Tuesday 4th november,2003 11359العدد الثلاثاء 9 ,رمضان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شدو شدو
انتبه (1-2)
د.فارس محمد الغزي

هل سبق لك أن (أحسست) بدوخة مفاجئة زرعت فيك الخوف والقلق مما جعلك - ظناً منك بخطورة أسبابها تسارع إلى الطبيب لتفاجأ به يخبرك بكل هدوء بأن عينيك بحاجة ماسة إلى نظارات جديدة..؟!
بل عفواً..! هل لاحظت أنني في السطر السابق قد وضعت كلمة (أحسست) بين قوسين..؟.. نعم لقد فعلت ذلك أملا بلفت نظرك بأن السبب الذي جعلك تصدر حكمك السابق/ الخاطيء بخطورة حالتك غير الخطيرة يتمثل في كونك سارعت فاعتمدت في ذلك على خبراتك أو أحاسيسك المباشرة.. بمعنى آخر لقد اعتمدت على (حسك المشترك: common sense).. أي إحساسك وهذا يشمل كل شيء عرفته وجربته وخبرته منذ أن حللت في هذه الحياة عن طريق حواسك المباشرة مثل سمعك وبصرك وذوقك وشمك ولمسك.
فلو تصفحت ملاحمنا التراثية لوجدت كيف أن فطاحلنا الأوائل قد طرقوا مثل هذه الموضوعات وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، فابن سيناء على سبيل المثال يؤكد في أكثر من مؤلف قصور وعجز الإدراك الحسي لبني البشر، بل إن الثعالبي يثبت في (فقه اللغة) أن الإحساس أو الحس بالشيء يختلف عن العلم به من حيث إن الحس هو «أول العلم بالشيء.. وهذا بالضبط ما حدث لك بالضبط حين أحسست فشخصت دوختك بالأمر الخطير ليخبرك لاحقاً العلم ممثلاً بالطبيب بحقيقتها غير الخطيرة.. وربما أن ذلك هو السبب ذاته الذي دفع بأجدادك العرب إلى أن تصوغ أمثالها ذات المضامين المتمحورة حول التبين والتثبت (والتأكد) من قبيل أقوالهم: «وراء الأكمة ما وراءها.. ما كل بيضاء شحمة ولا كل سوداء تمرة.. ما كل ما يلمع ذهباً.. وقد صدقوا في ذلك من حيث إن الإدراك الحسي المباشر لدى الإنسان أضعف من زن يصل أو يبلغ به إلى حيث الحقيقة استدلالاً بأن العلم الحديث يؤكد الآن بأن المعرفة الإنسانية مقيدة بل مكبلة ومنتهكة من قبل ما يعرف ب«الحس المشترك».
ومما يؤكد خطورة الخطل في الحس المشترك ما يتمثل في الحقيقة المؤكدة علمياً بأن الإنسان يعتمد على حاسة البصر في تمييزالأشياء أكثر من اعتماد على غيرها من الحواس الأخرى فلا غرو أن يقول الشاعر العربي القديم (قد كادت الأعيان يكذب حسها... والأوليات السوابق تجهل)، كذلك قد يكون القصور الأزلي للحس المشترك لدى الإنسان هو السر وراء شهرة العديد من الشعراء والمفكرين والقضاة عبر تاريخنا التليد، ومن ضمن أولئك القاضي إياس علي سبيل المثال وغيره من ذوي الحدس القوي والبديهة العجيبة.. والذين حظوا بالشهرة ربما لكونهم قد تجاوزوا حدود خبراتهم المباشرة حين تفسير الغامض من مواقف الحياة حيث لم يكتفوا بالتوقف عند حدود أحاسيسهم المشتركة الخاطئة في الغالب، فالإدراك الحسي يؤدي، كما يؤكد ذلك نصاً العالم الأندلسي ابن البناءة: «إلى ضروب من الخداع، وفنون من الأوهام وأصناف من الاعتبارات؛ ومن أن يعزز بالفكر والروية باعتماد على اللزوميات العقلية لرفع الخداع وابعاد الأوهام وضبط الاعتبارات» (ص54).
.. في المقالة القادمة أن شاء الله شدو آفادت الحس المشترك عن طريق استعراض أمثلة له من واقع الحياة..
هامش: انظر ابن البناء المراكشي «مراسم الطريقة في فهم الحقيقة من حال الخليقة»، تحقيق عمر أوكان، مطبعة إفريقيا الشرق، المغرب، 1995.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved