Tuesday 30th september,2003 11324العدد الثلاثاء 4 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

في ورقة بحثية حول فلسفة المال والجمال في ورقة بحثية حول فلسفة المال والجمال
أ د .المناعي يدعو رجال الأعمال إلى ترشيد الإعلان وزيادة الثقافة النوعية

* عرض أحمد الفهيد:
تحدث الاستاذ الدكتور مبروك المناعي استاذ التعليم العالي مدير دار المعلمين العليا - تونس في ورقة العمل التي قدمها عن رأس المال العربي ودوره في تنمية الثقافة في الوطن العربي، وهو عبارة عن بحث في صلة المال بالجمال ويناقش الرعاية الأدبية في الثقافة العربية.
حيث تحدث الباحث عن دور المال في تنمية الثقافة وفكرة اثر المال في الجمال من خلال استعراض تاريخ الشعر العربي، واضاف:
هذه الظاهرة لئن عرف الغرب مشابه منها من خلال حركة الماسونيّة «Mecenet» في الماضي، ثم من خلال حركة رعاية الآداب والفنون والرياضيات «Sponsoring» في الحاضر، فإن لها في ثقافتنا العربية قدماً راسخة وتاريخاً عريقاً مشهوداً بأهميته من قبل الغربيين أنفسهم.
ولمّا كان الشعر أول ألوان الأدب العربي وأعرق مظاهر الثقافة العالمة فإن اقدم مظاهر الرعاية الأدبية وأكثرها وضوحا قد اقترنت به أولا وأساسا. ولذا فإننا نولي رعاية الشعر الأهمية الأولى وإن كنا جميعا نعلم أن النثر الفني والموسيقي والغناء وسائر مكونات الثقافة، قد حظيت بشتى صنوف التشجيع من قبل أولي الأمر واصحاب المال وأقطاب الجاه في مختلف مراحل الحضارة العربية، ويكفي لتجسيم هذه الفكرة أن نذكر أن مترجمي «بيت الحكمة» ببغداد على عهد المأمون كان الواحد منهم ينال مثقال ما يترجم من كتب الحكمة ذهباً وان ابا الفرج الاصبهاني قد نال على تأليفه «كتاب الاغاني» الف دينار من دنانير القرن IV هـ.
ولئن كانت مسألة «الرعاية» المقصودة هنا ماثلة في مستوى الجمهور المتلقي. ولا سيما الكتل الاجتماعية الفاعلة وقوى الاستقطاب والتوجيه السياسية والمالية، فإن مقابلها، وفي مستوى مصادر الإنتاج الأدبي هو مسألة «التكسب»: وأصل التكسب طلب الرزق والاجتهاد في تحصيله بجميع الطرق. ومن ثم فإنه ظاهرة عامرة جدا تتجاوز - نظريا على الأقل - التوسل بالشعر او الأدب في الكسب، غير أن استعمال هذا المصطلح في النقد الأدبي - وهو الغالب على استعماله - ضيق في مجال الكلمة فربطها بتحصيل المال بالشعر بشكل خاص.
وقد اتضحت لنا عبر ممارسة الشعر كيفية ظهور التكسب في الثقافة العربية، ثم تطور المشغل المالي للشاعر والوظيفة المالية للقصيدة وإفضاء التكسب بالشعر إلى «مبادلة» بينه وبين المال، وتحوله في جانب هام منه إلى «حدث اقتصادي» وأداة تبادل يتحصل بها على المال العين او المال النقد. واتضح لنا كذلك كيف أصبح الشعراء «فئة عاملة» كغيرهم من أصحاب الصناعات تقريبا يرتزقون مما لهم من مواهب ومهارات خاصة ويتنافسون وهو ما تزيد ايضاحه اخبارهم: فقد ذكر ابو الفرج ضمن اخبار حماد عجرد انه» لم يتكسب بصناعة غير الشعر» وتواتر في حديثه عن شعراء التكسب ذكر «الخدمة» و «الاستخدام» وفي أخبار مروان بن أبي حفصة وسلم الخاسر وابي العتاهية وأبي نواس وأبان اللاحقي بالخصوص أمثلة معبرة عن تنافس ابناء «المهنة» الواحدة الذي قد يؤدي إلى الخصومة والتهاجي، مما سببه اتحاد مصادر التمول واشتراك الشعراء في «الطبقة»: ذلك أن الشعراء كانوا يتوزعون على حماة الأدب كل بحسب صنفه واسمه ورسمه وهو يظهر، على سبيل المثال، في ما قاله ابو الفرج عن ابي الشيص من أنه «كان متوسط المحل في شعراء عصره غير نبيه لوقوعه بين مسلم بن الوليد واشجع وأبي نواس فخمل وانقطع إلى عقبة بن جعفر بن الاشعث الخزاعي، وكان اميرا على الرقة، فمدحه بأكثر شعره».
وقد ارتبط الشعر العربي - المدحي منه بالخصوص - منذ الجاهلية بالجوائز والعطايا، ولا تهمنا صحة ما ذكره الشعراء والاخباريون او خطؤه فيما يتصل بما نال المادحون على المدح لان نظرتنا إليه نوعية لا كمية. بل إننا موقنون بأن الكثير مما صرح به الشعراء من هبات نالوها بالشعر إنما ذكر اغلبه على رجاء ان يحصل. غير أن هذا لا يغير كبير شيء من طبيعة ارتباط شعر المدح بالمال ومن اتخاذ الشاعر العربي الشعر مكسبا وأداة ارتزاق واتضاح وظيفته المالية عنده وهدفه المالي منه سواء كان ذلك بصورة ضمنية او صريحة مما فيه تدرج من مجرد الإشارة اللطيفة المكنية عن التماس الجدوى إلى الطلب الصريح المعبر عنه «بالاستمناح» إلى التوسل والعتاب والاستنجاز والاقتضاء والسؤال، ومما فيه تأثر باقتصاديات العصر وبقيمة الشاعر ومقام الممدوح.
ولئن كانت أشهر صيغ التكسب بالشعر هي التكسب بالمدح وتوابعه ثم بالهجاء فقد تبين لنا أن الشاعر قد ينال المال من غير هاتين السبيلين ويعطى العطايا الرغاب مقابل الاثر الجمالي البحت الذي يحدثه شعر له لم يقله لغاية تكسبية ظاهرة، فيكون المال في هذه الحال ثوابا على «قيمة» الشعر الذاتية ويصبح للقصيدة مقابل مالي يأتيها لا من حيث صلتها بخطة الخطاب وإنما من حيث موافقتها لافق انتظار جمالي وقيمي يوجد خارج دائرة الشاعر، ويصبح الشعر هو الساعي لصاحبه سعيا ذاتيا: ذلك انه قد استقر في الذائقة العربية ان تعبير الملتقي المتميز للشعر عن الاستجادة والطرب يكون - من اهم ما يكون به - بإثابة المبدع على إبداعه بالمال، وان رد الفعل على الجمال يقع بالمال. ومن الامثلة المجسمة لهذه الظاهرة ما كافأ به جعفر البرمكي مروان بن ابي حفصة حين سمع مرثيته في معن بن زائدة التي مطلعها «وافر»:


مضى لسبيله معن وأبقى
مكارم لن تبيد ولن تنالا

حين علم أنه لم يثب عليها. ومن هذا القبيل ايضا الجائزة السنية التي نالها خالد الكاتب على أبياته الغزلية التي استحسنها إبراهيم بن المهدي والتي منها قوله «منسرح»:


رطيب جسم كالماء تحسبه
يخطر في القلب منه مسلكه
يكاد يجري من القميص من
النعمة لولا القميص يمسكه

فالذي اثار رد الفعل المالي هنا ليس امتداح غرور المتلقي ولا خوفه لسان الشاعر وانما هو الانفعال الجمالي البحت، هو ما يؤكد لدينا أن الفاعل في صاحب المال - في صلته بالشاعر - ليس دائما الرغبة او الرهبة، وانما هو المثير الشعري الناجم عن اخص وظائف الشعر واكثرها تجاوزا للظرفيات وهو الشجو والطرب.وقد لاحظنا من جهة أخرى ان دائرة التكسب اتسعت ايضا من الشعراء الى رواة الشعر فتكسب هؤلاء به تكسبا اهميته الاولى في اعتقادنا انه يدعم ما نحن بصدد تبيانه وهو التكسب بغير شعر المدح والهجاء او بجيد الشعر مطلقا والعطاء على «الاختراع» لا على طلب المنفعة ودفع المضرة.
والذي نلاحظه في هذا الصدد أنه يوجد تناسب بين تطور الاحتراف في الشعر وتطور الاحتراف في الرواية: فقد كانت الرواية في الجاهلية وجزء من القرن I هـ ضربا من ضروب «الهواية» ثم صارت في اواخر عصر بني أمية واوائل العصر العباسي صناعة يتكسب بها المتكسبون ويرتزق من ورائها المرتزقون.
ولقد ذكر جل شعراء المدح ما كانوا ينالونه من مقابل مالي اما ذكرا عاما كحديثهم عن «النوال» و «الهبات» و «المواهب» و «العطاء» و «الندى» و «الجود» و «الحباء» و «اليد» و «الصنيعة» و «الثواب» و «النعمى» و «الجدوى» وغيرها.. او ذكرا مفصلا محسوسا يجسم انواع العطايا والهبات.
وقد تفطن بعض الذين نظروا في الشعر العربي منذ القديم الى أن المال والعامل المادي حافزان قويان من حوافز القول الشعري، وظهر هذا الوعي الناجم عن طول تدبر الشعر في القول المنسوب الى الأصمعي وهو أن «أشعر الناس امرؤ القيس إذا غضب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب». واهمية هذا القول انه يجعل «الرغبة» في المال إحدى العواطف الكبرى المتسببة في الشعر ويكشف عن كون اولى الآراء النقدية العربية قد اهتدى اصحابها الى ابرز مظاهر التحلب الوجداني الضرورية لابداع الشعر وجعلوا التعلق الحيوي بالمال واحدا منها.
ومعروف ايضا ان المراكز التي نشطت فيها حركة المدح - بل حركة الشعر مطلقاً - قد كانت «متنقلة» بتنقل نشاط الاستقطاب السياسي الفني قبل الإسلام وبعده، وان مواطن احتشاد الشعراء ومراكز ازدهار الشعر ونمائه كانت في الحيرة وجلق في الجاهلية ثم انتقلت الى الحجاز في صدر الاسلام ثم الى الشام في العصر الاموي ثم الى العراق في العصر العباسي، وان المُلْكَ - كما روى ابن خلدون عن زياد بن أنعم المحدث. «بمنزلة السوق يجلب اليها ما ينفق فيها»، وقد كان الشعر من أهم بضائع هذه «السوق» فكان اصحابه يكثرون منه ويجودون فيه ويرتحلون به إليها بما يكتسب به قول بشار بن برد «خفيف»:
يسقط الطير حيث ينتشر الحب وتغشى منازل الكرماء
تمام معناه.
وقد ذكر ابو الفرج الاصبهاني عن الفضل الرقاشي شاعر البرامكة انه «كان منقطعا الى آل برمك مستغنيا بهم عمن سواهم وكانوا يصولون به على الشعراء ويروون اولادهم اشعاره ويدونون القليل والكثير منها تعصبا له وحفظا لخدمته وتنويها باسمه وتحريكا لنشاطه..».
وهذا كلام تهمنا نهايته كثيرا لانها تؤكد ما نسعى في هذا المقام الى إثباته وهو أن عناية رعاة الشعر والشعراء قد كان وراؤها - من جملة ما ورائها - وعياً ظاهراً بأنها تتمثل في حفز الابداع الفني ورعاية المواهب وإذكاء الملكات.
واستمر في المدحيات العربية وفي ضمائر الشعراء ايضا معنى أن المال يشحذ القرائح ويلهم الفنان وأن «حياة» الشعر مرتبطة به ارتباطا وثيقا: وهو معنى قول ابي تمام لبعض ممدوحيه «خفيف»:
وحياة القريض احياؤك الجو
د فإن مات الجود مات القريض
وقد اتضح لنا ايضاً كيف يتسبب - المال - بحضوره - في شعر المدح اساسا، وكيف يتسبب - بغيابه - في شعر الاستهداء والاستنجاز والعتاب والهجاء، كما يتسبب في الكثير من شعر الرثاء والشكوى والتظلم والتأمل، ويفعل كذلك فعلا كميا غير مباشر في الشعر يتمثل في مقدمات المدح ولوازمه.. بل إن المال يتسبب حتى في الشعر غير المالي فيأتي بشعر الوصف الذي يرضي الخلفاء والكبراء ويتناول دورهم وقصورهم ويصف مجالسهم وجواريهم واشياءهم - مما يدخل في نطاق اللذة الملكية - ويأتي بالشعر الخمري الذي يستهلك في اجواء المنادمة واللهو وبالشعر الغزلي الذي يتناوله الملحنون بالموسيقى وتشدو به القيام في القصور والمجالس الخاصة.. بحيث إن الخمرية او الغزلية - التي تبدو في ظاهر الامر شعرا ذاتيا يراد به الفن او اللذة الخاصة او الحب والجمال - إنما هي شعر مالي بمعنى ما لانها تمتع الخلفاء والوجهاء وتبهجهم في اوقات انبساطهم وسرورهم: وهو معنى قول ابن رشيق عن العباس بن الاحنف:« وقد اخذ صلة الرشيد وغيره على حسن التغزل ولطف المقاصد في التشبيب بالنساء»..
بل إننا قد وقفنا على أن رعاية المال للثقافة قد شملت حتى شعر الزهد. فالمال لا ينتج شعر المدح وشعر الرثاء والهجاء فحسب، وانما هو ماثل - عند التأمل - وراء معظم اغراض الشعر ولوازمها ولاسيما في العصر العباسي حيث انسلخ الشعر عن اغراض القبيلة وأصبح مرتبطا بأوساط اخرى هي أوساط الاسر المالكة وارستقراطية المدن وأصبح الشاعر نجما «ينجم» في المجالس الخاصة فتصبح له في «بورصة» القيم الشعرية - ان امكن القول - قيمة ويصبح لشعره كله «سعر» كأي بضاعة رقيقة، و «يحترف» فنه ليعيش لان الشعر قد اصبحت له قيمة تبادلية حتى إذا لم يتحدث عن المال ولم يطلبه.
ولعل هذا الذي بيناه يوضح لنا احدى الخصائص الهامة في تاريخ الشعر العربي وهي أن قسما كبيرا جدا منه قد نجم عن ظاهرة رعاية الشعراء بالمال، وأن البلاطات ومجالس الأغنياء الخاصة قد اضطلعت بدور فعال في حدوث الشعر وتعاظم كميته وجودته على السواء، وأن الشعر العربي كان خلال مختلف مراحل تاريخه في حاجة إلى المال ليكون ويزدهر.
والذي يفضي بنا إليه التحليل السابق هو أن للمال في حدوث الشعر وتنوعه واتساعه كميا دورا بالغ الاهمية. غير أن المشغل المالي لا يكفي وحده لتعليل حدوث الشعر، بما في ذلك شعر المدح الصرف، لان للشاعر - باعتباره «عالم» الجماعة في دلالة تسميته الاصلية - وضميرها ولسانها رغائب وحاجات تتجاوز المال الى تطلب الكمال في الرجال ورسم ملامح الانسان «الممتاز» وتحديد الادوار الريادية في المجتمع وتعيينها وتزيينها حتى يسعى الناس اليها. كما ان المشغل المدحي، اي ارتياح الممدوحين إلى إشادة الشعر بهم ورفعه لشأنهم، لا يكفي وحده في تقديرنا لتبرير إغداق المال على الشعراء: فنحن لا نظن أن كبار الممدوحين ورموزهم في تاريخ الشعر العربي - لا سيما «المثقفون» منهم الذين عرفوا بولعهم بالأدب والفكر والفن - كانوا يغدقون المال إغداق اشخاص مغرورين على أناس كانوا يتملقونهم ويثيرون غرورهم وانما المسألة ابعد من ذلك واكثر تعقيدا: فقد كان راعي الادب فيما هو يجيز الشاعر يطيل لسانه ويشحذ موهبته ويشجعه على الابداع فيسدي بذلك الى الفن ومتطلبات المجتمع فيه خدمات جليلة.
وان ارتباط الجودة في الشعر بالمال - فضلا عما بيناه من ارتباط وجوده به اصلا وكميته - امر كان معروفا ومقبولا عند العرب منذ تكرس الاحتراف في الشعر اي منذ اواخر القرن الاول وبداية القرن الثاني على الاقل، وكان الشعراء والجمهور المتلقي للشعر والاطراف التي يقال فيها ولها يعونه تمام الوعي، وظهر منذ هذا العصر بوضوح تعليل الجودة في الشعر بتعظيم الجائزة والرداءة بقلتها وتفاوت انتاج الشاعر الواحد في الفن بتفاوت حجم المال الذي كان يقول شعره عليه.ويبدو لنا، على ما تقدم، ان التجويد في الشعر مأتاه ما سماه هيدجر «السرور الأقصى» الذي هو في رأي هذا الفيلسوف مصدر كل ابداع قوي مهما كان مجاله. ويبدو لنا ايضاً ان اخبار الشعراء مع كبار رعاة الادب انما اقترنت بنصوص إبداعية كبرى في التراث الشعري العربي وسجلت عن الشعراء «تصريحات» بعوامل الإجادة الخاصة التي صدرت منهم في هذه النصوص المتميزة. ولا تهمنا صحة هذه الاخبار بقدر ما تهمنا وظيفتها ودلالتها وهي دلالة جوهرها أن النص الشعري الكبير وراءه في أغلب الأحيان انفعال مالي كبير كائن قبل القول او ماثل في افقه.على أن هناك وجهاً آخر طريفاً يتمثل في أن الشعر ايضاً قد ينمي المال ويزكيه ويتسبب فيه او يزيد منه لما يجلبه من غنى ومنافع لمن يقال فيهم. ومن هذه الزاوية فان رعاية الابداع قد تتحول الى «استثمار» والشاعر قد يتحول، وقد تحول فعلاً في حالات بعينها، الى عون اقتصادي وطرف مالي، وهو ما يزيدنا ادراكاً لانخراط الثقافة - ممثلة بالشعر - في سلم القيم وحركة التبادل.
ثم ان رأس المال والنشاط المالي محتاج الى الثقافة والفن من سبيل اخرى مرتبطة بالسوق هذه المرة هي سبيل الاشهار: وهذه ليست ظاهرة جديدة على العرب لرسوخ قدمهم في التجارة والشعر معاً: فقد روى صاحب «الاغاني» ضمن اخبار سعيد الدرامي «وهو من الشعراء الظرفاء في القرن I هـ» ان تاجراً من الكوفة قدم المدينة بخُمر فباعها كلها وبقيت السّود منها فلم تنفُق، وكان صديقا للدرامي فشكا ذلك إليه، فقال له: لا تهتم بذلك فإني سأنفقها لك اجمع، ثم قال:


قل للمليحة في الخمار الأسودِ
ماذا فعلت بناسكٍ متعبدِ
قد كان شمّر للصلاة ثيابَه
لما وقفت له بباب المسجد

وغنى فيه فشاع في الناس، فلم تبق في المدينة ظريفة الا ابتاعت خماراً أسود حتى نفد ما كان مع العراقي منها!
وهذه المسألة عامة في الحقيقة اذ هي تتصل بأثر الخطاب الجمالي في مواقف الناس من المال، وهي ظاهرة في الخطاب الاشهاري الحديث الهادف الى انفاق البضائع وفي كونه خطابا «شعرياً» بمعنى من المعاني.
ثم انه، فضلاً عن تحريك الشعر اسباب المال وتحريك المال اسباب الشعر، قد يُحدث مدح الرجل بالجود والاشادة بذلك في الشعر لدى جمهور الناس انطباعاً بكونه غنياً فتحيط به هالة المال: مما يمكن ان نسميه «غنى الشعر»، وهو جزء من معنى قول البحتري في الفتح بن خاقان «طويل»:


اراك بعين المكتسي ورق الغنى
بآلائك اللاتي يُعَدِّدُها الشعرُ

فالشعر يُقتنى بالمال ولكنه يزيد من فائض الغنى في الغنيّ، ويوسع دائرة اشعاعه من حوله. بل اننا يمكن ان نزعم ان الممدوحين الذين بذلوا المال في «اقتناء» الشعر - ولا سيما اذا كانوا من الوزراء والولاة والقواد والعمال بالخصوص - انما كان يدفعهم إلى ذلك - من جملة ما يدفعهم إليه - الامل في أن يلفت الشعر اليهم، اذ يشيد باخلاقهم واعمالهم، نظر الخليفة فيوسع في صلاحياتهم او يرفعهم الى مراتب اسمى من التي كانوا فيها فيزداد بذلك جاههم وغناهم: وهو امر يزكو به الشعر والمال معاً ويتمول بالشعر في نطاقه الشاعر والممدوح ويحولهما كليهما الى طرفين في مبادلة ذات مظهر نفعي واضح.
ثم أن رأس المال والنشاط المالي محتاج الى الثقافة والفن من سبيل ثالثة حقيقتها انها جزء من علاقة العمل بالعقل ومن دور الجمال في إنماء المال: فالتاجر محتاج إلى أن يكون مثقفا وفناناً لسناً بليغاً: هكذا كان شأن تجار العرب قديماً، كما كانت البلاغة درساً ضرورياً لابناء ارستقراطية المال والأعمال منذ القرن السابع عشر بأوروبا. وقد مضى التاجر العربي - بثقافته وبلاغته لسانه - إلى ابعد مما بلغته رماح الفاتحين: مضى الى جنوب افريقيا وأقصى غرب اوروبا وجنوب شرقي آسيا فنشر ثقافة العرب وشعرهم في اقاصي الارض «12 % من مفردات لغة مدغشر عربية و 150 مخطوط من ديوان المتنبي منتشرة بين بلاد الهند والصين وفرغانة والبندقية ولشبونة وغيرها..» ولا يخفى عن حضراتكم ان نشاط المال والاعمال اليوم احوج من اي وقت مضى الى صياغة استراتجيا ثقافية لخلق عادات وحاجات استهلاكية سابقة للبضاعة او للخدمة المقدمة تهيئ العقول والاذواق وتمهد الاسواق بما يجعل الثقافة عملاً طلائعياً سابقا للنشاط الاقتصادي، مواكباً له ممكناً له حيثما اتجه.
وبهذا ننفذ الى امر هو مما نبتغي في هذه الكلمة ايضاً وهو أن بين المال والشعر تفاعلاً وتجاذباً لا يجعل احدهما ينجرّ عن الثاني ويتأثر به كما او نوعاً او كليهما فحسب، وإنما يجعلهما يتقاربان ويتماسان، فيكتسب الشعر البعض من ابعاد المال ويكتسب المال البعض من ابعاد الشعر ويكادان يتبادلان المواقع، بل ان القصيدة لتصبح في تخييل بعض شعراء الصناعة العالية «مالاً» وتوهم بحضور «نقدي» وتتحلى «بنمنمات» العملة «يكافئ» بواسطتها الشاعر صنائعه ويسدد بها ديونه، وهو معنى قول البحتري «طويل»:


اذا نحن كافأنكام عن صنيعة
أَنَفْنَا فلا التقصيرُ منا ولا الكفرُ
بمنقوشة نقش الدنانير يُنتقى
لها اللفظ مختاراً كما ينتقى التبرُ
توفي ديُون المنعمين ويُقتفى
لهم من بواقي ما اعاضتهم الفخر

هذا التخييل العملوي «Monetaire» للقصيدة يطمح الشعر بواسطته في الحقيقة إلى غاية ما يكون عليه قابلاً لان يصرف في مال ويترجم اليه « Monnayable» ويطمح الشاعر من رائه الى غاية التموّل بالشعر، ولهذا ينزع الى إحداث موازاة بين شعره ومال الممدوح ويستسلم لاغراء المقارنة والموازنة بين الشعر والمال او يتعمّده فيكسب الشعر خصائص المال ويجعله يسد مسده.
وان اقتراب الشعر من المال انما هو في الحقيقة انصياع لمبدأ مالي هو اقتراب جميع القيم من المال - بما في ذلك الفن والجمال - وامتثالها له وتلبّسها الكثير من طبائعه، هذا ما يجعل الشاعر في المدح ينعت نفسه بكونه «تاجراً سؤدداً» وينعت شعره بأنه «بيت مال» ويجعل المال الذي يناله بالشعر مالا «شعرياً» بمعنى ما، ويُكسب الشعر في نظره وظيفة مالية فتتمحّض علاقة المادح بالممدوح الى علاقة سامية يتبادل في نطاقها الطرفان هدايا رقيقة رفعها التّرف عن الحاجة بعيداً وخلّصها من معانيها، يقول ابو تمام في مدح حفص بن عمر الازدي:« طويل»:


وما كنت ذا فقر الى صلب ماله
وما كان حفص بالفقير الى حمدي
ولكنْ رأى شعري قلادة سؤدد
فصاغ لها سلكاً بهيّا من الرّفد
فما فاتني ما عنده من حبائه

وما فاته من فاخر الشّعر ما عندي.
في هذا المستوى من التعاقد بين الشعر والمال يصبح الجود حدثاً شعرياً والقصيدة حدثاً مالياً: بمعنى أن قصيدة المدح خاصة تحقق لقاء بين حالتي كرم - حالة كرم الممدوح وحالة كرم الشاعر - بما يجعلهما يلتقيان في الكرم ويختلفان في مادته: ذلك ان الجود كالشعر حال لها اوقات وفيها انفعالات وعلامات، والشعر حالة جود فيها ما يشبه ما في الحالة الاولى، فيكون التعاقد المشار اليه لقاء بين رجلين في حال اكتمال عالية:
وهو ما قد يعلل جزئياً ما يتجاوز العامل المالي في فهم اسباب الظاهرة المدحية، وهو امر نعترف بأنه لا يتم الا بين افراد قلائل من الشعراء ومن الممدوحين، وحقيقته ان «يعطي» الشاعر شعره كرماً - في مجتمع يدين في ثقافته الاساسية بالكرم - لبعض من يعتقد انهم يستأهلونه لان مال الشاعر شعره: وهو ما صاغه المتنبي في القرن الرابع صياغة جيدة اذ افتتح قصائده في ابي شجاع فاتك الرومي - وقد اهداه هدية عظيمة - بقوله مخاطباً نفسه «بسيط»:
لا خيل عندك تُهديها ولا مال
فليُسعد النطق ان لم تُسعد الحالُ
وإنه لمن الضروري، في تقديرنا الخاص، ان نحيي من خلال هذه الجوائز وهذه التشجيعات الكثيرة - ما ذكرناه منها ومالم نذكر لضيق المقام - كل من وقف وراءها ولايزال من اصحاب العزائم الصادقة والمبادرات النافعة، وان نجزل الشكر للحكومات والهيئات والمؤسسات والافراد على ما اسدوه ولايزالون من جليل الخدمات لثقافة هذه الامة، ولاسيما في هذا الزمان العصيب الذي يتغوّل فيه شبح الهيمنة متنكراً في زي العولمة متحلياً بحليها وبهرجها.. «ولاشك ان الجوائز الادبية والفنية والعلمية تعد ظاهرة ايجابية لانها تحاول ان تخلق مناخاً ثقافياً عاماً، اضافة الى تقدير المبرزين من الادباء والمفكرين وتشجيعهم، واستزراع قنوات فكرية وادبية جديدة.. ولذلك جعلت المؤسسات الثقافية الجوائز الادبية والفنية والعلمية من ضمن سياساتها واستراتيجياتها الآنية والمستقبلية».
ينبغي أن نحيي رجال المال والاعمال في مؤتمركم هذا، لانهم اوجدوا بين شواغلهم الاقتصادية - شواغل المال والاستثمار والنفط والغاز والكهرباء والاتصال والمعلومات - مكاناً للثقافة، واوسعوا لها في المجلس، وتفطنوا لما بينها وبين الاقتصاد من تكامل وترابط.وينبغي أن نقوم بهذا دون ان نغفل او نتغاضى عن تنبيه رجال المال والاعمال، في الخليج العربي وفي سائر اقاليم الوطن الكبير الى امور تبدو لنا أساسية عند الحديث عن «رأس المال العربي ودوره في تنمية الثقافة»: من هذه الأمور:
- ترشيد الخطاب الإشهاري، ضمن مختلف وسائل البث، ودعمه بكثافات ثقافية نوعية من شأنها تأصيل العادات الاستهلاكية وسلوك الشراء وتقليص الفجوة بين هوية البضاعة وهوية المستهلك.
- رعاية البرامج الثقافية في وسائل الإعلام والقنوات المسموعة والمرئية، وتبنيها واتخاذ ذلك وسيلة من وسائل التنويع في استراتيجيات الإشهار وخدمة الاقتصاد الوطني.
- بعث مرصد عربي للمأثورات الشعبية والادب الشفوي مدعوم بمركز البحوث والدراسات بما يهدف إلى حفظ الذاكرة القومية والتعريف بمقومات الهوية باستخدام احدث الوسائل وافضل الخبرات.
- إقامة صناعة ثقافية عربية عتيدة ترفد الاقتصاد، واعتبار الاستثمار في الثقافة فرصة لا مغامرة اقتصادية، والسعي إلي جعل الثقافة قطاعاً من قطاعات الاقتصاد المربحة وإقامة صناعات ثقافية، ووضع الصيغ والاليات الكفيلة بترويج المنتوج الثقافي الوطني وتسويقه في الداخل وتصديره الى الخارج - بعد ترجمته ودبلجته - واستغلال مختلف الحوامل العادية والرقمية لذلك «من الكتاب الى شريط الفيديو والسينما الى الوسائل متعددة الوسائط»، ذلك أن الاستثمار في الثقافة - بمختلف الصيغ التي جُرّبت، كالرعاية والجوائز، او التي لم تجرب بعد - بامكانه ان يدعم الاقتصاد وينوع فيه بما يحول منتوجات الفكر والوجدان الى حاجة استهلاكية ملحة وسلعة استهلاكية انيقة إذا ما وضعت له الخطط الإعلامية المحكمة واستغلت له وسائل الإعلام والاتصال الملائمة بما يوسع القاعدة الجماهيرية ويهيىء آفاق انتظار للمنتجات الاقتصادية والثقافية معاً او للمنتجات الاقتصادية التي يزدوج فيها الاقتصادي بالثقافي: وبهذه الكيفية يمكننا ربما قلب المعادلة التي كانت منطلق هذه الكلمة بالحديث عن «دور الثقافة في تنمية رأس المال» الى جانب الحديث عن «دور رأس المال في تنمية الثقافة».

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved