Thursday 24th april,2003 11165العدد الخميس 22 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

عذراً.. زحل لا يشهد للطغاة عذراً.. زحل لا يشهد للطغاة
عبدالله بن ثاني*

كنتم ممن تابع الخطاب الذي ألقاه الرئيس المخلوع صدام بعد بدء غارات القوات المتحالفة في معركة التحرير أو الاحتلال أو التطبيع.. سمها ما شئت.
المهم وقفت كثيراً أتأمل البيت الذي استشهد به في خطابه وهو:


أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل
أسرج لها الخيل وليشهد لها زحل

فقلت لنفسي هل يدرك أن زحل أعلى الكواكب الخنس التي أقسم بها الله جل وعلا في قوله:{فّلا أٍقًسٌمٍ بٌالًخٍنَّسٌ الجّوّارٌ الكٍنَّسٌ } وأنه كوكب لا ينفض وتعلوه صفرة المحموم حزناً على أهل الأرض، يشهد للعشاق الذين تعذر عليهم اللقاء، ويهدي المسافرين في ليالي الصحراء ويسامر الغرباء، ولا يمكن أن يكون شاهداً للطغاة يوماً ما، المحترفين في الجنون، يشهد فقط أن صدام كان قاسياً ولم يكن عادلاً مع نفسه ومع شعبه ذات يوم وأنه سقط في براثن عظمته وأسقط معه العراق في هذا المستنقع الذي يصعب معه الهروب والتسلق والاختفاء، ويؤكد ذلك الكوكب أيضاً أن الرفيق مجنون وأن العلوج لم ينتحروا على أسوار بغداد ولم تكن محرقة إلا لأهلها، ورفاقه، ربما لأنها مدينة مفتوحة بلا أسوار أمام الغزاة الذين يحملون معهم قوة تتجاوز كل الأسوار وصواريخ عابرة القارات وآلات تتسلق ودبابات تزحف وتقصف وتدمر بعمق، فالزمن ليس للمنجنيق القديم والسيف المغمد والخيل التي تجري في مضمارها حول الخنوع، وإلا من يفسر لي أن عدد القتلى في حرب كهذه يسقط فيها النظام وتسقط فيها بغداد لا يتجاوز «126» قتيلاً في حين لو أن اشتباكاً قبلياً حدث في ذلك البلد الساقط لأدى إلى قتلى أكثر من ذلك الرقم أضعافاً مضاعفة.
وهذا مما لم تدركه القيادة البعثية فجاء الشعر مرذولاً ومنحولاً يجهل النشيد الخالد والرسالة الخالدة، ولا يعرف في أكاديميته الشوهاء إلا تدخين نصوص التراث وقص أظافرها حتى جذوز الأصابع ونتف الشوارب ولا يفهم أسرار النفس العربية في تعظيمها للشعر والكواكب وبخاصة في مثل هذه المواقف وليته تذكر أيضاً في ذلك الخطاب قول ابن زريق البغدادي:


أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته
كذاك من لا يسوس الملك يخلعه

شاهداً على نفسه أنه لا يختلف عن أولئك الذين يفهمون السياسة بأنها مجرد غمس في الدم تمارس على طريقة أشبه بالميكافيلية والذرائعية التي لا تفرق بين الدم والنفط وبين لحم البشر ولحم البقر، فقط الغاية عندها تبرر الوسيلة ولو كان الانسان مسروقاً ومسحوقاً ومنفياً حتى النخاع والدكتاتور تتهاوى تماثيله وأصنامه واحداً تلو الآخر وهو يختصر العراق العظيم كله في شخص ساوى بين الطاغية والتراب المملوء به وكأنه يريد أن يذكر كل انسان بحضوره الثقيل حتى اننا لم نر شعباً مثل شعبه تجتاحه الفوضى بعد الهزيمة ولم يكن ذلك مدهشاً عندما انتقم الناس بضربه بالأحذية والنعال ولم يدركوا أنهم يعاقبوا حجراً جماداً ويقتصوا من رخام مطلي بالزنك والحديد، ولكن المدهش حقاً ذلك الشاب العراقي الذي يبكي بمرارة ويصرخ أن الطاغية مجنون وسيعود ونحن خائفون أن تتركنا قوات التحالف للانتقام كما فعلت عام 1991م
لقد أدركت أن ذلك أقسى درجات الخوف والطغيان مما ذكرني بقصة قرأتها في الكامل للمبرد إذ يذكر أن الجحاف بن حكيم دخل على عبدالملك والأخطل عنده فلما بصر به الأخطل قال:


ألا أبلغ الجحاف هل هو ثائر
بقتلى أصيبت من سليم وعامر

فرد الجحاف:


بلى سوف نبكيهم بكل مهند
ونبكي عميراً بالرماح الخواطر

ثم قال يا ابن النصرانية ما ظننتك تجترئ عليّ بمثل هذا ولو كنت مأسوراً لك فعُمَّ الأخطل خوفاً فقال له عبدالملك أنا جارك منه فقال يا أمير المؤمنين هبك أجرتني منه في اليقظة، فمن يجيرني منه في اليوم.
فأي حرية لوطن تبدو دهاليز سجن الباستيل حياله ألعاب هواة وممرات من رخام على يد موظفين يحملون سلماً وظيفياً تحت ما يسمى الشعبة الخامسة ذات درجات لا تكون أكثر من مغتصب أو مغتصب ثانٍ ووكيل صعقات كهربائية ورئيس إحراق الأعضاء ولا يعرف أن الجزاء من جنس العمل عندما غزا الكويت وأي عقل صغير لا يتذكر قصة القائد الروماني المعروف ستيبيو عندما غزا قرطاج وكان قد أنذر أهلها لتركها له حاضرة بهجتها وحضارتها ولم يجيبوا وقرروا المقاومة ليعفوا من عار الهزيمة في التاريخ وحاصرت قوات روما قرطاج بجنودها وعرباتها وسلاحها واشتد القتال حتى بلغ أن الجندي يسقط بجانب الآخر فلا يستطيع أحدهما أن يحمل على عدوه من شدة التعب والاعياء وانتصر في النهاية في الرومان على القرطاجيين وأثناء الاحتفالات بذلك الانتصار سأل أحدهم القائد الثمل: أيها القائد هل يعيد التاريخ نفسه برأيك؟ قال لا أدري لكني خائف، فسأله مما تخاف قال أخاف أن يأتي يوماً من الأيام قائد فيعطي قرار تدمير وطني فيفعلوا مثلما فعلت بقرطاج.
نعم إن التاريخ يعيد نفسه ولكن بتدمير العراق هذه المرة في شكل مهزلة أدركها أحد مفكري الماركسية الذي قال: إن التاريخ يعيد نفسه لكن في حالين مختلفين، إما أن يعيد نفسه في شكل تراجيديا، وإما أن يعيد نفسه في شكل مهزلة.
أتدرون لماذا لأنه لا وجود لوطن حر إلا بالمواطنين الأحرار كما قال فولتير الذي لم يكن يتوقع عندما قال ذلك أن يتعذر على أحد ما إحصاء ما فعله الطغاة الاستبداديون البعثيون بالعراق وأهله طيلة ثلاثين سنة وختموها بفرض وصاية دولية على بلد الحضارات والسلام قبل هروبهم واختفائهم بل أكدوا عليه مسألة العبودية ولكن بطريقة أقل قساوة وأكثر اشراقاً ورحمة ولا أجد في هذه اللحظات إلا قول عبدالله القصيمي في كتابه عاشق لعار التاريخ عندما تحدث عن الثورة والثوار الذين انتشروا في العقود السابقة: إن الثورة تعني أن عهداً فيه منافذ واحتمالات للتسامح والضعف وبعض الحرية وبعض فرص الإفلات من البطش والانتقام قد زال ليجيء مكانه عهد مغلق فيه كل الرغبة في الانتقام وكل القدوة على القمع والضرب والانتصار، وعلى التباهي بالجنون وبالقسوة وبصلب كل الحريات تحت أعلى الشعارات دوياً.
إن معنى الثورة أن يذهب من يجرح ليأتي من يقتل، أن يذهب من يضرب بإحدى يديه ليأتي من يضرب بكلتا يديه، أن يذهب من يمنعك أن تنتقد ليأتي من يمنعك أن ترى.
الثوار دائماً يتحدثون عن نقيض ما يعطون، إنهم يتحدثون عن الحرية والاستقامة وهم أقوى أعدائهما وعن الصدق وليس في البشر من يعاقبون الصادق، ومن يمارسون الكذب، ويجزون الكاذب مثلهم وعن حقارة النفاق وهم أحسن من يزرعونه ويستثمرونه ويتعاملون عليه وعن الرخاء مع أنهم من يبتدعون جميع أسباب الإفقار والأزمات والحرمان وعن التقدمية وهم أعتق البشر رجعية، إنهم لا مثيل لهم في الخوف من التغيير الذي لا يهابهم تسلطاً وطغياناً ويتحدثون عن العدل والحب وهم يعنون بهما تخويف كل الطبقات وتسخيرها وقهرها وسحقها لمصلحة كبريائهم وأحلامهم».
ويدل على ذلك هؤلاء الجائعون المشردون المنفيون الذين سحقهم النظام المستبد وطريقته الفجة في السياسة التي لم يفهم منها شيئاً إلا البطش والتوسع والحرب القذرة ويدفع شعبه إليها ثم يهرب أو يحرق أو يحترق في صورة نيرونية تؤمن بحرق المدن على أهلها المعذبين والسائحين في الأرض هروباً من الوطن وأكثر أحلامهم شغفاً أن ينضموا في طوابير أمام دور الهجرة والجنسيات في الدول الأخرى طارئين على المجتمعات أو الحصول على خيمة تنصب على حدود بلادهم في أكثر الصور إيلاماً عندما تطلق عليهم وكالات الأنباء باسم اللاجئين وهم يرون وطنهم خلف هذا الشريط الترابي المتفاعل مع قساوة الطقس والمنقذين.
إن الثوار أثبتوا أنهم لصوص وقتلة وتجار قد أخفوا سحنتهم وملامحهم الكريهة تحت قناع ليس له من الجوار والمبادئ إلا اسم الرفاق مثلهم الأعلى استالين وموسوليني وهتلر الذي استعاروا تحيته النازية.
وحدهم يفهمون الوطنية بالمقلوب ولا تكون إلا على طريقتهم العنيفة في جلب الشقاء للإنسان بعد نفيه والمذلة للتراب بغباء حيواني لا يدرك أن هناك من هو أقوى منهم ومن هو أعتى منهم ومن هو أظلم منهم.
إنهم مصنوعون في الغرب على طريقة ساداتهم ويحاربون حضارته بشعاراته وأسلحته ونظمه وكأنهم أبناء ساديون تمردوا على آبائهم فلا بد من زوالهم على الطريقة التي رأيناها على الهواء مباشرة، إنهم غادرون وخائنون وسارقون لا يستطيعون صنع الحرية والرسالة الخالدة وهم خصومها وطحالبها المتعفنة بالجوع والظمأ إلى الدماء، إلى الضحايا إلى النفي إلى الهجاء الساقط والتلاسن البذيء الشاهد على العار والجنون والتحقير للإنسان بالاستعراض والزيف، يتهمون الناس بالإمبريالية وهم الامبرياليون، وبالارتزاق وهم المرتزقة وبالخيانة وهم الخونة وبالجبن وهم الجبناء..
والله من وراء القصد

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved