|
|
قبل بضع سنين أثناء دراستي في بريطانيا، وصلت لمرحلة قراءة أمهات الكتب الفكرية المكتوبة بالإنجليزية مباشرة دون وسطاء يترجمون أو يفسرون أو ينقلون باجتزاء النصوص من سياقها. حينها انتابني شعوران متناقضان؛ الأول شعور بالزهو والغرور الطفولي لرضيع ظن أن مقدرته على المشي تعني استقلاليته، والثاني شعور بالحسرة الممزوجة بالصدمة على مقدار التشويه المريع الذي مارسه كثير من ناقلي تلك المعارف إلى العربية عبر منظومة مفاهيم ولغة ومعايير تكنُّ الاتهام المسبق للآخر، أو تتماهى مع فكرة الآخر وتذوب في عشقها ممارسة تحريفها بما يتوافق مع عقلية قديمة مشحونة بالعواطف السلبية المنحازة. ومن حينها شغلتني مسألة هذا التشويه، وكيف أدت بنا إلى عدم القدرة على فهم مواقف الآخرين في كثير من الحالات، مما أدخلنا في دوامات وصراعات مع الآخر نحن في غنى عنها. وفي هذه العجالة سأجتهد باختصار مقتضب عرض ما أراه أهم المقومات أو الأساليب المباشرة التي تعمل على تشويه الآخر الغربي من ناحية أفكاره وقناعاته ومصالحه وسلوكياته. أول ما يمكنني ملاحظته من الأساليب التي تشوه فهمنا للآخر (سواء كان فرداً أو تياراً أو أمة) هي عدم الاطلاع على أعماله الفكرية، و/أو النقل من خصومه أو مناصرينا؛ حيث يكتفي غالبية كتابنا بنقل أراء ثقاتهم أو مناصريهم التي تقدح في أفكار الآخر دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الاطلاع على المصادر الأصلية ومنابع هذه الأفكار وسياقها التاريخي، بحيث تحوَّل الاطلاع كما سمَّاه أحد الأصدقاء إلى «فرض كفاية» إذا قرأه فرد من تيار أو جماعة كفى الآخرين النخبويين مؤنة جهد الاطلاع(عبد الله الكويليت)!. الانتقائية في النقل يستتبعها الاستشهاد بأقوال أفراد قلة ينتمون للآخر أو يعيشون بين كنفاته ويتهمونه أو يدينونه بطرق حادة أو متطرفة. هذا الاستشهاد يأتي على طريقة شهد شاهد من أهلها!! ورغم أن مثل هذا الاستشهاد له قيمة معرفية لا تنكر في فهم الآخر، إلا أنه لا يُعوَّل عليه كثيراً بمعزل عن الاستشهاد بنصوص وقناعات التيارات الرئيسة لدى الآخر. فهؤلاء القلة لا يمثلون تيارات أساسية في مجتمعات الآخر، ومن ثم فإن لهم رؤيتهم أو مواقفهم الخاصة من الأحداث والوقائع. وحتى في بعض الحالات التي تصدر بها التهم من فئات أو شخصيات عامة وذات ثقل كبير في مجتمعات الآخر فإن الأمر لا يخلو من تداعيات أو إرهاصات صراع داخلي (مثل قرب الانتخابات) تخص مجتمعات الآخر، تفيد في فهم طبيعة التنوع أو التحوُّل في تلك المجتمعات أكثر من فائدتها في إثبات صحة الاتهامات الموجهة للآخر. الانتقائية في النقل الفكري والنظري عن ومن الآخر تقود إلى الانتقائية في الواقع المعاش عبر التقاط الأمثلة الواقعية السيئة النادرة وتعميمها أو اعتبارها نموذجاً للآخر. ففي كل حالة من النشاطات البشرية ثمة أخطاء وعندما تتحول طريقة تعاملنا مع الآخر إلى رصد أخطائه دون غيرها فإننا لن نتمكن من فهم أفكاره ومنطلقاته وأهدافه في سياقها الطبيعي. على سبيل المثال أتاني إميل من صديق ينقل خبراً مفاده أن أحد المطاعم في دولة غربية يقدم الطبق بطريقة مبتذلة مع امرأة عارية، ثم شن هجوماً على الحضارة الغربية قاطبة وكيف وصل بهم الانحدار كالبهائم.. وهذا يشبه كثير من الأمثلة الشاذة التي تتناولها وسائل الإعلام مثل كلب أو قطة ترث ملايين الدولارات، ونحن ننسى أن هذه أمثلة نادرة، ومن أجل ذلك نشرت في الإعلام لغرابتها وليس لأنها تمثل طبيعة وحضارة الآخر. ويمكنني أن أطرح مثالاً نادراً مناقضا، وهو ما تناقلته وسائل الإعلام الأسبوع الماضي لعامل باكستاني مسلم في أمريكا، طُرد من شركته بسبب غيابه ثلاثة أيام فقط، وأقام دعوى قضائية على الشركة بسبب التمييز الديني، وكسب الدعوى مع تعويض مقداره مليوني دولار!! هل هذا المثال يعني أن المسلمين هناك يعيشون في أعدل البقاع؟؟ |
![]()
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |