Friday 18th april,2003 11159العدد الجمعة 16 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

فصول من تاريخ بغداد فصول من تاريخ بغداد
د. موسى بن عيسى العويس / إدارة تعليم منطقة الرياض

إذا كان المؤرخون يعدون الأدب والشعر منه بوجه خاص مصدراً من المصادر التي يتكئون عليها في تدوين التاريخ، مستأنسين في فرائده وخرائده، فإن أروع ماجاد به التاريخ «دالية» الشاوي في «بغداد» التي أحيتها في ذاكرتي بداية وليست نهاية فصول حرب الخليج الثالثة.
وكم هي جميلة تلك اللحظات التي يخلو بها الإنسان مع نفسه، أو في كهوف تاريخ أمته، حينما تشتد عليه وطأة الأحداث، فيجد في أعطاف التاريخ وزواياه ملاذاً آمناً يسري فيه عن نفسه أمام واقع نكد، ومستقبل يلفه الغموض .
وأحسب أن مشاركة الإنسان مهما كانت تديل عنه تهمة الانهزام أو الخذلان، يقول الشاوي: ألم تر أن الأرض تشقى وتسعد وتصلح طوراً بالولاة وتفسد وتحيا كما تحيا الرجال ذليلة مراراً، وأحيانا تعز وتنجد وكم قد رأينا من بلاد مريضة شفاها بترياق التدابير أصيد ومن قطر صقعٍ صحّ من بعد علة فأمرضه والٍ من الجور أنكد وحسبك في ميدان «بغداد» عبرة وشاهد عدل بالذي قلت يشهد فكم قد تشكى واستغاث فلم يغث ونادى فلم ينجده إذ ذاك منجد أمجاد تليدة، وأيام زاهية، وعصور ذهبية في التاريخ، تلتها عثرات ونكبات ونكسات، ندفن رؤوسنا في التراب عنها أحيانا خجلا من المساءلة أمام الأمم، ولكن بين هذه وتلك مسافات من الزمن محت مامحت من آثار ورسوم،وأبقت ما أبقت من ذكريات وطيوف، يختزلها لنا التاريخ ساعة نلجأ إليه للتخفيف من حدة الانفعال، ربما لا تعدو كونها عواطف عند البعض في ظل تعاقب الأجيال ، ومع ذلك فهي أحداث وإن طويت سجلاتها يظل التفاعل معها على أ ي صورة شاهد لنا أوعلينا .
في عصور خوال اقترنت بغداد باسم «الرشيد»، فلا تكاد تذكر إلا ويذكر مقروناً بعصرها الذهبي، إذ أكسبها حلة من المجد لم تبليها الأيام والليالي على الرغم من الصروف التي تعاقبت عليها، والمحن التي ألمت بها، والنوازل التي حاقت بها، ولم يمر على بغداد منذ تأسيسها إلى عصرنا الحاضرأبهى وأنضر من سني حكمه، فقد وليها وهو في سن الشباب، سن الحيوية الدافقة، والفتوة المتوثبة، والتربية الناضجة، فأكسبها ذلك الصيت البعيد، والقدر العتيد، الذي رسم لها وللحواضر الأخرى طريق الحضارة، ومهد لها ولغيرها سبل السعادة، فعاشت حواضر العرب والإسلام حيثما كانت في بحبوحة من الرفاهية والعز، وميدان للفخر والسؤدد، لاتكاد تذكرها الأجيال اللاحقة، وتنبش تاريخها حتى يستعر في صدورهم الشوق إليها، مجترين أعذب لياليها وأيامها على نحو من قول الشاعر: أين الرشيد، وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداد تحداه ماض تعيش على أنقاضه امم وتستمد القوى من وحي ذكراه الله يعلم ماقلبت سيرته يوماً وأخطأ دمع العين مجراه
لقد عكس ذلك العيش الرغيد الذي نعمت به بغداد إبان العصر الرشيدي، والمكانة الفريدة لحاضرة العراق ما أورده أحد المؤرخين بقوله: «إن من مناقبها التي أفردها الله بها دون سائر الدنيا الاغتباط بكثرة العلماء والمتعلمين، والفقهاء والمتفقهين.... ومجيدي الشعراء، ورواة الأخبار والأنساب وفنون الآداب، وحضور كل طرفة، واجتماع ثمار الأزمنة في زمن واحد، لايوجد ذلك في بلد من بلاد الدنيا إلابها، لاسيما زمن الخريف .
ثم إن ضاق مسكن بساكن وجد خيراً منه وإن لاح له مكان أحب إليه من مكانه، لم يتعذر عليه النقلة إليه.... ومتى هرب أحد من خصمه وجد من يستره في قرب أو بعد». وقد قيل: «الأرض كلها بادية، وبغداد حضرتها».
- تلك هي فترة من فترات تاريخ «بغداد» المجيد، و لكن شاء الله أن تأفل شمس ذلك المجد، تبعاً للسنن الإلهية الماضية التي قضت بتداول الدول والأيام بين الناس، لأسباب متواترة، وعاها من وعي، وجهلها من جهل. تتوالى النكبات، نكبة فتنة، ونكبة غزو، ونكبة غرق، ويبقى الاسم متحدياً النوازل، فإذا النكبة الأولى تطل على بغداد إثر خلاف نشب بين الأخوين: الأمين، والمأمون، فأنذرت الأمة بحرب عوان، لقي الناس من ورائها شراً مستطيرا، حيث أصبحت «دار السلام» مسرحاً للقتل والنهب والتدمير، فدرست المنازل، ووحشت الطرقات، فأصيب الناس بنقص بالأموال والأنفس والثمرات، وارتفعت الأصوات متفجعة ومتوجعة لما آلت إليه الأحوال، بعد أن طويت صحائف البطولات والأمجاد. وقد صور الشعرذلك الواقع أدق تصوير: ووالدة تبكي بحزن على ابنها فيبكي لها من رحمة كل ظائر وذات حليل أصبحت وهي أيم وتبكي عليه بالدموع البوادر تقول له: قد كنت عزاً وناصراً فغيب عني اليوم عزي وناصري وأبك لإحراقٍ وهدم منازل وقتل وإنهاب اللهى الذخائر وإبراز ربات الخدور حواسراً خرجن بلاخمرٍِ ولابمآزر تراها حيارى ليس تعرف مذهبا ً نوافر أمثال الظباء النوافر كأن لم تكن «بغداد» أحسن منظراً وملهىً رأته عين لاهٍ وناظر.
- وقد أرجع المؤرخون أسباب النكبة إلى تجاهل «الرشيد» بما حصل في التاريخ الأموي، حيث جرت ولاية العهد عليهم الفتن والانقسامات التي ألقت البأس بينهم، فاهتبل الأعداء الفرصة، ووسعوا دائرة الخلاف بين الأطراف، فنشب الصراع، وساء الأمة ماسرها من أزمان .
- أما النكبة الكبرى، والمصيبة العظمى التي دمرتها وقضت على مظاهر حضارتها وحولتها إلى ركام وخرائب، ومزقتها كل ممزق، على صورة لانجد لها مثيلاً إلا في هذا العصر فقد كانت على يد «هولاكو» في القرن السابع الهجري، تلك النكبة التي لم يصب الإسلام بمثلها، ولايزال جرحها راعفاً في جسد الأمة، وسيبقى أثرها عميقاً، تتناقله الأجيال جيلاً بعد آخر، حينما تنكأ جراحهم جراحهم بمثله، ويعيد التاريخ كرته.
حينها يتذكرون ذلك الحصار الذي استمر خمسين يوماً حتى استسلمت مدينة «السلام» لجند «هولاكو»، فراحوا كما يقول التاريخ: «ينهبون ويقتلون، ويخربون ويسبون الحرائر والصبيان، يسوقون قطيعهم ليبيعوهم في سوق النخاسة في طريق عودتهم»، هذا المشهد المهين صوره الشيرازي بقوله: لعمرك لوعاينت ليلة نفرهم كأن العذارى في الدجى شهبٌ تسري كأن صباح الأسر يوم قيامةٍ على أمم شعث تساق إلى الحشر يساقون سوق المعز في كبد الفلا غرائر قوم لم يرّوعن بالزجر جلبن سبايا سافرات وجوهها كواعب لم يبرزن من حلك الحذر.
من طرائف التاريخ وغرائب المنجمين:
* حاصر «هولاكو» بغداد، واستباح أهلها قتلاً ونهباً وتعذيبا يوم الاثنين الخامس من شهر صفر .
* حاصرت القوات الأمريكية بغداد وأحكمت السيطرة عليها يوم الا ثنين الخامس من شهر صفر.
* ومن عجيب مانقله «ياقوت الحموي» ماذكره أبو سهل بن نوبخت، قال: أمرني «المنصور» لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع، فخبرته بما تدل النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها .... ثم قلت وأخبرك خطة أخرى أسرك بها يا أمير المؤمنين . قال: وما هي؟ قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لايموت بها خليفة حتف أنفه.
* ومن أعجب العجب أن «المنصور» مات وهو حاج، و«المهدي» بسابذان، و«الهادي» بعيسباذ، و«الرشيد» بطوس، «والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر» بسامراء.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved