Monday 16th june,2003 11218العدد الأثنين 16 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

سسيولوجيا الفشل المعرفي سسيولوجيا الفشل المعرفي
د. عبدالرحمن الحبيب

اختلال العلاقة بين الفكر والواقع في عالمنا العربي مرتبط بوجه من الأوجه بسسيولوجيا المعرفة في الفكر العربي، أو بعبارة أخرى بالواقع الاجتماعي التاريخي المنتج للفكر.. وستلمح هذه المقالة لبعض جوانب من سسيولوجيا أو اجتماعيات فشلنا الفكري العربي. إذ يعاني واقعنا العربي من تركة قرون سابقة من التبعية والتخلف والجهل وانتشار الخرافات وتوقف العقل عن إبداعه. وتفتقر التيارات الفكرية في المجتمعات العربية إلى طابعها الاحترافي واحترامها للبحث العلمي وتطبيقاته العملية، من برامج عمل ومشاريع تنفيذية ومشاركة فعَّالة مع مؤسسات المجتمع وتنظيماته الفعَّالة؛ في الوقت الذي تمجِّد فيه الخطابية والشعار والعصبية الفئوية وينصب جلّ توجهها للسياسة بمعناها الضيق.
نحن نرث واقعنا الاجتماعي السابق من وسائل وأنماط إنتاج وسلوكيات وثقافة شفهية كانت تنتمي إلى طبيعة رعوية أو ريفية وتلك تفرز رؤية من عمل وفكر تختلف عن ما يفرزه المجتمع الصناعي.
فحياة البدو أو مزارعو الواحات في الصحراء التي نرث كثيراً من قيمها، طابعها الاقتصادي مكتف ذاتياً ينعدم فيه التخصص والمنافسة الإنتاجية بين الأفراد، فالأفراد يتشابهون في المعرفة والخبرات، ودوافع العمل فيه ليست اقتصادية إنتاجية بقدر ما هي شعور بالمسؤولية الجماعية وتقاليد مرتكزة على اعتبارات قرابية أو أخلاقية مع احتقار للمهن والفنون. هذه الخصائص الرعوية وشبه الريفية منها الارتحال وما يتبعه من ارتجال في اتخاذ القرارات المصيرية ناهيك عن القرارات اليومية.. فعند استنزاف المرعى وبُعد الحلفاء، لا بد أن يقرر أعيان العشيرة وبصورة عاجلة إلى أين تكون وجهة الرحيل أو ربما الغزو.. لا وقت لثقافة فكرية أو تقارير مكتوبة أو أبحاث مدروسة.. الخطر محدق والخيارات محدودة والوقت عشوائي..
وفي المجتمع الزراعي المستقر، قبل ظهور التقنية الحديثة، كان الإنتاج يتأثر كثيراً بعوامل بيئية (من مطر وآفات وخصوبة تربة) غير مسيطر عليها، وكان على المزارع في حالات كثيرة انتظار نهاية الموسم ليرى ما يحدث لمحصوله مع قليل من القدرة على التغيير مما يؤثِّر على موقفه من الحياة ومن ثم ضعف أهمية إرادة الفرد في التأثير على الواقع، في حين أن المجتمع الصناعي يسيطر على أدوات إنتاجه مع قدرة كبيرة على التغيير والتطوير لهذه الأدوات مما يجعل للتنظيم والإرادة والابتكار الفردي فائدة عظيمة ملموسة ومن ثم أهمية الفرد في التأثير.
فإذا أخذنا الوقت مثلاً، نجد أنه لدى الراعي يسير برتابة مع ما يرتبط به الإنتاج من نمطية عشوائية بالمطر والمرعى الخصب الذي لا يمكن التأثير عليه، بينما الوقت لدى الفرد في المجتمع الصناعي هو قيمة إنتاجية تراكمية فبالعمل يزداد الإنتاج، أو كما يقول المثل الإنجليزي Time is money أي الوقت من مال. كذلك الابتكار في وسائل الإنتاج لها تأثير كبير في زيادة الإنتاج وجودته بالمجتمع الصناعي، بينما في المجتمع الرعوي ظلت الوسائل كما هي تقريباً لآلاف من السنين لأنها غير مسيطر عليها إلا في أضيق الحدود.. وهنا يصبح الواقع قليل التأثير وبالتالي يغدو التفكير الواقعي العقلاني قليل الأهمية مقابل التفكير الميتافيزيقي أو الخيالي أو الأدبي..
ومما يكرس معاناتنا في مجتمعاتنا العربية الحالية هو ضعف القدرة الاقتصادية الصناعية المنتجة ومن ثم عدم تناسب علاقتها مع الإبداعات العلمية والثقافية.. إلخ، لذا لا نزال نعاني انفصاماً بين الفكر والواقع رغم ظهور العديد من المجتهدين الأفذاذ من مفكري ودعاة التجديد والتنوير الذين تمكنوا من تشخيص كثير من الأزمات، لكنها تظل محاولات فردية مبعثرة لم تتبنها مؤسساتنا أو مجتمعاتنا أو لم تر حاجة لتبنيها، بينما كثير من الحركات المؤثرة تمحورت حول واحدة من ثلاث رؤى، فهناك من يرى الحاضر بعيون الماضي فيخسر القدرة على تطوير الحاضر والاستفادة من مجد الماضي؛ وهناك من يبحث عن بعث عروبة من التراث دون ربطها بإنجازات واقعية حاضرة؛ وثمة من يستورد نظرية جاهزة خارج سياقنا الحضاري دون تطويعها لظروفنا الخاصة.
وأغلب الأطروحات داخل هذه الرؤى تنطلق من رؤية لا تاريخية لأبعاد الزمان والمكان وتبدُّل المراحل، ومن تفسيرات مغلقة لنصوص نظرية تسمو عن الواقع مع ما يصاحبها من شعارات جميلة هي للأدب المتخيل أقرب منها للواقع المعاش. وفي ذلك بعد حضاري لمكانة اللغة في الخطاب والمجتمع العربي ذو نمط الاقتصاد الريعي، وبالتالي سمو هذا الخطاب فوق الوقائع؛ فشاعر القبيلة القديم حين يمجد قبيلته وأخلاقياتها لا ينطلق من حقائق قدر انطلاقه من لعبة لغوية فخمة بديعة تعلي شأن قبيلته، فالصراع أو التنافس بين القبائل لا تجديد فيه على أرض الواقع بل التجديد ينبع من اللغة والخيال الجمالي لأن الواقع الصحراوي غير مسيطر عليه وهو كما هو دون تغيير في كل بقاع الأرض الصحراوية وأزمنتها، وأخلاقيات القبائل كما هو دون تبدل، فساحة التنافس ليس الواقع الثابت زماناً ومكاناً إنما المتخيل المتنوع والمتجدد. وعدم التجديد في ذلك الواقع يعني أن دورة الزمان وتنقل المكان لا أثر فيها للتغير الاجتماعي أو تطويره ومن ثم تنبع الرؤية اللا تاريخية للأحداث والوقائع. وعلى النقيض، حين تتنافس المجتمعات الصناعية فهي تُعنى أساساً بتغييرات حقيقة واقعية يمكن السيطرة عليها وتتأثر بالمكان والزمان.
انتقلت كثير من المجتمعات المتقدمة من طبيعتها الصناعية إلى ما يسمى مجتمعات ما بعد الصناعة أو ما بعد الحداثة أو مجتمع المعلومات مما أفرز فكراً اجتماعياً جديداً، يتمثل في تفجُّر المعلومات مصاحباً بوسائل وأدوات إنتاج معرفي يتصف بالتجدد المتسارع ومنهجية التحصيل الموضوعي والمتنوع والقابلية الفسيحة للنقد والاعتراض.. بينما تواجه مجتمعاتنا العربية أزمة حضارية كبري تتمثل في الفصل بين الواقع والخطاب النظري مما يستلزم تشريح هذا الواقع وهذا الخطاب ونقده من الداخل ليشمل أساسيات وأصول المنهج الفكري لكل التيارات في عالمنا العربي..

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved