Saturday 25th october,2003 11349العدد السبت 29 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مفهوم «الدولة» في قاموس لغة الضاد مفهوم «الدولة» في قاموس لغة الضاد
عبدالعزيز السماري

لم يستطع العرب على مر العصور النفاذ من عقبات الأحادية والإقصاء والاستبداد، ولم يكتسبوا القدرة على التطور في لغة التخاطب، والانتقال من أساليب العنف والتكفير والتفسيق إلى رحابة الحديث بصراحة وبشكل مباشر عن العوائق التي تقف ضد تجاوز المراحل الحرجة في حياة «الدولة» في التاريخ العربي.
فقد ظلت خطابات الصراع على القوة تهيمن على بنية الخطاب الديني، ولا تزال مساحات أفئدة وعقول الجماهير الميدان الذي يتلاعب بذكائه وعواطفه وإرادته الرموز والقادة في تاريخ الصراع العربي، فالخطاب السياسي العربي سواء كان رسمياً أو معارضاً يعتمد على شيء واحد فقط، هو على قدرته على إقناع الجماهير المحتشدة في ميدان التاريخ على فسق وفجور وكفر الآخر المختلف، أي بمعنى آخر محاولة استغلال بساطة الإنسان وهشاشة وعيه للوصول إلى مآرب شخصية بحتة،.. خطاب متشابه لكنه كالسلاح ذي الحدين المتضادين تماماً، كان ولا يزال أهم أسلحة الصراعات السياسية في تاريخنا السياسي والثقافي..
إنهم يستغلون جهل الإنسان بتفسير النصوص وبمقاصد الأحكام الشرعية عندما يمررون رغباتهم بذكاء، فقد حمل علماء الخوارج سيف الخروج ضد السلطات المتصارعة تحت شعار مسؤولية تنفيذ حكم الله فيمن قتل إنساناً مسلماً متعمداً، واستثمر مثقفو المعتزلة الأوائل أحكام الفجور والفسوق لمعارضة السلطة الأموية غير الشرعية حسب موقفهم السياسي، ثم أخفوا متاريسها عندما اقتربوا من بلاط السلطان العباسي، كذلك فعل غلاة الحنابلة فيما بعد عصر المتوكل وما تلاه من عصور، حين توقفوا عن مضاهاة السلطان عندما اعتمد الخليفة رسمياً سلطتهم ومراكز قواهم في المجتمع، كما أدخل أنصار علي كرم الله وجهه المقدس في السياسي، ليتوه الإنسان في أزمان لم تعرف لذة الاستقرار، ويغيب في كهوف النسيان إلى أن تحتد لغة الصراع مرة أخرى، عندها ينفض الرموز عن كاهله غبار الإهمال، ثم يوظفونه ببراعة في جولات معارك الصراع السياسي على السلطة.
ويقترن توقيت الانفعالات أو الثورات الاجتماعية في تاريخ الشرق بتدهور الأحوال الاقتصادية، وباتساع الفوارق بين الفئات في المجتمع، وبتدني مشاعر الكرامة والحرية والثقة.. والأهم من ذلك ضعف رصيد خطاب الأخلاق عند السلطة، وهو ما يستغله متسلقو السلطة الجدد في بناء خطابهم الديني المعارض، والموجه باستمرار إلى رجل الشارع، فالجماهير لديها قدرة فطرية على تشخيص حالات التناقض بين الخطاب السلطوي ودلالاته في حال الواقع، وعلى تحديد علامات بدء اختلال موازين الثقة و«علاقة» المودة والمصداقية بينهما..
بمعنى أن الخطاب السلطوي في الثقافة العربية غير مباشر، فالرمز يحافظ على السلطة من خلال أخلاقيات الخطاب الديني، ويصل إلى مبتغاه ورغباته من خلال النصوص، وفي المقابل تخاطب رموز المعارضة باستمرار الرأسمال الديني الشعبي لتمرير أهدافها الذاتية، وتستغل اتساع الفروق والتباين الواضح بين قيم الخطاب النظري، والممارسات العملية لرموز السلطة.
ونحن كعرب في مرحلة يتحتم علينا بشجاعة تجاوز مشكلات الواقع في هذه المرة بالذات بنجاح، وبعيداً عن مصطلحات أزمة العقل العربي ك«حكم الثيوقراطيا» و«العقل والنقل» و«الفرقة الناجية»، و«الخوارج»، و«التأويل»، و«التفسير» وأهل الحديث، والطاعة بلا حدود، وأن نتناول قضايانا بصورة مباشرة تماماً، وأن نخرج من كهوف الخطابات الملتوية، ونقتنع بدءاً من مواجهة مشكلات الواقع بشفافية تامة، وتأمين حرية التعبير في مناقشة معضلة البطالة وأسبابها الحقيقية، ومقاومة الفساد وكيفية القضاء عليه، وشرعية أو قانونية حق الاختلاف مع السلطات في المجتمع هو.. أهم أساليب إصلاح تفكير إنسان الشارع البسيط، وأفضل السبل التي ستنقذ العامة من تضليل الخطابات المتسلقة على الهامش، ومن استغلالها لظروفه وآلامه ومشاعره في حروب الأقوياء والأذكياء السياسية، وهو ما يعني أن تصبح الجماهير في وعي يجعلها تدرك كيفية التعامل مع أزماتها المختلفة والمتجددة، ولكي يحدث شيء من ذلك، يجب إعادة النظر في تعريف الدولة في ذهنية العقل الشرعي السياسي.
فمفهوم الدولة في قاموس لغة الضاد مختلف، ومصدره مستمد من دال الزمان أي دار وانقلب من حال إلى حال، ويقال «دالت له الدولة» أي صارت إليه، والدولة «كمصدر» جمعها «دِوَل» و«دُوَل»، وهو ما يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لذاك، فتطلق على المال والغلبة، يقال «كانت لنا عليهم الدولة»، أي استظهرنا عليهم. ويقال «لكل زمان دولة ورجال» . ويقال «الدهر دول» أي لا ثبات فيه ولا قرار، والأمور كما عرفها العرب دول لا يدوم على حال لها شأن.. أما في اللغات الأوروبية فإن جذر «دولة» يتخذ معنى الثبات والديمومة
STATUS STATE, ETAT STAAT, STAND, STATIC
وبرغم من أن الدولة بالمفهوم العصري الحديث ليس لها جذور تاريخية في الفكر السياسي الإسلامي، إلا أن تاريخ دولة الإسلام بدأ عصره الذهبي بالوثيقة المعروفة باسم «دستور المدينة»،.. والتي كانت بمثابة العقد السياسي مع الطوائف والفئات المختلفة في المدينة، والذي أكد على أهمية إيضاح مبكر للكيان السياسي الإسلامي والمبادئ التي تحكمه، كما أرسى ذلك الدستور المبادئ العريضة لما يمكن تسميته بلغة العصر الحديث، «واجبات الكيان السياسي»، أي الجماعة السياسية أو الحكومة والسلطة أو السيادة ممثلة في حقوق وبنود ومبادئ تؤطر سلوك أفراده داخلياً وخارجياً، وتحدد واجباتهم وحقوقهم بوضوح، والدستور هو أهم وثيقة لتحديد العلاقة بين أفراد الكيان وأدوار الهيئات المخولة بالحفاظ على وحدة الدولة ومنعتها، وأيضاً الإقرار بشكل قانوني واضح لحقوق الإنسان أمام دستور الدولة ومؤسساته المستقلة «خالد محمد خالد، الدولة في الإسلام».
والعلة أو العنصر الأهم والمفقود في جسد الحياة السياسية العربية حسب تشخيص المفكر الفرنسي برتران بادي هو مفهوم «العقد الاجتماعي» في الحياة والحرية. فالدولة الأوروبية الحديثة قامت نتيجة عملية تاريخية أدت إلى ظهور مجال جديد في الحياة الاجتماعية هو مجال «السياسي»، أي خاص بالممارسة السياسية، والذي ينافس «السلطة» والدين. وقد ظهر هذا المجال نتيجة صراع طويل بين «السلطة» من جهة، والدين والشعب من جهة أخرى خلال القرون الوسطى، ذلك الصراع الذي كان من نتائجه ظهور نظرية «التعاقد» أو العقد الاجتماعي التي تقول إن سلطة الدين من الله، وبالتالي فهي الأعلى، بينما غلبة أو دولة الحكومة مستمدة من الشعب، وبالتالي فهي الأدنى.. وهكذا ظهر عنصر جديد، أو طرف ثالث، في حلبة الصراع بين السلطة والاجتهاد الديني، هو «الشعب» أو «المصلحة العامة» و«بناء شرعية السلطة على التعاقد»، مما أصبح يشكل مجالاً سياسياً جديداً هو «المجال السياسي» الذي يجسد ما يعبّر عنه ب«الحداثة السياسية»، الحداثة التي تتجسد بدورها في دولة المؤسسات التي ظهرت كنفي لدولة «السلطة» المطلقة.
ذلك ما حصل في أوروبا، أما بلاد الإسلام، فهي لم تعرف مثل هذه العملية التاريخية، وبالتالي لم تعرف قطيعة مماثلة بين «السلطة» والدولة، فكان الحاكم هو الدولة، والدولة هي الحاكم.. ليستمر «السياسي» في حكم الخارج من الدين عند السلطة، وتستمر السلطة في حكم الكافر بالدين عند المعارضة، وتستمر الجماهير مطية لمن أراد الغلبة أو «الدولة».

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved