Friday 2nd may,2003 11173العدد الجمعة 1 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قصة قصيرة قصة قصيرة
الجحود
شموع محمد الزويهري

كان المنزل يعج بالمعزين..
جاهدت بثقل حتى استطاعت أن تقف بصعوبة..
خطت خطوات قسقطت وهي ترى ابنها البكر يحاول فك اشتباك بين أخوته!!
جرى نحوها وساعدها على النهوض حتى توجهت إلى غرفتها وتوضأت متجهة إلى سجادتها فلا تزال كليمات شقيقتها ترن بأذنها:
عند أي هم اتجهي للصلاة.. ارفعي يديك إلى الله.. «يا رب».
حتما ستجدين الحل.. ستفرج قريباً..
وإن لم يكن فستشعرين براحة القلب وسكون النفس.. بل الابحار بلطف الله ورحمته التي شملت عباده أجمعين..
صلت حتى تراخى جسدها وأطلقت لنظرها العنان صوب لا شيء في الوجود.. وطافت.. تعمقت.. رحلت إلى الماضي في حياتها..
نعم لقد كن «يحبني» لا أنكر ذلك.. كان أسير جمالي بل كان لا يستطيع البعد عني لحظة واحدة..
وزاد فرحة عندما بدأت ثمرة هذا الحب تتحرك بأحشائي.. لقد اشترى له سريراً قبل وصوله بأربعة أشهر وكان لا يرى جميلاً يخص مولود حتى يقتنيه..
حتى حان موعد الولادة وكم تفهمت الدنيا بعينه عندما أخبره الطبيب بأن هناك خطراً ما ربما أتعرض له والوليد، لكن رحمة الله واسعة حيث ملأ صراخ «فهد» الغرفة ونزل يشق طريقه المليء بالأفراح.
ولم يهدأ له بال حتى دخل عليّ وقبّل يديّ حامداً الله على سلامتي أولاً وسلامة طفلنا.
وكبر «فهد» وتبعه اخوانه وأخواته وكبر منزلنا.. كان لا يبخل عليّ أو عليهم بشيء فكل غال هو لنا حتى أصبحنا مضرب مثل لكل من حولنا.
ويدور الزمن!!
وتمضي بنا السنوات بين أتراح وأفراح وهذه حال الدنيا..
وفي يوم ما لن أنساه ما حييت تبدلت حاله، فقد بدأ السهر وهو الذي يغضب إن حاول أحد منا ذلك، وشيئاً، فشيئاً دبت الخلافات بيننا فهو لا يستقر.. كل يوم في سفرة بحجج واهية، وكم أحزنني، وكان همه على قلبي كثقل الجبل عندما راقبته فوجدته يجمع صلواته وأحياناً لا يصليها بحجة «عفا الله عما سلف»؟؟؟
وأنا أشعر بأن في قلبي وكبدي ناراً تلظى.
قال لي يوما: سأقترن بأخرى؟! فضجت مشاعري الملتاعة وتلبسني الضياع والكدر حتى لا مسني ما يشعر به مريض العضال عندما يخبره الطبيب بأنه مضطر لاستئصال كبده.
وبكيت وهو يداعبني بقوله هل صدقت ذلك؟!!
وتدور الأيام وأنا أرجوه بالأ يسافر السفرة الأخيرة لأن قلبي يصرخ.. يقول له: لا لا تفعل..
لكنه قال إنها صفقة.. ليته سمع حديث قلبي.. ليته..
وصباح فجر حزين رن جرس الهاتف ليخبرنا بالنبأ الذي زلزل أحشائي وأصاب أولاده بحالة من الذهول.
لقد كان واضحاً ما ألمسه منه بالأشهر الماضية من عدم اهتمامه بي وبأطفاله وضجره منا.. ولكن!!
كنت أهيئ الأسباب المقنعة لأولاده ولو أنني أعرف بأنها ليس كذلك.
والآن.. الآن انتهى وفي قلبي صفحة حب بيضاء له.. الآن يجب أن أدعو الله له بالرحمة وأن يغفر له ما جناه في حياته..
فهذه الأيام كأنها سبحة عابد أجدها تمضي حبة.. حبة وأنا أتقلب بين الخوف على ما بيدي من أمانة وبين القلق عليه وقد ضمه التراب بما جناه إن خيراً فخير وإن ..؟
أبكي لحالي أوقاتاً كثيرة عندما أجد أنني فقدته وفقدت اهتمامه بي وعطفه عليّ وعلى أولاده!!
وكيف وصل حاله إلى هذا الشتات.
نسائم الصباح البارد تؤرقني وصرخة الحنين إليه وإلى صباحه الباسم المشرق.. لحظات ذهابي بجانبه نحو البحر الذي أحببناه معاً..
كانت قطرات المطر المتساقطة على رؤوسنا بمثابة عرس جميل تشهد عليه تتابع الموجات وقد زينتها تلك الرشقات.
واليوم عندما أعيش لحظات خيالي المنطلق عبر حزني الدفين وذكرياتي الخالدة معه محاولة تخطي أوجاعها أجد شبح «سره» يهجر على فؤادي ويغرس أنيابه ومخالبه كي تتلاشى ذكراه ولكن لا.. فهل يستطيع الدم أن يسير بلا شريان؟!!
هل تجرؤ الأنفاس أن تنطلق عبر الماء؟!!
لم يتبق غير أيام ويكمل رحيله الشهر الرابع.
سأدعو له.. سأبني له مسجداً..
تك.. تك..
صوت الباب أيقظها.. قطع عليها ما بقلبها من هموم واصرار وعزيمة!
مَنْ..؟؟؟
نورة تعالي يا ابنتي ماذا بك..
هناك سيدة تريد محادثتك؟
هللت وجمعت لباسها حول صدرها ويديها وخرجت..
كانت «الثانية والثلاثين» أو يزيد قليلاً بيضاء.. شقراء قد وجدت الأصباغ طريقها نحو خصلات شعرها.
سلمت وجلست تحضن طفلة لم تتم عامها الأول تململت فترة ثم فجرت الموقف!
قالت: بصراحة أنا زوجة أبو فهد وهذه ابنته وقد كنت معه أثناء سفرته الأخيرة وقد عرفت بأن الصفقة تمت وأنا الآن لا أريد غير حقي الشرعي فلن أبقى زوجته بالسر كما كان الوضع في حياته، وهذه الطفلة ابنته أتيت لتستلميها لأن الطريق أمامي ولن أدفن نفسي بتربيتها؟؟؟
انتصبت «هيا» واقفة حتى أحست بأن هناك بالداخل صوت ارتطام عبث بمشاعرها وأحاسيسها وحتى حواسها فأوقفها.. فلم تعد تسمع لدقائق ولا ترى أمامها غير وشاح أبيض كأنه غيمة شتائية قارصة حالت بينها وبين الوجود.
أطلقت زفرة تلاها بضع قطرات مرة وهي تحمل أوجاع تسربلت عبر أوصالها المنهكة لم تستطع الكلام.. حتى البكاء تحجر بحلقها فكانت تشعر بمن يضع حول رقبتها حبل متين ويضغط عليها!!!
التفتت نحو ابنتها وهي تشير إليها: اخوتك.. اخوتك!!
ودخلت في غيبوبة سرمدية لا تعرف إلى أين.. ولماذا.. وكيف حصل هذا الجحود!!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved