Thursday 24th april,2003 11165العدد الخميس 22 ,صفر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

نوافذ نوافذ
الأرقام
أميمة الخميس

لا يوجد من أمر يمتهن البشر، ويقلص إنسانيتهم، ويحد من أبعادهم المتعددة.. كلغة «الأرقام».
ولاسيما أرقام الحروب، أرقام فجة باردة قاسية، عندما يقولون مثلاً ألف قتيل، هكذا يتقلص العالم ويتحول إلى رقعة شطرنج، مات الجندي لكن بقيت القلعة والوزير، والجندي يستلقي باستسلام لسكون الموت خارج الرقعة وبداخل خوذته ما برحت أحلامه رطبة حارة وبخار شوقه إلى أهله ومائدة عائلته يرطب أطرافه، يرتمي الجندي خارج الرقعة رقما بعد أن التهمته الفكرة.
الرقام هو أبشع ألوان التجرد والبرود، ذلك الجندي الذي انضوى تحت رقم في كشوفات الخسائر خبرا مبهما يتداوله الإعلام، كان يمتلك في جيبه خريطة تغاير تلك الخريطة المتوحشة التي يستعملها القائد، خريطته كانت تحوي درب العودة إلى المنزل وعناق الأحبة، ودفء الغرف العائلية عندما يهطل المساء.
خريطته تحوي قلب أم يرتعد بترقبه وترقب كل طرقة باب، وخريطته تحوي ذاكرته الأولى حيث يومه المدرسي الأول، وحذاؤه الذي ابتاعه بفخر للمدرسة، ومقعده عندما أصبح في سنته السادسة، خريطته تحوي لواعج الصبا الأولى، وحريق الشباب الذي التهمته محرقة الحرب، دفتر خواطره، ومجموعة المجلات التي يخبئها تحت سريره.
الحرب هي أبشع أقدار البشرية، الحرب هي عتمة الوقت، وعالم مرعب يفغر فاه كلحد.
لا تتبجح الأرقام وتفرض شروطها القارصة كما تفعل وقت الحروب، وما هنالك اليوم في نشرة الأخبار «ألف جندي اليوم، وعدد من الدبابات، وبعض من الطائرات» تلك الدبابات التي اختلست أموالها من فوق الموائد، من صحون الأطفال، من حليب الرضع، من أقلام الفتيات ودفاترهن، من مدارس صحية ولائقة، ومستشفيات تحاول أن تكون إنسانية، تحتوي أسرة نظيفة من انطفاء الجثث، وبقايا الاحتضار، لغة الأرقام.. ياللتوحش والامتهان الذي يقود الجندي خارج الرقعة في سبيل فكرة، قد يتنازل عنها القائد آخر لحظة أو قد يعتذر عنها لاحقاً عندما يرضي شيطان الحرب!
كذلك الاعتذار الذي تلقاه العالم الإسلامي نتيجة للحروب الصليبية، أو الاعتذار الذي قدمه الأمريكيون لضحايا فيتنام، أو الصفعة القارصة التي ألهبت أصداغ الشارع العربي الذي كان يخرج يصيح بالشوارع دعوة للحرب والنضال، وجعل من صدام حسين بطلاً عروبياً، راحت من أجله ملايين البشر، وفي النهاية يفر كأي رجل عصابات وضيع، عندما حوصر وذهب إلى منفى غامض، وترك الفكرة متخمة بملايين الأجساد واللوعات والمصائب والخراب.. والأرقام.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved