Tuesday 12th august,2003 11275العدد الثلاثاء 14 ,جمادى الثانية 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الحوار الوطني من الشتات إلى التجمع..!! الحوار الوطني من الشتات إلى التجمع..!!
د. حسن بن فهد الهويمل

التحولات المؤسساتية ترسيخ للأمن، وتفويت لاحتمالات الفراغ الدستوري، وتجميع لشتات الجهود، واستثمار للمعارف والخبرات، وتكافؤ للفرص، وامتحان لكفاءة المواطن ووعيه، وانعتاق من ضوائق «اللوبيات» إلى فسح المؤسسات.
والدولة اي دولة حين تقلص دور الفردية، وتتجه صوب المؤسسة الجماعية، تتخلص من المغامرات والصدف، والرأي الفطير أو الدبير، محققة فرص التمحيص والمراجعة والتثبت، والاستجابة لعرض المؤتمرين على إنشاء مركز للحوار الوطني تحول نحو الكون الجمعي المتأبي على اعتداء الخطوب، وخلوص من التفرق العاجز عن صد العوادي. والأمة العربية تحت الضربات الموجعة بحاجة إلى من يقيل عثرتها، ويجبر كسرها، ولن تنهض من كبوتها إلا إذا عمل كل راع على إصلاح ما استرعاه الله عليه، ودخن الفتن لايصيب المقترفين خاصة، ولهذا فقد مسنا الضر من مقترفات العابثين بمقدرات الأمة، الخائنين لأماناتهم، وقل أن يكون المستقيمون على الطريقة قدوة لمن يمشي مكباً على وجهه، ولأن الوحدة الوطنية من أولويات اهتمام المؤسسة السياسية الواعية فإن البحث عن منهج سليم، وآلية دقيقة، وتجمع منظم للحوار الفكري من متطلبات المرحلة الموبوءة بتعدد الكيانات وتشتت الولاءات، وبخاصة في ظل ما تعانيه الشعوب العربية من احتقان يتصاعد، وتوتر يتزايد.
والدولة المستشرفة للمستقبل، المؤمنة بحتمية التحول والتعصرن، تتحسس مكامن الخطر، ومنتجعات السلامة، وتسعى جهدها لتلافي أي خلاف يفضي بقادة الفكر والثقافة إلى الصدام المدمر، والنخب العلمية الفكرية حين تجد الأجواء الملائمة، والدعم السخي، والرعاية الناصحة، تتوفر على إمكانيات الأداء السليم، متفادية المهاترات والمخاصمات، متعففة عن النيل من رموز الأمة وعلمائها.
ولوثة الغلو والتطرف والظروف المتفاقمة في الداخل والخارج اقتضت النظر في أمور كثيرة، لتأليف القلوب وتنقية الأجواء، وصد الاعتداء، لعل من أهمها ترشيد «الخطاب الفكري»، وبخاصة أن الأمة منيت بظواهر لم تكن مألوفة من قبل، ادت إلى اختلال الأوضاع الأمنية والفكرية والدينية في مواطن كثيرة، حتى أريد في البلد الحرام الظلم وإلالحاد، على الرغم من أن الله توعد المريدين لهما فيه بالعذاب الأليم.
والإرهاب المشتمل بعباءة الدين، طال دولاً متعددة، وظهرت في خطابه المتوتر قضايا إسلامية قديمة، بمفاهيم منحرفة ك«الجهاد»، و«الولاء والبراء»، و«التكفير»، و«فقه الولاية» من حيث السمع والطاعة والخروج، ونجمت في مشاهد الفكر نوابت سوء، تضلعت من عفن التراث، أو من نتن الاستشراق، وعلفته أدمغة خالية فتمكن منها، وتخطى بها إطار الاعتقاد المضمر إلى المواجهة المسلحة، واستفحال الإرهاب والتطرف جعل من أولويات الدول الناصحة أن تعيد صياغة خطابها، وأن تضبط إيقاع التحول ليتم بإنسيابية، وإذا لم نحسن الحوار فيما بيننا، ولم نتمكن من وضع مفاهيم للقضايا المختلف حولها، فإننا لن نستطيع حوار الآخر في القضايا المشتركة. وتصومع العلماء والمفكرين إضاعة للعامة، واجتيالهم بغرائب الآراء ومنكر الأقوال تمزيق لوحدة الفكر التي لاتقل أهميتها عن وحدة الوطن، والمؤسسة تجميع للجهود، وتصفية للآراء، وتهذيب للحوار، وترشيد للمسارات: الفكرية والسياسية والدينية، متى التقت السلطات: الفكرية والسياسية والدينية على كلمة سواء.
وسنة الله في الاختلاف حول قضايا الدين والفكر والفن ماضية إلى قيام الساعة { )كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) } {وّلا يّزّالٍونّ مٍخًتّلٌفٌينّ إلاَّ مّن رَّحٌمّ رّبٍَكّ} {إنَّكٍمً لّفٌي قّوًلُ مٍَخًتّلٌفُ} وإذا كان الاختلاف قضية ازلية فان على الأمة أن تضع منهجاً وألية وحدوداً للحوار، تمكن الأطراف من تفادي الأثرة، والتخلق بالإيثار، وتغليب الحق على الانتصار، والقبول بالرأي الآخر، متى كان في إطار الاختلاف المعتبر، والمسلم الحق وقاف عند حدود ما أنزل الله، وهو قد أمر بإبلاغ المستجير الكافر مأمنه بعد سماع كلام الله، وهو قد نهى عن سب المعبودات تلافياً لسب الله عَدْواً بغير علم، وهو قد حذر من سباب المسلم وقتاله المؤديين إلى الفسوق أو الكفر، وهو قد نهى عن تكفير المسلم، وهو قد علم نفي الخيرية عن أي تناج لايكون فيه أمر بالمعروف أو إصلاح بين الناس.
والهادي الامين وصف الأمة والوطن بالجماعة المستهمين على سفينة، مما يؤكد أن قضاياها المصيرية مشتركة، بحيث لايجوز الاستبداد، ولا مطلق التصرف، فالحرية مقيدة بضوابطها، وليست مطلقة لا حدود لها، كما يتصورها الوجوديون والثوريون و«الراديكاليون» ولهذا أمر الإسلام بأن نأخذ على أيدي السفهاء، ونأطرهم على الحق أطراً، ونأمر بالمعروف، ونغير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، حسب الإمكان والاقتدار وتفادي الإضرار، وتلك سمة الحرية في الاسلام، والأخذ على الايدي يعني أن هناك حدوداً لحرية الحوار، والذين يتصورون الحرية مطلقة، يتواطؤون مع الذين يقترفون خرق السفينة، ليغرقوا أهلها.
والصفوة في ظل المبادرات الحضارية أحوج ماتكون إلى وعي دقيق لمفهوم الحرية، ومفهوم الأمةثال للقطعيات الدينية، ومفهوم المواطنة، ومفهوم السلطة، وأهمية الأمن واجتماع الكلمة، فمن أخضع كل شيء للحوار، حوّل الأمة من مسارها الحضاري إلى مسار همجي بدائي، إذ كل حضارة لاتكون إلا بثوابتها ومسلماتها، فالله لا يُسأل عما يَفعل، وليس للمؤمن خيرة في قضاء الله ورسوله، والمحجة بيضاء، ومن تصور الحوار بلا حدود، وبلا ضوابط، كمن عطل الاجتهاد وحرية التفكير والتعبير، ومن فهم «الجهاد» و«التكفير» على غير مراد السلف، كمن نفاهما على الإطلاق، وتورط الأمة في النفي والإثبات الانفعاليين مؤذن بفساد كبير، والمركز بوصفه قناة للتعبير والتفكير من واجبه حفظ التوازن وتهيئة النخب كي تتحرف لمواجهة حضارية، تضع في اعتبارها أهمية الحدث وصعوبة المرحلة، ولكي يولد المشروع سوياً فإنه يتطلب إحكام ضوابطه، وضبط إيقاعه، والتوفر على إمكانيات مادية، وكفاءات بشرية، وحياد إيجابي من الدولة، وأداء طوعي صادق ناصح من النخب، واستكمال المتطلبات يجعل الحوار داخل أروقته علمياً مؤصلاً، يزن الأمور، ويقدر الظروف، ويعطي كل شيء ما يتطلبه.
ولقد قلت من قبل ما ظهر لي سداده من رأي حول «الحوار الوطني» الذي تم بسرعة وسرية على يد أطياف قليلة من المفكرين والعلماء، الذين أرادوا الخروج بتوصيات «دبلوماسية» حمّالة، وما أقوله حول قضايا الأمة كافة مبادرة شخصية، ليس عليها مسيطر، ولا أحسبها معصومة غير قابلة للمراجعة أو التراجع. ومما أحمد الله عليه أنني باحث عن الحق، غير مهتم بالانتصار، وكم من رأي بادرت به، ثم تبين لي فيما بعد أنه مفضول أو ناقص أو معوج، فكان أن تراجعت، أو أتممت، أو عدَّلت بثقة واطمئنان، والذين يتصدرون منابر القول، وتتدفق آراؤهم، عبر أنهر الصحف، وموجات الأثير، وقنوات الفضاء، ومواقع المعلومات، ويقولون في مصائر الأمة وقضاياها، من واجبهم التفقه والتثبت والتقصي والتضلع من المعرفة وإتقان الآلية والمنهج وقواعد المعارف وأصولها ومفاهيمها، والاستعداد للتراجع في أي لحظة يتضح لهم أن ما يقولونه دون المؤمل. والرجوع إلى الحق فضيلة، والخاسر من تأخذه العزة بالإثم، وفوق كل ذلك الرفق، ففي الصحيح: «استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال الرسول: يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قالت: أولم تسمع ما قالوا، قال: قلت: وعليكم»، ومامنيت الأمم بالفشل إلا ممن يتعصبون لآرائهم الفجة، ويؤلهون أهواءهم الجامحة، ويركبون رؤوسهم الخاوية.والحوار الوطني الذي ينشده الناصحون الصادقون الحفيون بالمنجزات هو الحوار المنضبط بشروطه وآدابه وأهليته، الحوار المسؤول المحترم للثوابت، البعيد عن المصادرة والإلغاء، الحوار الذي ينشد الحق لذاته، الحوار الذي يغلبُ مصلحة الوطن، وما يتطلبه من وحدة ووفاق وتعاذر، والدولة في ظل الظروف العصيبة تريد لهذا الوطن ان ينأى عن الدوامات العاصفة، وينجو من الضر الذي مس القاصي والداني، والفتن العمياء التي أصابت المقيم والظاعن، واقتلعت الشرعية من جذورها، وحولت طوائف الأمم من الاعتصام إلى التفرق، ومن لغة الكلام إلى لغة السلاح، جاعلة مصلحة الوطن دون مصلحة الطائفة أو العرق أو الإقليم، متيحة الفرصة للمتربصين بالأمة الدوائر لإشعال الفتن، وإمداد المتناحرين بالمال والسلاح، وتأييد طائفة على أخرى، حتى إذا أثخنتهم الجراح، دخلوا وسطاء لإيقاف النزيف الدموي، واستنزاف خيرات البلاد.
الحوار الوطني المراد هدفه: تجميع الشتات، وتحرير المسائل، والصدع بالحق، والحيلولة دون ما آلت اليه احوال الاحزاب المتناحرة والطوائف المتدابرة المؤدي إلى خلل مخيف في الوحدة الفكرية والوطنية، ويكفي أن نلقي الضوء على «تسعين» حزباً من الأحزاب والطوائف والأعراق في «العراق» التي تقدمت بمشاريعها السياسية للحاكم بأمره «بريمر» ليكون لها نصيب من «الكعكة» المتعفنة.
ومجيء فكرة المركز في أجواء عالمية ملتاثة ملوثة، وعلى مدرجة ملغومة، وفي ظل حذر وترقب عالمي مفجوع، تتطلب الدخول بنوايا حسنة، وأهلية تامة، وإمكانيات: حسية ومعنوية، واهتمام بالذات، وعدول عن منازعة الناس أشياءهم، وعلينا أن نعرف أن الظروف التي تحيط بالأمة ظروف عصيبة، تتطلب التسامح، والوئام، وتغليب المصلحة العامة، ونجاح أي مؤسسة يقوم على الثقة والصدق ووعي الواقع وامتلاك الآلية والمنهج، ومن ثم فإن المركز يتطلب إعداد لائحة تنظيمية، ورسم خطة دقيقة، ووضع ضوابط يرجع إليها عند الاختلاف، مع قيادة حكيمة، وأجواء علمية مناسبة، ومركز معلومات وطنية، ودورية محكمة، تعالج مختلف القضايا، وتطرح مختلف الرؤى، وتوثق البحوث والحوارات والتوصيات، واستفادة من تجارب من سبق ك«منتدى الفكر العربي» و«مؤسسة الفكر العربي»، و«مؤسسة زغبي الدولية» وكافة التجمعات الفكرية، فإما أن نستفيد أو نتعظ.
ومن تصور أن المركز حين تلتطم فيه كل الاطياف، وتصطرع فيه كل الآراء والتصورات والثقافات سيسير على مايرام، وان الاختلاف لن يكون، وأن موائده ستكون سمناً على عسل فقد وهم، واضاع الفرص المواتية، وعلينا في ظل كل التوقعات أن نروض أنفسنا لجدل مرتفع النبرة، لا تتطابق معه وجهات النظر، ولكنها تتعايش وتتجانس، وحين استهل الأمير كلمته ب«التعاون على البر والتقوى»، فإنما يريد الا يكون اثم ولا عدوان، واذا ادى التجمع إلى تعميق الخلاف، والتهاب المشاعر واتساع التصدع فإن من الخير للأمة ان تعود إلى ما كانت عليه، ومن بوادر الفشل دخول الأطياف بقضايا فكرية مسبقة وبأفكار مبرمجة، وبمرجعيات متعددة، وبضوابط متباينة، ومتى دخلنا بحثاً عن الحق، والتماساً للوفاق، وعلم الله منا ذلك، يسر أمورنا، وسدد حذفنا {وّمّا رّمّيًتّ إذً رّمّيًتّ وّلّكٌنَّ اللهّ رّمّى" }.
واذ يكون تعدد المشارب والتوجهات قضية مسلمة فإن الاختلاف سيكون، وعندئذ لابد أن يتفق الجميع على مسلمات وثوابت، لا يطالها الاختلاف: «العقيدة»، و«وحدة الوطن»، و«ثوابت الحضارة»، و«مسلماتها»، فإذا احترم الجميع الثوابت الدينية، وآمنوا بأهمية الوحدة الوطنية، فليكن بعد ذلك مايكون، ومصير المركز بيد النخب الوطنية، وعليهم أن يبادروا بكل ما أوتوا من قدرة، وأن يتلقوا هذه الرغبة بكل ما تتطلبه من إمكانيات معرفية وأخلاقية.
والإشكالية ليست في إنشاء المركز، فذلك سهل وميسور، وإنما هي في مخاضاته ونتائجه والأطياف التي ستلتقي فيه والقضايا التي ستطرح على موائده، ومدى تمثل المؤتمرين لأدبيات الحوار، واستجابة الدولة لنتائجه، والأمة أحوج ما تكون إلى التلاحم، فالأعداء يحيطون بها من كل جانب، والمكائد والتآمر والغزو على اشده، وقد نجحت بعض الاختراقات التي أثرت على أمن الوطن، والعلماء والمفكرون هم الردء المعنوي الذي يشد أزر المؤسسة السياسية، ومع كل ما نراه من ظروف غير مناسبة فإننا متفائلون بنجاح هذا المشروع الحضاري.
وعلينا في نهاية المطاف أن ندخل أروقة المركز بأهداف وضوابط:
** نعرض الآراء ولا نفرضها.
** ونستمع لآراء الآخرين ولا نصادرها.
** نحترم تكافؤ الفرص، ولا نغمط الحقوق المكفولة.
** لانثير الشكوك، ولا نسيء الظنون.
** نؤسس للمعارف، ونؤصل للقضايا، ونقارب بين المفاهيم.
** نتسامح ولا نتعصب، ونسعى للتقارب أو التعاذر.
** نحكم العقل، ولا نتبع الهوى.
** نهمش الطائفية والمذهبية، ونرد إلى الله والرسول.
** لا نتحرج من سؤال أهل الذكر، ولا من التوقف عما خفي.
** نحترم العلماء، ولا نصنمهم، وندعم السلطة، ولا نكتمها الحق.
وإذا عزمنا فلنتوكل على الله، { وّمّن يّتّوّكَّلً عّلّى اللّهٌ فّهٍوّ حّسًبٍهٍ }

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved