Thursday 18th september,2003 11312العدد الخميس 22 ,رجب 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شؤون وشجون شؤون وشجون
مجالس الأحياء النسائية
د. فوزية عبدالله أبوخالد

في بعض لمحات طفولتي في صيفيات الطائف أو بالمشاتي الممتدة وبين الرياض وجدة كنا نعيش أحلى لحظات التقارب بيننا وبين أهالي الحي من تبادل الأطباق عبر جسور الأسطح المتجاورة الى تبادل الأسرار والتجارب بين النساء وتقاسم الخبرات والمنافع بين الرجال والمشاركة في التحضير للأفراح كما المشاركة في تحمل أعباء ما يعترض الحياة الاجتماعية من اشكاليات.
مازلت أذكر بنات وأبناء الحي من الأطفال في عمري وأكاد من الذاكرة اسميهم واحدة واحدة وواحدا واحدا وارسم ملامحهم المتوهجة التي لم تمتد الى سراجها يد الزمان وان بعد. من الذين أكلت معهم الحوة والقرقاص من «كشتات» البر المشتركة، تراشقت معهم بالبرد أو تعاركت معهم على لعبة المشاية «السنكير في هذا الوقت» أو تسابقنا على «السياكل» الى الذين مشينا معا في زفات الأعياد والعودة من المدرسة. كنا أطفالا بعدة أمهات يشاركن دون تردد في صحونا وأمطارنا، في تطبيبنا وفي تعليمنا حس انتماء غير سلبي أو مرائي للمكان الذي نعيش فيه ابتداء من الحي الى أبعد آفاق الوطن.
غير ان تلك الصيغة العفوية للتحابب بين سكان الأحياء وللتعاون على ما فيه تلبية للحاجات المشتركة أو المختلفة لهؤلاء السكان اضمحلت ان لم تكد تندثر وربما لم تعد ممكنة حيث لكل زمان أدوات وآليات للعمل ولتلبية الحاجات تختلف عن الآخر باختلاف البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمع. وهذا يطرح سؤال ضرورة ايجاد «صيغة جديدة» للعمل الأهلي التعاوني بين سكان الأحياء بما يتكيف مع المتغيرات الكمية والنوعية التي مر بها المجتمع السعودي والتي أدت وتؤدي الى تغير الوظائف الاجتماعية في ظل الاستعاضة عن البنى الأولية للمجتمع والدولة ببنى المؤسسات الأكثر تركيبا. وإذا كان بالامكان سيسيولوجيا تحديد بعض العوامل التي أدت الى اختفاء ذلك الزخم الاجتماعي العفوي، الذي كان، خلف أسوارنا العالية المسلحة التي تزامن بناؤها مع قدرتنا الاقتصادية على التطاول في العمران خاصة في أوج الطفرة النفطية فإنه بالامكان أيضا البحث في البدائل التي لا تتجاهل التعامل مع المستجدات وضرورياتها الاجتماعية فمن العوامل التي لعبت دورات في تقليص تلك «التعاونيات العفوية»من أنماط السلوك الجمعي داخل الأحياء الوتيرةالمتزايدة لارتفاع عدد السكان، الامتداد الأفقي للمدن خاصة المدن الرئيسة كمكة المكرمة والمدينةالمنورة والرياض وجدة والدمام والتعدد النوعي للسكان من المناطق المختلفة. هذا بالاضافة الى عامل رئيسي آخر لعب دورا في تراجع روح العمل الأهلي بين السكان وهو الاعتماد ان لم يكن الاتكالية الكاملة على الدولة في تلبية الحاجة الى الخدمات من تخطيط الأحياء وامدادها بالسفلتة والانارة والماء والكهرباء الى توزيع المدارس والوحدات الصحية. ليس هذا وحسب بل بلغ الأمر ان سكان الأحياء صاروا غير قادرين أو بالأحرى غير راغبين في بذل أي مجهود أهلي للعمل ولو كان ذلك بتقديم المقترحات وتحديد المطالب. وليست الطرفة أو الملحة «النكتة» التي كان يتم تداولها عن أحد الأحياء التي قيل فيها ان سكانه اجتمعوا وكتبوا عريضة الى مسؤول حكومي يطلبون فيها ان تفتح «الحكومة الرشيدة أعزها الله» لهم «سوبر ماركت بندة» وتفتح في حيهم فرعا لأحد فروع المطاعم الأمريكية الشهيرة للوجبات السريعة إلا تأكيدا وليس نفيا وان جاء بشكل تهكمي على الاعتمادية التي تفشت وكادت تعطل أي عمل تعاوني أهلي لتحسين أوضاع الحي أو للتعبير عن حاجاته إلا في أضيق الحدود. فإذا كان من المستحيل بحكم سنة التغير التي أجراها الله في خلقه اعادة عقارب الساعة الى الوراء لتعود أيام الفزعة بين الجيران والتنادي لتعمير الحي وتطويره وتلبية حاجات نسائه وأطفاله بنفس تلك الأساليب العفوية التي تحدث عنها على سبيل المثال الروائي حمزة بوقري في روايته سقيفة الصفا حين كان أهالي الأحياء بمكة المكرمة «مسرح الرواية» يلتزمون المشاركة المالية والبدنية كل حسب طاقته في اضاءة شارع أو تعمير مدرسة أو في اقامة رباط وإذا كنا ندعو الله ألا نعود الى الظرف المالي والتقني الذي نحتاح فيه لمثل هذه الأساليب الأولية في العمل الأهلي فإن هذا لا يعني ان نتمتع بتعطل العمل الأهلي وان كان في ذلك تعطيل لحس العمل والانتماء والمشاركة الاجتماعية. ان الأمر في رأيي على العكس من ذلك إذا أصبح أحد المقاييس الفاصلة لقياس درجة التنمية في المجتمعات المعاصرة من عقد التسعينات وطالع ليس فقط ما توفره الدولة من خدمات ولكن أيضا درجة المشاركة الاجتماعية في الشؤون والشجون العامة من موضوعية الخدمات العامة الى المشاركة الثقافية والسياسية من «قاعدة» الأحياء الى لامركزية العمل والتطوير في المقاطعات والمناطق المختلفة. بكلمات أكثر تحديدا أصبحت درجة تبلور مؤسسات المجتمع المدني ووجود قنوات تفاعل وتكامل بينها وبين المؤسسات الرسمية هي أحد تحديات تنمية المجتمعات لتطويرها. وهذا يشمل انخراط الرجال والنساء من أبناء الوطن الواحد في ايجاد الصيغ التي تتيح هذه المشاركة. ويبدو لي ان ليس من الصعب ان نبحث عن الصيغ التي تلائم وعاءنا الحضاري والاجتماعي لتحقيق ذلك ويمكن في ذلك تفعيل بعض مرجعيات العمل القديمة واستحداث بعضها الآخر لنصل الى شكل يكون فيه العمل التعاوني الأهلي انطلاقا من الأحياء السكنية ومن خلال العمل على قضاء حاجاتها اليومية نواة للمشاركة الاجتماعية والسياسية في المجتمع.
فمقابل تلك الصورة الرومانسية المبتعدة من صور التفاعل والتكاتف بين أبناء وبنات الأحياء التي عشتها في طفولتي على أرض وطني والتي لم تعد موجودة إلا بالكاد ومقابل التباعد الذي نعيشه اليوم في الأحياء الجديدة بوطننا والتي لا يكاد يعرف فيها الجار جاره ناهيك ان يعرف شؤون الحي وشجونه وحاجاته ويشارك في حلها، أذكر كيف أنني حين تغربت بأمريكا وجدت في مجلس الحي الذي كنت أسكن فيه بمدينة بورتلاند بولاية أوريجن ما يعوض ركض الحياة الطلابية اليومي ويكسر صقيع الغربة المزدوج الذي قد يشعر به المغترب في مجتمع تتعدد فيه الخلفيات الثقافية والاجتماعية وتتباعد التوقعات وتتنوع الحاجات. ففي اطار خدمات الحي «community services» يُطور حس عام لدى القاطنين في الحي بالانتماء الى وحدة من وحدات المجتمع العام تتشارك في تلبية مطالب الأسر وسكان الحي وفي توفير الخدمات العامة من المسابح العامة والوحدات الطبية الى توفير دروس مجانية في اللغة الانجليزية بمدارس الحي أو بتوصيل خدماتها الى البيوت في حالة تعذر انتقال صغار السن أو الكبار في العمر من المنتمين للحي الجدد الذين قد لا تتوفر لهم سبل التفاعل الاجتماعي العام الذي يكسبهم اللغة أو لا يمتلكون من مفردات اللغة ما يمكنهم من ذلك التفاعل. وقد كانت تلك المجالس في حينا وقتها والأحياء الأخرى تشكل وسائط مؤسساتية فاعلة ليس فقط بين المؤسسة الرسمية وبين سكان الأحياء ولكن بينها وبين مؤسسات المجتمع المدنية الأخرى. وقد كانت هي نفسها تتمتع بهيئة اعتبارية في التمثيل السياسي والاجتماعي داخل البناء العام للمجتمع.
أما في بريطانيا فقد حضرت الجلسات الدورية المفتوحة لمجلس المدينة «City Hall» التي كنت أدرس فيها في مرحلة لاحقة ورأيت كيف يجتمع ممثلون وممثلات عن الأحياء ويقومون بطرح تصوراتهم ورؤاهم ليس فقط في تطوير الأحياء وحل اشكالياتها الثقافية والاجتماعية والصحية والبيئية ومحاولة الاستجابة لمطالبها بل وأيضا في تطوير المدينة ككل بل وفي تطوير النظام العام واقتراح التشاريع التي تسهل العمل على عمليات التطوير المطلوبة أو المتوقعة. ففي إحدى تلك الجلسات التي حضرت كان النقاش يتعرض لواحدة من القضايا التي تتعلق بصلب النظام التربوي والتعليمي وهي قضية «اختيارات الطلاب للغة الثانية التي يفرض على طلاب التعليم العام في بريطانيا تعلمها وقد كانت اللغة الثانية التي يتاح للطلبة تخير دراستها حتى ذلك الوقت قصرا على اللغات الأوروبية. فإذا بعدد من ممثلي وممثلات الأحياء السكنية ذات الغالبية المسلمة يقترحون «وينافحون» بأسلوب ديموقراطي «مؤيدين أو معارضين بسواهم من أحياء أخرى» عن حق الطلاب بريطانيين أو مقيمين في الاختيار بأن تكون اللغة الأخرى التي يتعلمونها في المدارس البريطانية بالاضافة الى اللغة الانجليزية هي اللغة العربية وألا يكون الاختيار حكرا على اللغات ذات الأصل اللاتيني في مجتمع تتعدد أصول وثقافات تركيبته السكانية وبنائه الاجتماعي.
أما ما يدفعني اليوم لتناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل والتحليل فهو من باب التزكية وتقديم اقتراح محدد بتعميم التجربة وتطويرها مما جاء عن المبادرة المكية باقامة مجالس أحياء للنساء بمكة المكرمة. فقد قرأت بجريدة البلاد ليوم الجمعة الماضي 15/7/1424هـ هذا الخبر الذي جاء فيه التالي: «سيرا على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التواصل مع الجار وابراز حقوقه وواجباته جاءت فكرة ايجاد مجالس الأحياء النسائية» إن الفكرة كما جاء في الخبر تقدمت بها د. مريم الصبان بهدف خلق ترابط بين جمعية أم القرى النسائية الخيرية بمكة المكرمة وبين المجتمع من خلال انشاء مجلس في كل حي لنشر الوعي والارتقاء بمستوى المرأة. وهي تهدف أيضا الى تعريف سكان الأحياء بخدمات الجمعية وتلمس حاجات كل حي لنوعية الخدمات المطلوبة وبث روح العمل التطوعي بين نساء الحي مما ذكرته نائبة رئيسة مجلس الأحياء د. هانم ياركندي. وفي هذا فإنني أجد ان الفكرة فيما لو طورت وعممت على جميع الأحياء بالمملكة ولم يقتصر عملها على حيز التعاون مع الجمعيات الخيرية النسائية وحدها بل عمم على قطاعات أوسع من مؤسسات المجتمع لا تقل أهمية عن مطالبة مشاركة المرأة في مجلس الشورى أو تمكينها من المشاركة في الشأن النسائي في مواقع اتخاذ القرار. ان فكرة إقامة مجالس للاحياء تنظم العمل الأهلي وتجد له ضوابطه وآلياته القانونية في العمل والتطوير وفي تحديد وليس مجرد تلمس حاجات الأحياء وخلق لحمة اجتماعية بين سكانها على أسس الانتماء الوطني وليس الانتماء «القرابي» وحسب ما يشيع في بعض الأحياء وعلى أساس التعاون بين مؤسسات المجتمع الأخرى ذات العلاقة بهيئاتها الحكومية والمدنية فكرة تستحق الأخذ بها في هذه اللحظة الملحة بالمقتضيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتكاتف المجتمع وتدعيم وحدته من خلال التفعيل الحضاري لتنوعه وتعدديته. وفي هذا الاطار تصبح مجالس الأحياء النسائية رافداً أساسياً من روافد مشاركة المجتمع برجاله ونسائه في الاستجابة للتحديات.
لا أريد ان استطرد ولكن لدينا أحياء ككل مجتمعات الأرض تئن بأوجاع الفقر والجهل والتفكك الأسري والتعطل الشبابي وسواها من المشاكل مما لا يعرف أسرارها غير النساء ولا يمكن مداوتها بعيدا عنهن. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved