Saturday 31th may,2003 11202العدد السبت 30 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

سيرة عطرة لراحل عزيز سيرة عطرة لراحل عزيز
أ.د. عبدالكريم الأسعد

عرفته قبل خمسين عاماً بالتمام والكمال، كان آنذاك مساعداً لمدير معهد عنيزة العلمي وكنت مدرساً فيه وكان الأستاذ سعد أبو معطي رحمه الله مديراً للمعهد المذكور، ومنذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا امتدت صداقتنا ومودتنا بلا انقطاع، لم تنقص قط أو يعلوها الغبار، بل زادها الزمان ثباتاً وقوة وتألقاً وعمقاً وحسن رونق وبهاء، إنه أبو أديب الأستاذ عبدالله الجلهم رحمه الله، رجل ترى فيه كمال الخلق وجمال الفضل وعمق التفكير ورجاحة العقل وصفاء النفس وعفة اللسان وحنان الجنان، كان جاداً شديد الجد، صريحاً كامل الصراحة، صارماً في الحق كل الصرامة، ولكنه كان أيضاً واسع الود رقيق الحاشية ظريف العبارة، يحب الدعابة الراقية ويستملحها في أناة وسكينة ووقار، تشعر معه بالراحة، وترى في جبينه السماحة، إذا تحدث فهو صادق لا يكذب، وإذا تعاطف لا يتلون، وإذا واجه لا يداهن، وإذا صرح فهو أريب، وإذا لمح فبذكاء لا يغيب، وإذا أدلى برأي فهو على الغالب الراجح وغيره المرجوح، دينه استنارة، وقراره استخارة، عمره مديد بالتقوى، وزهده رفيع بالسلوى، وتأملاته رائقة بالصورة والفحوى.
في عصر يوم الاثنين الماضي هاتفني أخو الجميع المقدَّر من الجميع من عرف بأنه لا يألو جهداً في الاستفسار عن أصدقائه ولا يدخر حيلة في الاطمئنان عليهم والسؤال عن أحوالهم الأستاذ الدكتور عبدالله الناصر الوهيبي وألقى عليّ الخبر المشؤوم، في حزن ظاهر معلوم، صعقت للوهلة الأولى وأصابني الذهول ولم أصدق ما أسمع، لقد هاتفت أبا أديب قبل الحادثة المؤلمة بأقل من 48 ساعة، وتحدثنا أكثر من نصف ساعة، صبرني فيها على لأوائي، ومناني بشفائي، وفتح أمامي كوة واسعة من الأمل والرجاء، ونصحني بالصبر والصلاة والدعاء، وهاأنا قد دفنتك وكنت أظن أنك ستدفنني، لم أستطع أن أصلي عليك مع المصلين، ثم أودعك إلى باب قبرك مع المودعين، للسبب الذي تعرف، فمعذرة، لقد حل اليقين بصاحبنا أبي أديب، إنه الحقيقة التي لا مفر منها، والحق الذي لا يتخلف، فكل نفس ذائقة الموت، لقد أصبح صديقنا في رحاب الله يتمتع إن شاء الله بعطف ولطف الخالق عطفاً ولطفاً لا يشاكله مثلهما في دنيانا الفانية من المخلوقين.
لقد كان آخر عمله العبادة، قضى وهو عائد إلى منزله من صلاة الفجر، سقط في حادث مفجع صريع رعونة مؤلمة، سيؤرق هذا الحادث فاعله المجهول إلى يوم يبعثون، حين يسأل كلّ فاعل عما فعل، إنها إرادة الله ولا راد لإرادته، لقد اختاره في الوقت الذي رآه، هو أعطى وهو أخذ، مر أبو أديب في هذه الدنيا مرور الكرام، بمنتهى الانسجام مع الأنام، فذكراه ستبقى خالدة، وقيمه ستظل رفيعة، وتعففه سيبقى مثلاً يحتذى، ورقته ودماثته «وفزعته» لا تنسى ولن تنسى.
يا فقيدنا الراحل: لقد كنت صادق العهد والمودة، وكنت الوفاء يمشي على قدمين، لم تغيرك الأيام والسنون، ولم تبعدك عن أصحابك القدامى المناصب والكراسي، ولم تلهث بخيلك ورسلك غير محمد ولا ممجد أمام متاع الدنيا على نحو لا يستساغ، لقد كفاك المعقول عن المنقول، والزهد عن الرفد، لم تعن بالأثاث والرياض، وعالي البناء، وباذخ الكساء، كنت توطئ أكنافك لمن تعرف ولمن لا تعرف حتى ليحسبك الرائي عين التواضع والسماحة، كنت من رواد التعليم الأوائل في عنيزة إلى جانب كوكبة من قدامى زملائك لا يسعني في هذه العجالة ذكر أسمائهم أجمعين، لما في العجالة من العادة من الاختصار والاقتصار، وخوفاً من أن يتسرب من ثقوب ذاكرة رجل سبعيني مثلي اسم أو أكثر لمن نحب ونحترم ونقدر، وهم جميعاً وأنت فيهم باقة من الورود الفواحة في دنيا التعليم في هذه المدينة الجميلة الأثيرة، لا ينساها ولا ينكر عبقها أبناء هذا الجيل، وسيبقون يذكرونهم بكل محبة وافتخار، في هذا الإطار وغير هذا الإطار.
ثم أصبحت رائداً من رواد العمل الاجتماعي في البلاد وبين العباد، هذا العمل الذي يشهد لك بالعفة والحرص وطول الأناة وواسع الصبر وغزير الإنتاج، بكمال الخواص، على الصعيدين العام والخاص.
حين أذكرك وما أكثر ما أذكرك في هذه الأيام تغلبني الدموع، وتتعتعني الآهات، وتصرخ في مآقيّ الزفرات، وتملأ صدري الأنات.
أذكر فيك الشاعر والناثر، الأديب اللبيب، والفصيح البليغ، عالي الآراء، في أسلوب كله صفاء، لعل الأيام القادمة تمكنني من جمع آثارك من اللونين، ومن طباعتها ونشرها عند من تعودنا الطباعة عنده وألفنا النشر لديه الأستاذ إبراهيم الماجد صاحب دار المعراج في الرياض، لتستفيد منها الأجيال، وينعم بخواطرك ولمحاتك فيها من عليهم تعقد الآمال.
وأذكر فيك أيضاً عالمية تفكيرك وعواطفك، وشمولية إحساسك وشعورك، وهي عندك لا تعرف الحدود ولا القيود والسدود، لا أقول هذا من فراغ، بل من حقائق صادقة، ووقائع بالنور بارقة، لقد كلفني رحمه الله ذات يوم بأن أبحث موضوع إقامة مسجد في دولة عربية لا يعنى فيها واقعياً بالدين وشعائره، وقال لي إن مجموعة من المحسنين هنا سيتولون من حر مالهم تمويل تشييده، فقمت بالتحري في تلك الدولة عن امكانية تحقيق الهدف، فوجدت نفسي أدخل في «سين وجيم» وخذ وهات، وفي سلسلة من التحقيقات والإحالات إلى مختلف الجهات، وبعضها من المخيفات، فدفعتني هذه النذر والمتاعب، إلى الاعتذار بعد عودتي للرياض عن خوض غمار المصاعب، وقمت ببيان ما ينطوي عليه هذا المشروع هناك من الأخطار، ومن و جوب التفرغ لإنجازه في الليل والنهار، وربما في الأسحار، وقلت لفقيدنا العزيز لقد بلغت النية، ولك ولرفاقك أجرها، ولم يبلغ العمل وعلى أولئك وزره، فكان الجواب لا حول ولا قولة إلا بالله.
وأذكر فيك كذلك فكرك الديني المستنير، وثقافتك الشرعية الواسعة، وأفخر بحرصك على الإسلام والمسلمين، وبعنايتك بشؤونهم، وبدفاعك ولو باللسان أضعف الإيمان عن قضاياهم، وكأنها شؤونك وقضاياك الشخصية.
قدس الله روحك، ونور ضريحك، وأسكنك فسيح جناته، ووسع لك آفاق رضوانه، وأحاطك برحمته وحنانه.
حقاً ما قاله كعب بن زهير:


كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آله حدباء محمول

وصدقً ما قال حسان بن ثابت:


لكل جديد لذة غير أنني
وجدت جديد الموت غير لذيذ

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved