Monday 30th june,2003 11232العدد الأثنين 30 ,ربيع الآخر 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

التدابير الواعدة وقليل من الأمثال العربية التدابير الواعدة وقليل من الأمثال العربية
عادل علي جودة

تتسابق الأحداث، ويتعاظم وقعها على نفوسنا، فتثقل كاهلنا، ونحن لا نقوى على الحراك، فيسيطر علينا الشعور باليأس والإحباط، لتبدأ رحلة الهروب! الهروب مِنْ مَنْ؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ وإلى متى؟ أسئلة ليست صعبة جداً ولكنها في ظل ظروف قاهرة تُشعرُ الإنسان بعجزه وقلة حيلته، والتساؤل الأكبر: هل هناك بصيص أمل؟ وأيضاً الإجابة عنه ليست صعبة؛ بالطبع (نعم)؛ فالأمل في وجه الله سبحانه وتعالى، لقد وعد بنصر مَنْ ينصره، المعادلة إذاً سهلة وواضحة؛ وآمنتُ بالله {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا إن تّنصٍرٍوا اللّهّ يّنصٍرًكٍمً وّيٍثّبٌَتً أّقًدّامّكٍمً} (محمد: 7) !!
نعم.. نحفظ النصوص جيداً، ولكن للعلم لا للفعل! وتلك هي المشكلة؛ نلهث خلف البشر، ونبتعد عن خالق البشر، فلا غرابة إذاً ان نصل إلى مانحن فيه من ذل وهوان، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ التمَسَ رِضَا الله بسخط النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مؤنةَ النَّاسِ ومَنْ التمسَ رِضَا النَّاسِ بسخطِ اللهِ وكلهُ الله إلى النَّاسِ» (سنن الترمذي؛ 2338).
ومن يتأمل حال المسلمين منذ ان توقفت انتصاراتهم وفتوحاتهم، يدرك مستوى الوهن الذي أصاب الأمة الإسلامية، والشاعر الإسلامي المرموق محمود غنيم، يجسدُ المأساة في قصيدة رائعة، وهي بالمناسبة مقررة على الصف الثالث الثانوي، تحت عنوان: «محنة العالم الإسلامي»، فيقول:


مالي وللنجمِ يرعاني وأرعاهُ
أمسى كلانا يخافُ الغمضَ جفناهُ
لي فيك باليلُ آهاتٌ أرددها
أواهُ لو أجدت المحزونَ أواهُ
لا تحسبني محباً يشتكي وصباً
أهون بما في سبيل الحب ألقاهُ
إني تذكرت والذكرى مؤرقةً
مجداً تليداً بأيدينا أضعناهُ
أنى اتجهت إلى الإسلامِ في بلد
تجدهُ كالطير مقصوصاً جناحاهُ
ويحُ العروبةِ كانَ الكونُ مسرحها
فأصبحتْ تتوارى في زواياهُ
كمْ صرفتنا يدٌ كنَّا نصرِّفها
وباتَ يملكنا شعبٌ ملكناهُ
كمْ بالعراقِ وكمْ بالهند من شجنٍ
شكا فرددت الأهرامُ شكواهُ
بني العروبةِ إنَّ القرحَ مسكمُ
ومسنا نحنُ في الإسلام أشباهُ
لسنا نمدُّ لكم أيماننا صلة
لكنما هوَ دينٌ ما قضيناهُ

فإذا تأملنا تلك الكلمات جيداً، ندرك أن هذا الواقع المؤلم هو (فقط) الذي جعل البعضُ يعربد في الأرض دون رادع أو كاسر أنف، وصدق المثل العربي المصري الذي يقول: (آلْ: يافرعون إيه اللي فرعنك؟ آلْ: مالئتشِ حد يلمِّني)، وكلما أجيدت اللهجة المصرية في قراءة هذا المثل زاد ذلك في استشعار مقصده.
قبل أيام قريبة، وفي زيارته قبل الأخيرة إلى (اسرائيل)، رأينا وزير الخارجية الأمريكي السيد (كولن باول)، وهو يصافح رئيس وزراء (اسرائيل) (شارون) مصافحة تهتف حرارة وحميمية، لم لا، فهكذا تكون مصافحة الأقوياء للأقوياء، ونقل إليه موافقة الفلسطينيين دون شروط على العصا السحرية التي تسمى (خارطة الطريق)، وعندما وصل إلى رئيس الوزراء الفلسطيني الأخ محمود عباس، صافحه طبعاً ولكن (لكل مقام مقال)، وبعد ان وزع ابتساماته الرسمية على المصورين، استهل حديثه بأنه جاء للمنطقة حاملاً رؤى الرئيس وتوجهاته، ثم أبدى إعجابه بالفلسطينيين المطيعين الطيبين؛ الذين استطاعوا الاستفادة من فرصة تاريخية ذهبية لن تتكرر، بموافقتهم على (خارطة الطريق)! وبسؤال وجه إليه من أحد الصحافيين حول موقف (شارون) من (خارطة الطريق) -والجميع يعلم ان الأخير وضع أربعة عشر تعديلاً يجب ان تمتثل لها (الخارطة) قبل ان ينظر في أمرها-، أبدى السيد (باول) تفهمه لوجهة نظر (شارون) ووقوفه إلى جانبه في تحفظاته، ثم طمأن الفلسطينيين بأن (خارطة الطريق) لن يتغير جوهرها -وطبعاً هو صادق ولا غرابة في ذلك مطلقاً، فجوهر (خارطة الطريق) لايعرف تفاصيله إلا من وضعها -، وهنا يأتي دور المثل العربي- ولكن الفلسطيني هذه المرة -الذي يقول: (ارضينا بالهمّ والهمّ مَرْضيش فينا!!)، ثم عاد (باول) يمجد (شارون) ويمدح كرمه وجوده وأخلاقه النبيلة، مشيراً إلى أنه يحمل للفلسطينيين هدية ثمينة من (شارون)، تتمثل في (التدابير الواعدة) الساعية إلى تحسين الظروف الإنسانية للفلسطينيين.
وبالطبع ليس من حق أحد ان يسأل عن ماهية تلك التدابير الواعدة؟ ثم لِمَ السؤال؟ فهي معروفة: أولاً: سيفرج عن بعض تصاريح الدخول للعمال الفلسطينيين للعمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948م أو ما يسمى (إسرائيل). ثانياً: سيسمح لعدد يحدد لاحقاً من صيادي الأسماك في قطاع غزة بالتجول غرباً كما يشاؤون في عمق البحر الأبيض المتوسط بما لايقل عن مائة متر من شواطئهم ومن باب الشفقة عليهم والرأفة بهم فسيسمح لهم أيضاً باستخدام الحسكات والمجاديف اليدوية لتعينهم على حمل شباكهم وصيدهم، والحسكات جمع حسكة، والحسكة أصغر أنواع القوارب، وهي مغلقة التجويف ولا تتسع لأكثر من اثنين ثالثاً: سيسمح بدخول بعض المواد التموينية التي قدمتها الشعوب العربية والإسلامية لمؤازرة الشعب الفلسطيني في انتفاضته المجيدة، ومازالت تصطف خارج الحدود في مصر والأردن بانتظار الإذن الإسرائيلي بالدخول إلى الفلسطينيين أليست واعدة تلك التدابير؟!! ولكن (شارون) اشترط أولاً تنفيذ بعض الإجراءات من قبل الحكومة الفلسطينية، وهي بسيطة وخفيفة، مثل: إقامة حرب حقيقية على الجهاد (أو الإرهاب من وجهة نظره)، ونزع أسلحة المجاهدين (أو الإرهابيين) ووضعهم داخل السجون أو تحت الإقامة الجبرية، وعلى رأسهم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والزعيم الروحي لحماس (أو كما يسمونه زعيم الإرهابيين) الشيخ أحمد ياسين، وعميد مرج الزهور الشيخ الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي، ومن في حكمهم، تماماً كما فعل (شارون) مع أحد رموز انتفاضتنا الباسلة الأخ مروان البرغوثي (أرأيتم: الأمرُ جدّ بسيط)!
وبالعودة إلى (خارطة الطريق) فبعد صولات، وجولات، وتلميحات، وتجميلات،... الخ، وافق (شارون) فعرض (خارطة الطريق) على الكنيست الإسرائيلي، ووافق الكنيست عليها بغالبية الأصوات، ولايخلو الأمر من وضع مايلزم من شروط احتضنتها أمريكا بالتعهدات والضمانات.
وأنا حقيقة لست أدري لماذا استغرق (شارون) كل هذا الوقت لكي يوافق أو لايوافق على (خارطة الطريق)!!
أهي ألعوبة سياسية أو إعلامية كما يظن البعض؟ وتفسير ذلك: ان (شارون) يدرك المكاسب العظيمة التي سيجنيها، ولايريد ان يفقد شيئاً منها، لأن (خارطة الطريق)- إذا قدر لها النجاح- فهي من جهة تؤمّن اعترافاً عربياً وإسلامياً بدولة (إسرائيل)، وترفع النجمة السداسية مرفرفة خفاقة في أجواء عواصمها، وتفتح أبوابها وأسواقها وخيراتها (لإسرائيل)، وقبل كل ذلك وبعده فهي تكتم أنفاس الفلسطينيين (أو الإرهابيين) وبالتالي يتحقق الأمن المنشود!! ومن جهة أخرى فهي تقضي نهائياً على الكابوس الذي أقض مضجعه؛ الانتفاضة الفلسطينية، وتبدد 99% من حقوق الشعب الفلسطيني وأحلامه، فالدولة التي تتكلم عنها (خارطة الطريق) منزوعة السلاح، ومسلوبة الحدود والمياه والسماء، والقدس ليست هي القدس، والأرض ليست هي الأرض، والشعب الذي شُرد من أرضه (وهذه هي الطامة الكبرى) ليس له حق العودة.
ولاشك أن كل ذلك صحيح، ولكن أتكون تلك المكاسب هي فقط السبب الحقيقي؟ أم أن (شارون) -في واقع الأمر -ينظر إلى ماهو أبعد من ذلك، فهو لايرى في (خارطة الطريق) مايحقق هدف الصهيونية في إقامة (دولة إسرائيل الكبرى) بحدودها المعروفة، وتكون فلسطين (كلها) عاصمتها أو إحدى ولاياتها!؟
وفي حال كانت الإجابة الثانية هي الصحيحة، فلا داعي للتساؤل: لماذا (إذاً) وافق (شارون) على (خارطة الطريق)؟ لأن هذا التساؤل لايختلف البتة عن التساؤل القديم وهو: لماذا وافق أسلافه (شامير، ورابين، وبيريز، ونتنياهو، وباراك) على أوسلو؟ فما المانع من عشر سنوات أخرى أو يزيد تضيع في مفاوضات عبر المزيد من المسارات والممرات والقنوات، ثم بعد ذلك يدخل ساحة الأقصى الشريف ليكودي آخر، أو شاسي، أو يميني، أو غيرهم، فينتفض الفلسطينيون من جديد، ونبدأ نعد الشهداء ونزفهم في مواكب مهيبة، ونعد الجرحى ونبحث عمن يداويهم، ونبكي بيوتنا المهدمة، ومزارعنا المجرفة، وأوصالنا المقطعة، وتجمع التبرعات، ويعود الاحتلال الاسرائيلي، ويواصل الخطباء والشعراء والكتاب إبداعاتهم، وتهب الشعوب، فمخدر جديد من التقارير، والتفاهمات، على غرار تينيت وميتشيل، وفي الأثناء يسقط عراق آخر، وتظهر خارطة طريق أخرى معدلة أو بمسمى جديد، ثم تدابير واعدة جديدة، و(دوري ياطاحونة ولفّي)؛ أقصد: وهكذا دواليك.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved