Monday 17th november,2003 11372العدد الأثنين 22 ,رمضان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مجتمع المعرفة مجتمع المعرفة
د. عبدالرحمن الحبيب

وفيما معارف زمن ما بعد الصناعة تدلهم في تيارها الجارف، وتتفتق براعمها من كل غصن بهيج، وتتشابك رؤاها، يتعاظم نفوذ المعرفة وأدواتها ووسائلها وأساليبها الجديدة حتى تتوازى مع نفوذ الاقتصاد وتلتحم معه.. تآزره أو تثبطه! ولذلك تنامى تداول مصطلح «مجتمع المعرفة» في بعض أدبيات الفكر الإصلاحي الجديد، ولكن قلّما يتم تناول طبيعة المعرفة كمنتج اجتماعي.. لقد انتقل كثير من المجتمعات من طبيعته الصناعية إلى ما يسمى مجتمع ما بعد الصناعة أو مجتمع المعلوماتية، مفرزاً فكراً اجتماعياً وسسيولوجيا معرفية جديدة، تتمثل في تفجُّر المعلومات مصاحباً بوسائل وأدوات إنتاج معرفي تتصف بالتجدد المتسارع والمتنوع والقابلية الفسيحة للنقد والاعتراض.. ففي هذه المجتمعات يتزايد اعتماد كثير من المنتجات والأعمال والخدمات على التقنيات الجديدة للمعرفة (المعلوماتية، البرمجيات، الإنترنت..) لتصبح أهم الموارد الجديدة. فمثلا، أقراص أو شرائح المعلوماتية والكمبيوتر التي تزود بها الطائرات والصواريخ تشكل 95% من قيمتها رغم أنها مجرد رقائق سيليكون لا تساوي شيئاً كمنتج مادي (إبراهيم غرايبة)، فهي منتج معرفي صرف.
وفي السياق ذاته (تبدل أدوات ووسائل المعرفة)، تغيَرَ دور وأداء المصنع الحداثي التقليدي المعتمد على العمال والآليات التقليدية الميكانيكية.. وتغير نمط وطبيعة:
المكتبة، الأسواق التجارية، أسواق الأسهم، التعليم، الإعلام، الاتصال، السياحة..الخ، وبالتالي تغير دور وأداء المجتمع والدولة. وصاحب ذلك زيادة نفوذ الشركات متعددة الجنسيات، وترسخ أنماط العولمة وما تبعه من تقليص دور الدولة القومية ودور النقابات والمؤسسات المحلية.. فعلى سبيل المثال أصبح بعض القوانين التقليدية التي تصدرها الدول الصناعية لحماية اقتصادها القومي عديم الفائدة أو يأتي بمردود عكسي، لأن هذه الدول تستورد قدراً متعاظماً من وارداتها التي تنتجها فروعها الأجنبية في الدول الأخرى مما يؤثر على الشركات الأمهات في الداخل!
بالمقابل يعاني واقعنا العربي من تركة قرون سابقة من التبعية والتخلف والجهل وانتشار الخرافات وتوقف العقل عن إبداعه. ويعاني الفكر ممثلاً بالكتاب والأدوات الجديدة لإنتاج المعرفة من المنع وإجراءات بيروقراطية معيقة لنشره، إضافة لضعف القوة الشرائية للقارئ العربي. وتفتقر مؤسسات التعليم والتربية إلى برامج وحصص محفزة للمطالعة والقراءة وإنتاج المعرفة. فيما التيارات الفكرية في المجتمعات العربية يضعف فيها الطابع الاحترافي واحترام البحث العلمي وتطبيقاته العملية، من برامج عمل ومشاريع تنفيذية ومشاركة فعَّالة مع مؤسسات المجتمع وتنظيماته؛ في الوقت الذي تمجِّد فيه الخطابية والشعار والعصبية الفئوية وينصب جلّ توجهها للسياسة بمعناها الضيق أو حصر مفهوم الإصلاح بتغيير أو تطوير السلطة وقراراتها الفوقية، وقلّما تشمل أبعاداً أكثر عمقاً كالقدرات البشرية المجتمعية وتطوير المهارات المعرفية وطريقة استخدام هذه القدرات.. إنه ما اسميه سسيولوجيا الفشل المعرفي!
موروثاتنا من وسائل إنتاج وأنماط معيشة وسلوكيات وثقافة شفهية تنتمي إلى طبيعة رعوية أو شبه ريفية تعتمد على الاقتصاد الريعي وتلك تفرز نشاطات تختلف عن ما يفرزه المجتمع الصناعي ناهيك عن المجتمع الما بعد صناعي. فحياة البدو أو مزارعي الواحات في الصحراء التي نرث كثيراً من قيمها، طابعها الاقتصادي مكتف ذاتياً ينعدم فيه التخصص والمنافسة الإنتاجية بين الأفراد، فالأفراد يتشابهون في المعرفة والخبرات، ودوافع العمل فيه ليست اقتصادية إنتاجية بقدر ما هي شعور بالمسؤولية الجماعية وتقاليد مرتكزة على اعتبارات قرابية أو أخلاقية مع الافتقار للتنظيم والاحتراف والحرية الفردية واحتقار للمهن والفنون. واقتصاد الريع القائم حالياً في أغلب الدول العربية النفطية (وفي كثير من البلدان العربية الأخرى) يشجع على الإنفاق والاقتناء وليس على الاستثمار وتنظيم الإنتاج.
لذا لا نزال نعاني انفصاماً بين الفكر والواقع رغم ظهور العديد من المجتهدين الأفذاذ من مفكري ودعاة التجديد والتنوير الذين تمكنوا من تشخيص كثير من الأزمات، لكنها تظل محاولات فردية مبعثرة لم تتبنها مؤسساتنا الاجتماعية والسياسية أو لم تر حاجة لتبنيها، خاصة مع الافتقار لوسائل وأدوات الإنتاج المعرفي الجديد في مجتمعات مازالت بنيتها التنظيمية والاقتصادية هشة. وأغلب الأطروحات الفكرية داخل المجتمعات العربية تنطلق من رؤية لا تاريخية لأبعاد الزمان والمكان وتبدُّل المراحل، ومن تفسيرات مغلقة لنصوص نظرية تسمو على الواقع مع ما يصاحبها من شعارات جميلة هي للأدب المتخيل أقرب منها للواقع المعاش. وفي ذلك بُعد حضاري لمكانة اللغة في الخطاب والمجتمع العربي ذي نمط الاقتصاد الريعي، وبالتالي سمو هذا الخطاب فوق الوقائع. مثلاً، شاعر القبيلة القديم كوسيلة إعلامية ومعرفية، حين يمجد قبيلته وأخلاقياتها لا ينطلق من حقائق قدر انطلاقه من لعبة لغوية فخمة بديعة تعلي شأن قبيلته، فالصراع أو التنافس بين القبائل لا تجديد فيه على أرض الواقع بل التجديد ينبع من الخطاب والخيال الجمالي، لأن البيئة الصحراوية بريعها ثابتة وغير مسيطر عليها وهي كما هي دون تغيير، وبالتالي فإن أنماط المعيشة وأخلاقيات القبائل كما هي دون تبدل؛ فساحة التنافس، إذن، ليس الواقع الثابت زماناً ومكاناً إنما المتخيل المتنوع. وعدم التجديد في ذلك الواقع يعني أن دورة الزمان وتنقل المكان لا أثر فيها لتنامي اكتساب المعرفة وتجددها أو للتغير الاجتماعي أو تطويره ومن ثم تنبع الرؤية اللاتاريخية للأحداث والوقائع، وتتجسد الريبة من التطوير والتغير.
إن ضعف القدرة الاقتصادية الصناعية المنتجة في مجتمعاتنا العربية الحالية يكرِّس اختلال علاقتها مع الإبداعات العلمية والثقافية. فالعلاقة بين اكتساب المعرفة والتنمية الاقتصادية علاقة تكافلية اندماجية، أي مع تحسن ظروف اكتساب المعرفة تنشأ أوضاع تسمح بنمو الاقتصاد، الذي بدوره يؤدي إلى إنتاج معرفة جديدة التي بدورها تحفز العملية الاقتصادية..وهكذا في صيرورة جدلية. لذا فإن تعافي النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج أمران أساسيان لقيام نهضة معرفية عربية، كما أن نهضة المعرفة شرط ضروري للنمو الاقتصادي. ولا بد أن يصاحب ذلك استقلال المعرفة عن المجال السياسي لإقامة مجتمع المعرفة، ولتكون المعرفة بمنأى عن الإعاقة البيروقراطية وعن لعبة السياسة وانتهازيتها وولاءاتها المتقلبة، ولكي لا يقع الباحثون العرب والمؤسسات العلمية فريسة للتكتيكات السياسية..
ناهيك عن أن وضع القيود على البحث الفكري والعلمي من شأنه أن يكبل النشاط العقلي ويخمد الإبداع. وفي كل الأحوال، فإن استقلال المعرفة وحرية اكتسابها ينبغي أن تصان بتشريعات فعَّالة ومحترمة.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved