Tuesday 2nd december,2003 11387العدد الثلاثاء 8 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الثوابت والمتغيرات في مواجهة التفجيرات..؟ 1/2 الثوابت والمتغيرات في مواجهة التفجيرات..؟ 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل

تمر الأمم في محطاتها التاريخية بلحظات حاسمة: توصف تارة بالمبادرات الانسيابية، وتارة أخرى توصف بالمخاضات الابتسارية، وهناك فروق دقيقة بين الحالتين، لا يفهمها إلا الراسخون في علم السياسة.
وقد تفاجىء الناس حالات ولادة متعسرة، تأتيهم بياتاً أو هم قائلون، وكل ظرف عصيب يواجه: إما بالمستطاع من التقدير والتدبير والحلم والأناة واختيار الأيسر، وإمّا بالصلف والعنف والتطرف، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وحين تصاب الأمة بنازلة مذهلة، تتفرق بجماعاتها الطرق، فتبلى بالمراء الظاهر والباطن أو بالتنازع والتفرق، {وّإذّا أّرّادّ اللهٍ بٌقّوًمُ سٍوءْا فّلا مّرّدَّ لّهٍ} وفي مثل هذه الظروف المذهلة يجب أن تتفادى الأمة التخبيص والرجم بالغيب، والناجون من مثل هذه الأوضاع من يبادر عقلاؤهم إلى الالتفاف حول بعضهم، والتبصر في أمورهم، والحيلولة دون الارتباك، ولا تتحقق النجاة حتى تلتزم عامتهم ما تخرج به المطابخ السياسية والدينية فالعصر عصر مؤسسات وليس عصر أفراد، والنوازل قد تخلط الأوراق، وتعرض ثوابت الأمة إلى التصدع، ولاسيما أننا أمة مسلمة، علمها دينها كيف تواجه المصائب، وكيف تتفقه في الدين، وألزمها التفريق بين الأركان والواجبات والسنن والمباحات، فكان أن بني الإسلام على ثوابت، لا يجوز المساس بها، ولا الاجتهاد معها، وقد قيل :« لا اجتهاد مع النص» ويعنى به قطعي الدلالة وفي المقابل أحيطت تلك الثوابت القطعية بمتغيرات، يحكم بها ذوو العلم والحجا، تجلت في مساءلة الرسول صلى الله عليه وسلم لرسوله «معاذ» رضي الله عنه، بم يحكم، وباستفتاء القلب، وما يحوك به من إثم، وما يطمئن إليه من بر، وبدراية الأمة بأمور دنياها، والأمة الإسلامية لها ثوابتها التي لا تحيد عنها ولو وضعت الشمس في يمينها والقمر في شمالها، وحين يدير ذوو الشأن والاختصاص كؤوس المعرفة والرأي حول القضايا المصيرية، ويضطرون إلى نقض البنية وإعادة تأسيسها، يجب عليهم أن يفكروا بالقدرة الذاتية على فهم الشيء ونقيضه: الذات والآخر، ماذا نريد؟. وماذا يراد منا؟ فلم نعد أهل قرية مسوَّرة، لا نحتاج إلى سوانا، ولا يحتاج سوانا إلينا، وحين نتقحم متاهات الفكر، ومضلات السياسة، وأعماق الدين، ونوغل فيها بعنف، دون أن نؤسس لأنفسنا معرفياً، يستخفنا المتربصون فنطيعهم، ثم نفقد مع الأشياء الذوات، بوصفها منتمية إلى شيء لا مزايدة عليه.
وما من شيء إلا وله ثوابته، فللسياسة ثوابتها، وللدين ثوابته، وللتربية ثوابتها، وللاقتصاد ثوابته، وليس من مصلحة الأمة أن يتهافت غير أولى المعرفة والتجربة والاختصاص على القول في القضايا المصيرية، وليس من مصلحتها أيضا أن يلوذ المقتدرون بالصمت، بحجة الأجواء الملوثة والانفلات الفكري، فكل مقتدر راع، وكل راع مسؤول عما استرعاه الله عليه، والقول في الدين مسؤولية كفائية، وهو قائم على التفصيل وعدم التفريط، والأزمات تقود إلى النجاة أو إلى الهلكة، فإذا تلقَّى الراية أهل الحل والعقد، تفادت الأمة الهلكة، أما إذا بادرها سواهم تحت شعارات الغوغائية التي ألحقت الضرر بالأمة فإن الطريق سيؤدي إلى الهاوية.
ولأننا نتحدث في ظروف عصيبة، وحول قضايا مهمة، ولأن الإسلام بحسب للأولويات حسابها، فإن أولويات الثوابت في هذه الظروف:-
- «الدين» و«السلطة» و«المرجعية»، ف«لا دنيا لمن لم يحي دينا»، وليس هناك أمن بدون سلطة قوية عادلة مطاعة، تأطر على الحق، وتمتلك العزمات، وليس هناك اجتماع كلمة دون مرجعية علمية شرعية محترمة حاسمة للخلاف، يصار إليها، ويذعن لها، تلك هي أهم الثوابت في قضايا التنازع السياسي والفكري والديني، وهي مجتمعة أو متفرقة لا تؤدي رسالتها، ولا تحقق مقتضياتها على الوجه الأكمل إلا إذا تفادينا «الغلو» في الدين، وتحامينا «التصنيم» للسلطة، واتقينا دعوى «العصمة» للعلماء، وإلا إذا أوغلنا في كل ذلك برفق فالإفراط والتفريط نقيضان مهلكان، والوسطية هي السمة الإسلامية المنجية، فالله لم يجعل علينا في الدين من حرج، ولم يكلف نفساً إلا وسعها، ولم يعصم إلا رسوله: {وّاللَّهٍ يّعًصٌمٍكّ مٌنّ النّاسٌ} ولم يجعل أحداً فوق المساءلة {وّقٌفٍوهٍمً إنَّهٍم مَّسًئٍولٍونّ}، والسلطة بشرية لها وعليها مسؤولية وغير معصومة، وهي أحوج إلى الاستشارة والاستخارة والمناصحة والمعاضدة والرد عن الظلم والتسليم لشروط البيعة الإسلامية أو الدستور المتفق عليه، فمن اختار «الديموقراطية» وحاكمها بالفكر السياسي الإسلامي، وقع في المتناقضات، ومن اختار السياسة الإسلامية وحاكمها بالفكر العلماني أو «الديموقراطي» فقد وقع في الفتنة، والممارون في القنوات الفضائية يتقحمون «استديوهاتها» دونما تحديد للمرجعية، ودونما تأصيل للقضايا، ودونما تحرير للمسائل، ودونما أهلية لتبادل الآراء، ولهذا يقع المتلقي في دوامة من الشك لا تزيده إلا إمعاناً في الضياع.
والعلماء الربانيون مطالبون بالاجتهاد أمام النصوص الاحتمالية الدلالة والثبوت وبين يدي النوازل، بعد استكمال مسوغات الاجتهاد كما ساقها الآصوليون، والخطأ في الاجتهاد متوقع، وإذا توفرت آليته وإمكانياته وشروطه ودواعيه، ثم مارس العلماء حقهم فيه وأخطؤوا، كان لهم أجر الاجتهاد، وإذا أصابوا جمعوا بين أجري: الاجتهاد والصواب، وهذا الوعد الرباني للمجتهد الذي لم يحالفه الصواب ترغيب في الاجتهاد، وحث عليه، ودفع للتحرج والتردد، ومن تجمد في مذهبية، أو سلَّم لطائفية، أو أذعن لحزبية فقد أوقف حركة التاريخ، والغى حقه ووجوده الطبعي، ومن تقحم مضائقه بدون أهلية جنى على المقتدين به والمفتي المخالف للإجماع مجتهد، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد صدَّع تلاحم الأمة واستزل الرِّجال الجُوف، وحين يكون المتبني للقضايا الفكرية أو الدينية أو السياسية من العامة، فليسعه ما وسع الخاصة، وليس من حقه حمل الناس على ما هو عليه، وليس من حقه القطع بخطأ الآخر والعمل على توهينه، فالمقلد لا مزيد على تقليده، وليس له إلا الامتثال، لأنه غير متفقه، وإنما هو متلقٍّ، ينذره الذي نفر للتفقه في الدين، ومن تقحم مضامير الاجتهاد والدعوة والإفتاء، فليعدَّ لها عدَّتها الباهظة التكاليف، ومن لم يعرف أسلوب المراجعة والنقد والمساءلة مع العلماء أو مع السلطة أخل في أدبيات الحوار، وصار ضرره أكبر من نفعه، ومن نظر في سلامة «الغاية» فعليه أن يتقن مشروعية «الوسيلة»، بوصفها آلة توصيل ومسؤولية، فالإسلام لا يرى مقولة: «الغاية تبرر الوسيلة»، ولهذا فإن قائل الحق أمام «دال» و«مدلول» وسلامة أحدهما لا تبرر الآخر، فالكلمة اللغوية بوصفها وسيلة/ دالٌّ، لها ضابطها: النحوي والصرفي، والإملائي والتركيبي، والمضمون «مدلول» له حكمه في المشروعية والحظر، ومن ثم لابد من مشروعية «الدالِّ» و«المدلول»، ولا تتحقق الثوابت المشار إليها إلا ب «الالتزام» و«الهيبة» و«الاحترام» التزام الدين كما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: «تركتكم على المحجة البيضاء..» وهيبة السلطان، المجمع على شرعيته، واحترام العلماء المشهود لهم بالعلم والاستقامة، ومتى مُيِّع الإسلام، وأصبح كل شيء مباحاً باسم حرية التفكير والتعبير، وتمرد العامة على السلطة باسم حق التعبير عن الرأي، وأصر كل ذي رأي على رأيه بحجة «نحن رجال وهم رجال»، حلَّت الفوضى، وفقد الأمن، فالتسامح وحرية التفكير والتعبير وحق الاجتهاد مشروعة بضوابطها ومؤهلاتها وحقها، والأحداث التي تعصف بالأمن والاستقرار، امتحان لوعي الأمة، وجس لتماسكها، واكتشاف لقدرتها على احتمال البلوى، وتصرفها في ساعة العسرة {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ}، وما الأحداث إلا تحديات تؤثر على كل المقدرات والمكتسبات، والعامة يواجهونها على كل مستوياتهم وحقهم في التصدي بمواقف مختلفة، وقد يستزل الهوى والشيطان من لم يحسب للعواقب حسابها، فلا يذعنون لشرعية، ولا يرجعون لمصدرية، ولا يسألون أهل الذكر، ومن ثم يواجهون النص القطعي الدلالة والثبوت الذي لا اجتهاد معه بحداثة سن وضحالة معرفة.
والتلاسن الكلامي حول الثوابت والقطعيات يفضي بالأمة إلى خلل ذريع، يفوق بأثره السيئ أثر الحدث، فالحدث غالباً ما يكون مادياً ينتهي بلحظته، ولكن الاختلاف الفكري والديني والسياسي غير المنضبط يمتد أثره، ويتجذر، ويشكل طوائف وأحزابا، ويدخل بالأمة في دوامة الصراع الفكري والديني، وتغييب دور الثوابت ووظائفها يسهم في تطوير الخلاف وتأليه الهوى، ليشكل طائفية مقيتة، وحين تتشرذم الأمة تصبح البلاد مليئة بالعبوات الناسفة، لتكون ورقات ضغط بيد اللاعبين الكبار، وكم من دولة تفرق شعبها بين قبليات متوترة، وطائفيات قلقة، وحزبيات متحفزة، وإقليميات متدابرة، بحيث شكلت هذه التكتلات ثغرات نفذ منها الأعداء، مما اضطر الدولة المصابة بهذا الداء العضال إلى تحييد اللاعبين الكبار بتنازلات مصيرية تمس الثوابت والحريات وحق تقرير المصير، وما يعانيه العالم من إرهاب عنيف منظم ليس شرطاً أن يكون ناتجاً محلياً، ذلك أن أساليب الضغط والمساومة والتسلط تمارس كل شيء في سبيل تحقيق المآرب.
والذين يحيلون إلى «الدين» أو إلى «المناهج» أو إلى «حركات الإصلاح» أو إلى «اختلاف السلطة مع الأمة» أو يلمحون إلى «جامعة» بعينها، يواطئون الناقمين على الإسلام المصرّين على إجهاض مشروعه، وإن لم يستشعروا هذه المعية، والمتابع لفيوض القول يدرك أن اللعبة محكمة، فالإسلام أصبح المتهم الأول، ولم يتنبه ذووه إلى المكيدة الحاذقة، بل ظلوا يرددون ببلاهة ما تردده الوسائل الغربية المناوئة، وإذا حصل اعتداء وحشي دموي همجي، لا يعرف بالتحديد فاعله، ولا تعرف دوافعه، ولمّا تحدد قضيته، فإن واجب العامة ألا تخوض فيه، وألا تتعجل معرفة الفواعل والدوافع والنتائج، لأنها إن فعلت ذلك ثبطت عزمات أهل الحل والعقد، ومهما تفاوتت الآراء فإن:-
- الإخلال بالأمن القائم والمعاش جريمة.
- وقتل الأبرياء: مسلمين أو مستأمنين جريمة.
- وتصفية الاختلاف في وجهات النظر بالسلاح جريمة.
- والطعن في أمانة العلماء وكفاءتهم جريمة.
- ومنازعة السلطة المجمع على شرعيتها جريمة.
- والتسليم لحكم إسلامي ثم محاكمته على ضوء أنظمة وضعية جريمة.
- واستفزاز الرأي العام بالتطرف الديني أو العلماني جريمة.
وهذه الجرائم دركات، فحرمة المسلم تفوق كل حرمة، واختلال الأمن رأس كل خطيئة، والفراغ الدستوري ذروة كل بلية، وللحديث بقية.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved