Sunday 27th july,2003 11259العدد الأحد 27 ,جمادى الاولى 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شيء من شيء من
الفتوى وضرورة ضبطها
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

منذ ان خرج العرب من عباءة بني عثمان في فجر القرن الميلادي الماضي، وهم يتخبطون في البحث عن مرجعية فلسفية، من شأنها إلحاقهم بقطار الحضارات، الذي أبتعد عنهم كثيرا، وما زال يبتعد.
منذ ذلك الوقت، مر العرب بتجارب كثيرة ومتنوعة، خرجوا منها بخفي حنين؛ وكانوا في جميعها أشبه ما يكونون بالغراب الذي ترك مشيته وحاول تقليد الحمامة، فأضاع الاثنين معا.. ذهبوا إلى الغرب فاصطدموا بثقافة لا يمكن أن تتواءم مع ثقافتهم، فاتجهوا إلى شرق أوربا، نحو الاشتراكية، فسقطت الاشتراكية هناك، وسقطوا معها.
اكتشفوا أن لا حل إلا في الإسلام، فهو ليس مجرد دين فحسب، وإنما هو دنيا أيضاً؛ وأن أي طرح حضري لا يتواءم مع الإسلام، ومقاصد شريعته، هو حل فاشل منذ البداية؛ لأنك ببساطة تتحدث عن امر له ضوابط دينية إيمانية؛ كما أنك موضوعياً لا يمكن أن تلغي قرابة الخمسة عشر قرناً من التاريخ شكلت تراكماتها ضمير ووجدان الإنسان العربي بمجرد قرار. فأصبح الحل الحضاري بالنسبة للعرب والمسلمين يكمن في كيفية التوفيق بين ثوابت الإسلام وبين متطلبات الحضارة.
غير ان المشكلة التي نواجهها اليوم تكمن في تسلط كل من هب ودب على مفاهيم هذا الدين، الأمر الذي جعل كل يدعي أنه المسلم الحقيقي، وما يمارسه هو الإسلام الصحيح، وتتسع دعوى «احتكار الحقيقة الدينية»
لتشمل كل الحركات الإسلامية السياسية مهما صغر حجمها، فأصبح لكل حركة مفتيها، وأصبحنا نسمع من الفتاوى والتخريجات والأحكام ما جعل المسلم المعاصر في حالة من حالات التشتت الذهني، لا يدري من يصدق، وإلى أين يتجه.
والفقيه في الإسلام لا يكفي أن يتكىء على دليل من كتاب أو سنة فحسب، وإنما يجب أن يلم، إضافة الى معرفة الدليل، بعلوم ومعارف إضافية. فهناك فهم الواقع، وهناك فقه الموازنات، وهناك فقه المآلات، وفقه جلب المصالح، وفقه دفع المفاسد، وكل تلك أدوات لابد أن تتوفر في المفتي كي يُمارس مسؤولياته كما يجب أن تكون، وبالقدر الذي يجعل فتواه منسجمة مع الإسلام في مقاصده وأهدافه السامية. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه مثلا لم يعمل بنص «قطع يد السارق» أثناء مجاعة «الرمادة» في المدينة، هذا رغم ان القطع في هذه المسألة حكم يستمدُ مشروعيته من نص قرآني قطعي الدلالة، غير أن عمر علقه نظراً لمقتضيات ظروف المجاعة، أو طلباً لمصلحة المسلمين. ولعل في ذلك ما يقودنا إلى أن أخذ ظروف الواقع بعين الاعتبار عند الفتوى هو أس من أسس الإفتاء؛ وأخذ هذه الاعتبارات في الحسبان لا يمكن أن تتأتى إلا للعالم الحقيقي، القادر على تصور الواقع المعاصر، وفهمه فهماً عميقاً، وإدراك انعكاسات فتواه على مصالح الأمة.
وليس من حل لهذه الفوضى العارمة في التجرؤ على الفتوى، وبالذات والعالم اليوم أصبح كالقرية الصغيرة بحكم ثورة الاتصالات وتبادل المعلومات، إلا بإدخال هذا الشأن الإسلامي العظيم الأهمية إلى نطاق «المأسسة والتنظيم» على مستوى العالم الإسلامي كله؛ لتصبح الفتوى شأنا مؤسساتياً عالمياً يضطلع به جمع من كبار علماء المسلمين، على مختلف مشاربهم العلمية وتنوع جنسياتهم؛ وأن تكون مؤسسة الفتوى هذه مستقلة عن الدول المشاركة فيها، ومحايدة في أحكامها، لتحظى بالمصداقية والقبول أكثر. عندها سنتخلص أول ما نتخلص من أولئك الانتهازيين وأصحاب الأهواء الذين يُصممون فتاويهم لتصب في مصلحة أغراضهم، التي هي في الغالب أغراض سياسية، ولا علاقة لها بمصالح المسلمين في دنياهم وآخرتهم. ولعل ما نشهده هذه الأيام من «مآسي وجرائم» ترتكب باسم الإسلام، وتستند إلى بعض «الفتاوى»، يحتم علينا كمسلمين أن نفكر بجدية في حل من شأنه كبح جماح من يستغلون «الفتوى» لمآرب سياسية أو مصالح ذاتية أو فئوية، والتي إنتهت بنا إلى هذا الواقع الخطير الذي نعايشه في هذه اللحظة التاريخية.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved