Thursday 11th september,2003 11305العدد الخميس 14 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

وقفة مع مثال رائع للمودة والرحمة وقفة مع مثال رائع للمودة والرحمة
عادل علي جوده (*)

في رحلة «إلى حد ما» طويلة، استمرت حوالي تسع عشرة ساعة، من العاشرة وخمس وأربعين دقيقة صباحاً حتى الخامسة فجراً، انطلقت الحافلة على بركة الله من مدينة الرياض الحبيبة بفئتين من المسافرين، الأولى تتجه نحو المملكة الأردنية الهاشمية، والأخرى نحو جمهورية مصر العربية، وكان مخطط المؤسسة التي تتبع لها الحافلة ان يواصل مسافرو الفئة الثانية رحلتهم إلى مصر بحافلة أخرى تنتظرهم في مدينة تبوك، وكنت وأسرتي من مسافري الفئة الأولى، وقد فوجئت بهذا الأمر بعد ان تحركت الحافلة، وانزعجت حقيقة لذلك، فالطريق التي اعتدنا عليها ستتغير إلى طريق أخرى تحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد.
إلا أن ذلك الانزعاج تلاشى تدريجياً دون أن أشعر، وتلاشت أيضا هموم السفر كلها، إذ يسّر الله سبحانه وتعالى براكبين في منتصف أو أواخر الستينات من عمرهما «رجل وزوجته» من أبناء الجالية المصرية، تجمعهما علاقة تتألق مودة ورحمة، شاهدت ذلك بأمّ عيني وأحسستها بوجداني في الاستراحة الأولى التي كانت بعد ثلاث ساعات من انطلاقة الحافلة، الزوجة تحتاج إلى من يعينها ويساعدها ويأخذ بيدها، إلا أنها أحسن حالاً من زوجها.
في تلك الاستراحة تجلى أمام ناظري إبداع هذه الزوجة في رعاية زوجها، لقد غادرت الحافلة ويدها ممسكة بيده، يسيران ببطء وحذرٍ شديدين، ثم يدخلان المطعم جنباً إلى جنب، فتتولى هي تحديد نوع الطعام، ثم تقطع الدجاج وتضعه أمامه، وتناوله الملعقة والخبز، وتفتح له زجاجة العصير، فيأكلان ويتبادلان النظرات والهمسات والابتسامات، فإذا انتهيا من تناول الطعام تبدأ هي بتقطيع الفاكهة وتفتح يده اليسرى وتضع فيها منديلاً، وعلى المنديل تضع الفاكهة قطعة قطعة، فإذا تناول قطعة ووضعها في فمه، تأكل هي قطعة، وفي نهاية الوجبة ترفع حبات الأرز التي تكون قد تساقطت على بنطاله «كما لو كان ابنها المدلل»، ثم تأخذ بيده إلى المغاسل، فتناوله الصابون وتقف بجانبه، تراقبه وتتأمله وهو وينظف يديه وفمه، ثم يحين موعد التمشية، فإذا هما حبيبان عاشقان متألقان يلتقط كل منهما ريشته ويرسمان معاً لوحة رائعة تهتف محبة ورأفة.
أسعدنا «أسرتي وأنا» هذا الشعور، ودون أن ندري وجدنا أنفسنا نتبادل معهما أطراف الحديث، فعلمنا ان الزوج أجرى عملية جراحية في إحدى عينيه منذ أيام قليلة، وأنهما ليسا وحيدين، بل لهما من الأبناء أربعة «ثلاثة أولاد وبنت» وجميعهم أتم تعليمه وتزوج واستقر مع أسرته.
وفي مدينة تبوك غادر الزوجان مع الفئة الثانية إلى الحافلة الأخرى المتجهة إلى مصر، وافترقنا، ولكن جسدياً، أما طيفهما فلم يغب عن مخيلتي، قلت في نفسي إيه يا دنيا! ما أعجبك! أهكذا تكون النهاية؟ أيعقل ان يتركا وحيدين في مثل هذا العمر وفي رحلة طويلة كهذه؟ تساؤلات كثيرة استوقفتني طويلاً!! ولكنني في النهاية تركتها لأعود إلى تلك العلاقة الحميمية التي تجمعهما، وهمست داخلي: «لله درها من زوجة»، وإكراماً لها وتقديراً لأناقتها ورقتها وحنانها ومحبتها ورأفتها، أعلنت «داخلي أيضاً» ان المرأة ليست فقط نصف المجتمع بل هي أكثر من النصف بكثير».
نعم.. المرأة أكثر من نصف المجتمع، هذه حقيقة، ولكنها غابت عن أولئك الذين سرعان ما انهزموا أمام خلافات كان من الممكن السيطرة عليها وحلّها بقليل من الصبر والحكمة، فتسببوا بعنادهم أحياناً، وبجهلهم أحياناً أخرى، في انهيار عروشهم الزوجية، وسجلوا أسماءهم في كشوفات المطلقين والمطلقات، ظناً منهم بأن الطلاق هو الحل، فكانت النتيجة الندامة يوم لا ينفع الندم أولاً، ثم مواجهة المشكلات الحقيقية، مشكلات ما بعد الطلاق، وذائقوا الحنظل يدركون العلقم.
ومع الأسف ان هذه الحقيقة ما زالت تغيب عن الأزواج المتخاصمين مع زوجاتهم وخصوصاً أولئك الذين هم في بداية مشوارهم، وهم كثر تعجّ بهم المحاكم الشرعية، وجلّهم باستسلامه لشياطين الإنس والجن لم يعد بمقدوره التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، ففتح الباب على مصراعيه للشقاء والحقد وربما الظلم والجبروت.
تُرى ألا تستحق لوحة صاحبينا وقفة صادقة مع النفس نتأمل فيها خلافاتنا لندرك بما لا يدع مجالاً للشك بأن الحياة أجمل وأسمى وأعظم من تلك الخلافات مهما عظمت؟!
والله سبحانه وتعالى يقول
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved