Monday 16th june,2003 11218العدد الأثنين 16 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
نافذتان«2»
عبد الرحمن صالح العشماوي

كان صقر الخيال قد خفق بجناحيه، وحلَّق في الفضاء حتى أوصلني إلى مكان تلك النافذة المطلة على ما وراء جدار الزمن الطويل، وكانت النافذة الاولى قد اطلعتنا على تلك الصورة التاريخية التي رواها لنا الشيخ كمال الدين الدميري صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى، عن الأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب والملك المغرور «الادفونش» صاحب طليطلة الذي هدَّد وتوعَّد واستهزأ وسخر وكانت النهاية هزيمته النكراء على يد الأمير يعقوب الذي عُرِف بالصلاح والعدل والاستقامة.
وهانحن اليوم نتجه الى النافذة الثانية، حيث عبرتُ ذلك الجسر الذي يربط بين النافذتين، وما كدت أطِلُّ من النافذة حتى رأيت ذلك الشيخ نفسه كمال الدين الدميري، جالسا على اريكة يتحدث بصوت جهوري قائلا: أما الأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فقد توفي سنة عشر وستمائة للهجرة - يرحمه الله - بعد حياة حافلة بالعدل، والتطبيق للشرع والعزة والنصر، ثم سكت الشيخ قليلا، وقال: واليوم أحدثكم عن حاكم آخر عُرِفَ بالعدل والاستقامة والحرص على مصالح المسلمين، وكانت له مواقف صارمة في مواجهة الصليبيين، إنه نور الدين محمود زنكي، وقد بلغ من عدله اأنه أول من بنى داراً لكشف الظلامات وأسماها «دار العدل»، وسبب اقامتها أنه لما أقام بدمشق مع أمرائه وفيهم أسد الدين شيركوه، تجاوز بعض الأمراء حدودهم وتعدَّى كلٌّ منهم على من جاوره، فكثرت الشكاوى إلى القاضي، فأنصف بعضَهم من بعض، ولم يقدر على الانصاف من «شيركوه» لأنه كان أكبر الأمراء، فبلغ ذلك نور الدين فأمر بإقامة دار العدل، فلما علم بذلك شيركوه قال لأصحابه: ما بنى نور الدين هذه الدار إلا من أجلي، لأنه لا يمتنع من القاضي غيري، والله لئن أُحضرت إلى دار العدل بسبب واحد منكم لأصلبنه، فأعيدوا ما للناس عندي من حقوق عاجلاً حتى لو أتَى ذلك على جميع ما بيدي من المال، فأعيدت الحقوق إلى أصحابها، وزادت مكانة نور الدين في قلوب العالمين.
ومن عجائب نور الدين انه قد عدل في قضية أحد المسلمين، بعد موته، وقصة ذلك أن رجلا ظُلِم من أحد الوجهاء، بعد موت نور الدين - رحمهم الله - فشقَّ ذلك الرجل ثوبه وأخذ يبكي ويصرخ بين الناس: واأسفاه على الملك العادل الشهيد نور الدين لو كان موجودا لأنصفني، وسمع بذلك «صلاح الدين الايوبي»، فطلب ذلك الرجل، وأزال ظلامته، فبكى الرجل، فقال له صلاح الدين: ما يبكيك وقد أنصفناك؟ قال: أبكي على سلطانٍ عَدَل في رعيّته بعد موته.
وبعد لحظة صمت من الشيخ كمال الدين الدميري، قال: كان نور الدين ملكا عادلا، عابدا وَرِعاً، متمسكاً بالشريعة، مائلا الى أهل الخير، مجاهدا كثير الصدقات، بنى المدارس بجميع بلاد الشام، والمارستان بدمشق، ودار الحديث، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وأثرَّ في الاسلام آثاراً حسنة، وصنع منبر المسجد الأقصى الشهير معلنا عن تصميمه على فتح بيت المقدس واخراج الصليبيين منه، وقد استطاع بصناعة ذلك المنبر ان يوجه عناية من سمع به من المسلمين أو رآه الى اهمية فتح بيت المقدس، وقد تحقق ما أراد بعد موته، حيث حُمِل ذلك المنبر الى بيت المقدس في عهد صلاح الدين، واستطاع نور الدين ان ينتزع من أيدي الكفار ما يزيد على خمسين مدينة، ومحاسنه كثيرة - رحمه الله - ، وبعد لحظة صمت حزينة، قال الدميري، وعيناه تفيضان بالدمع: توفي نور الدين محمود زنكي الذي لُقَّب بالشهيد، في شوال سنة تسع وستين وخمسمائة للهجرة المباركة بقلعة دمشق، بعد ان أصيب بمرض الخوانيق، وكان الأطباء قد أشاروا عليه بالفصد، فامتنع وكان ذا مهابة فلم يراجعوه، فمات ودفن بالقلعة.
ثم قام الشيخ عن أريكته وغاب عن عيني، ولم أستطع أن أطيل النظر من خلال تلك النافذة، والا فإن وراء ذلك الجدار الزمني الطويل من المواعظ والعِبَر والأعاجيب ما يغري بالمتابعة والاهتمام.
نافذتان من نوافذ جدار التاريخ استطاعتا ان تطلعانا على قصتين عجيبتين فما بال قومي في هذا العصر لا يتدبرون ذلك التاريخ العريق، ولا يفيدون من دروسه العظام؟
إشارة:


تَخْفى الحقائقُ عن عيونٍ لا ترى
في الصَّفْحة البيضَاِء الا الأسودا

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved