..؟!
وارتفعت الملفات الخضراء العتيقة تتزاحم للوصول إلى عنق القنينة ويبدأ الصراخ وطلب الإغاثة...
صوت من الخلف نحن صائمون ارحمونا
وآخر.. أنفاسنا تتقطع؟!
كانت عبر الأمواج ساعة تصل إلى الباب وأخرى تتراجع حسب قوة الدفع الهائلة التي تتلقاها من الخلف.
هناك ظل بالقريب البعيد من تلك المشاهد محاولة ترجمة ما يجول بداخل كل واحدة تجاهد لنيل هذا الشرف.. فمن يدري لعل هذا الحماس وهذه الهمة تنتج إبداعاً أو تنظم أسرة.. من يدري!!
لفت انتباهها صوت قادم إنها لواحدة بيدها الملف والأخرى طفل ووراءها صوت بكاء لم يكن غير للطفل الآخر الذي أزعجه هذا الجو وهذه الوجوه!!
كانت تجاهد بأطفالها حتى اقتربت منها عاملة آسيوية سلمتها الطفل الأول وأمسكت بالآخر وغمست نفسها عبر هذا الموج!!
اطل الوجه المرهق من جديد.. عربي.. عربي تشابكت الأيدي بالملفات في قتال وتم هضم جزء منها داخل تلك القاعة.
تقدمت تلك الأم المجاهدة ولكن هناك ما يشغلها.. يقلقها انه صوت طفلها وهو يستنجد «ماما أنا خائف»!!
كان منها التفاتة نحو مصدر صوته وأخرى نحو عنق الزجاجة..
صرخت ملبية نداءه وانسلت من تلك الأمواج.. احتضنته.. وقبلته وانصرفت.
تلك أخرى كانت تسير يتلبسها الارتباك تطبق بيديها الاثنتين على الملف في فزع.. اقتربت منها وبكلمات بعثت بأوصالها الدفء..
شعرت بالارتياح وهي تحاول التعبير أمام من استوقفتها عن مدى الاطمئنان لها والإحساس بأنها تريد أن تحكي لها كل ما مر بحياتها من ظلم وإجحاف.. فقالت تزوجته ورضيت بالحياة معه ومع أسرته المتواضعة مراعاة لظروفه الصعبة..
كنت صغيرة ومرحة ومتفوقة وأتي من يطلب بدي من طرف قريب لي له محاباة عند أبي فوافق دون علمي..
لم أكن أعي أي شيء مما يدور حولي من أحداث واقتنعت بكلام زوجة أبي وهي تصف لي حجم السعادة التي سأحياها بجانبه ووالدته وأخواته..
وتم كل شيء ومضت الإجازة وسط انبهاري بأجواء الأسرة الجديدة وكلمات المديح التي تتسرب عبر أذني منه ووالدته، ولكن لم يدم الحال على ما هو عليه حيث تغير كل شيء بمجرد أن طلبت منه أن يوفر لي مستلزمات الدراسة فلقد تبقى أسبوعان.
كان القرار الذي اجتمعوا لأجله هو محاولة الحؤول بيني وبين صفوف الدراسة التي تعلقت بها منذ الصغر وكانت ملاذي الوحيد بعد الله وتم لهم ذلك حيث أحسست بحركة غريبة افزعتني وأدخلت الرعب في قلبي فما هذا؟
كان الجميع فرحاً.. أنا ذات الرابعة عشرة الطفلة البريئة انتظر طفلاً يبكي ويضحك، بل ويحبو ويناديني بماما!؟
أفقت من المخدر وكأنني بطوفان فظيع أرى الممرضات حولي يبتسمن في تعجب من هذه الأم الصغيرة، وزادت دهشتي عندما أقبلت إحداهن تحمل طفلي وهو يبكي لقد أصبحت بحالة هلع وألم شديد على بطني الذي ما زال منتفخاً وحوله ربطات وشاش كثير وقطرات حمراء كانت لدم تسربت عبر الجرح..!!
لقد بكيت بحرقة.. تمنيت أن تأتي أمي من عالم المجهول الذي رحلت إليه منذ زمن لأغرس رأسي الساخن في صدرها وأتنفس عبق عطرها الحنون وبكيت وبكى من حولي من الواقفات وأبعدن طفلي عني!
وتمر الأيام وأحاول التأقلم مع وضعي بعد أن رفضت زوجة أبي استقبالي في منزل أبي بعد رحيله وجلست فترة تعبي تحت رحمة والدة زوجي وسيطرتها.. تذوقت مرارة الوضع بصمت وتكررت ولاداتي بنفس الموال.. حتى صار عندي حصيلة من الطفولات وتحطمت آمالي فجمعت أحلامي وطموحاتي وأطبقت عليها في صندوق عتيق.
وأتى يوم كان الفاصل السعيد بحياتي وخرجت ونثرت ضفائري من جديد بفرح طفولي وتوجهت لصندوق أمالي حيث أشرقت أمام ناظري الشمس من جديد. دب الحماس بأوصالي فبكيت أمامه ورجوته للسماح لي بمواصلة ما تبقى لي من مراحل ووافق بعد جهاد على مضض بشرط أن يكون سراً بيني وبينه وألا يصل لوالدته واخواته..
ووافقت وتم استقبال أوراقي وأتممت ما تبقى لي والآن لي هذه الأمنية بعدما تراقصت أحرفي عبر «الجزيرة» وكان لي شرف أشراقها عبر صفحاتها كنت كمن حصلت على دنيا جديدة وعالم مليء بالأمان حتى تبلسني نوع من الفخر فدنوت من مرفأ ذكرياتي ووجدت زورقي ولو أنه متصدع بعض الشيء إلا أنه استطاع حملي. وها أنا استقله عبر أمواج البحر الهائج وقطرات المطر المسافرة التي تتساقط على رأسي المحموم فتغسل آثار دموعي وتسقي قلبي لتنجلي همومي وانظر عبر الغروب بانتظار إشراقته من جديد.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved